لا أحد قرأ فنجاني..
إلا وعرف أنكِ حبيبتي
لا أحد درس خطوط يدي
إلا واكتشف حروف اسمكِ الأربعة
كل شيءٍ يمكن إخفاؤه
إلا خطوات امرأة تتحرك في داخلنا
«نزار قباني»
******************
تطلعت سيلين إلى الحقول الخضراء بشرود، تحاول الانشغال بذكرياتها عن آلام معدتها الخاوية. عاودها حنقها على آدم، لقد تعمد استغلال نقاط ضعفها لكنّه لا يعرف أنّها قضت أيامًا مشابهة لهذا، لا يعرف عن الفترة التي قضتها في ذلك الملجأ البشع الذي كانت حبيسته لسنتين وعاشت فيه أسوأ ما يمكن أن تعيشه طفلة في الثالثة عشر. كانت تُعاقب إن أخطأت أو توهمت المشرفات أنّها أخطأت، على أقل هفوة. سنتان من الجحيم مرتا عليها، نسمة الرحمة الوحيدة في ذلك الجحيم كانت بيير، لولاه لاستسلمت لليأس ولرضخت لوسواسها ووضعت حدًا لحياتها.
بعد سنتين كانت على استعداد لفعل أي شيء للتخلص من جحيمها ذاك، كانت مستعدة لدفع روحها ثمنًا مقابل خروجها وهذا ما فعلته. حين أتى ذلك الرجل وقدم طلبًا لبتنيها لم تفكر لحظة، لم تهتم للخوف الذي ملأ قلبها ناحيته ولا لنظرة عينيه التي كانت تشبه نظرة شيطان قدم ليقايض روحها مقابل حريتها. تجاهلت النداء المتوسل داخلها أن تهرب بعيدًا عن الملجأ وعنه. تذكرت بقشعريرة كل مرة حاولت الهرب لينتهي بها الأمر معاقبة بأسوأ طريقة وبيير نفسه بعدما أصبح صديقها شاركها مصيرها بالعقاب بل أحيانًا ما كان يُغطي عليها ويُعاقب بدلًا منها. هو أيضًا لم يرتح للرجل حين رآها وحذرها منه لكنّه كان فرصتها للهرب من ذلك الجحيم.
مسحت الدموع التي غافلتها بقوة، لو كانت تعرف أنّها في طريقها لجحيم أسوأ هل كانت طاوعت نفسها وهربت تلك الليلة حين أتى ليأخذها؟ أغمضت متنهدة بحرارة، كان قدرها وهي صارت في الطريق الذي كُتب عليها منذ هربت من قتلة والديها وكادت تموت غرقًا في النهر وحين استيقظت لتجد نفسها بمشفى صغير بعد أن أنقذها أحدهم. أخبرتهم أنّها لا تتذكر شيئًا سوى اسم واحد ربما كان اسمها. كانت تموت رعبًا من أن يجدوها، لم يكونوا سيقتلونها بل كانوا يعدون لها مصيرًا أسوأ كما سمعته وهو يتوعد أمها.
كان عليها ألا تجعلهم يعثرون عليها كما أوصتها أمها حين احتضنتها مودعة في لحظاتهما الأخيرة معًا. أخبرتها ألا تخبر أحدًا هويتها الحقيقية ولم تفهم هي لماذا ولم تجد الوقت لتسألها حين اقتحموا البيت. لحظتها أخفت أمها وأوصتها بالهرب إن حدث شيء، أخبرتها أين تذهب وهي أومأت باكية لتحضنها مرة أخيرة وتقبلها باكية وتغادر. تتذكر كيف احتضنت نفسها في الخزانة الصغيرة تبكي بصمت والأصوات المرعبة في الخارج تزيدها ارتجافًا. أرادت بشدة الالتزام بوصية أمها لكنّ صوت الرصاص ثم صرخة أمها الملتاعة جعلتها تنتفض وتغادر مخبأها. اندفعت نحوها أمها التي تصرخ اسم والدها بانهيار ووقفت متسعة العينين تتطلع فيها جاثية على ركبتيها تهز جسده الهامد وأسفله بركة دماء. خانتها ركبتاها فسقطت بجسد مرتجف ودموع مذهولة، ذهلت عن الجميع ولم تفهم ماذا حدث حين اندفعت أمها تحتضنها بقوة فتشبثت بها بينما أمها تدفع بذراعها الأيدي التي امتدت تحاول انتزاعها منها.
لم تتغلب أمها عليهم ونجحوا في تفريقهما وصرخت بجنون مقاومة الرجل الذي قيدها بذراعيه بينما سقطت أمها بصفعة قاسية من آخر. صرخت تناديها بينما تنقل بصرها بينها وبين أبيها الساكن، وحاولت عض الرجل الذي يقيدها بينما تندفع أمها على ركبتيها لتركع أمام أحد الرجلين اللذين يأتمر البقية بأمرهما. سمعتها برعب تناديه أخي وتنحني باكية تقبل قدميه تتوسله أن يرحم طفلتيها.
شقيق أمها! ذلك القاسي عديم القلب كان شقيق أمها، ومع ذلك لم يرحمها. دفعها بقسوة غير آبه لدموعها وتوسلاتها الحارقة، رماها بكلمات أشد قسوة ثم غادر ببرود بعد أن رماها هي بنظرة جمدت الدم بعروقها بينما صورته القساية حُفرت بمخيلتها وقلبها الذي شاب في ثوان. غادر تاركًا أمها راكعة تحدق بذهول إثر خيال شقيقها الذي اختفى وبدا كأنّها فقدت كل شيء واستسلمت لمصيرها. تلوت بجنون تناديها لكنّها ظلت تنظر لجسد زوجها الميت بخواء قبل أن تنتفض بفزع حين انحنى الرجل الآخر ليهمس شيئًا في أذنها.
كان شيئًا يخصها هي لأن أمها نظرت نحوها برعب واندفعت بعدها إليها تصرخ بحرقة ورفض ليوقف أحدهم اندفاعها وشدها بعيدًا فمدت ذراعيها صارخة
«اهربي يا سديم، اهربي. أنت لن تؤذيها يا شوكت، لن تؤذي ابنتي أبدًا... سديم»
ضحك بشر واقترب ليمسك بفكيّها بقسوة
«أهي ابنتكِ حقًا؟ من تخدعين يا رُقية؟ أتعتقدين أنني لم أعرف بعد ابنة من هي؟»
اتسعت عيناها بخوف وهي تنظر نحوها بينما تابع بسخرية
«أعرف أنها ابنة فاروق رضوان، أنا وعزت لسنا هنا من أجلكِ أنتِ وذلك الحقير فقط، نحن هنا من أجلها أيضًا»
توقفت هي عن المقاومة مع كلماته، ومع التفاته نحوها والنظرة الشيطانية التي رمقها بها وهو يواصل
«لا تخافي، لن أقتلها. أنا أعد لها مصيرًا أفضل بكثير»
صرخت أمها بشراسة
«لا تفعل، لا تؤذي ابنتي يا شوكت. لن أغفر لكما أبدًا إن آذيتماها. لا»
تمتم ببرود شديد وهو يشير لرجاله
«لسوء حظكِ... حيث ستذهبين، لن يكون باستطاعتكِ فعل شيء... وداعًا»
صرخت بجنون ورعب
«أمي... ابتعدوا... ماذا تريدون؟ لا، توقفوا... ابتعدوا عن أمي... لا»
امتزجت صرخاتها بتوسلات أمها قبل أن تتوقف صرخاتهما معًا. تجمدت هي بذهول تنظر لأمها التي رفعت كفًا مرتجفة نحو عنقها الذي سالت منه الدماء وتعلقت عيناها الباكيتان بها قبل أن تسقط جوار جسد أبيها وتمد يدها لتحتضن يده بضعف، وعيناها تعلقتا به بنظرة فتت قلبها قبل أن يبهت نور الحياة داخلهما. ارتجفت هامسة وجسد أمها يسكن تمامًا ودمها يمتزج بدم أبيها
«أمي... أبي. لا تذهبا، لا تتركاني وحدي... لا»
شدها أحدهم للخلف بينما شوكت ينظر حوله ببرود ثم أمرهم
«أحرقوا كل شيء»
صرخت مقاومة بعنف
«لا... لا... أمي... أبي... لا تفعلوا... لا»
هتف بحدة يأمره أن يخرسها لتشعر بضربة عنيفة على مؤخرة رأسها جعلتها تشهق بألم، مدت يدها نحو والديها بضعف تناديهما قبل أن تظلم الدنيا وينتهي كل شيء.
****
فتحت عينيها تنظر للأفق الممتد من بين دموعها، لن تنسى أبدًا مهما مرت بها السنين. لأكثر من خمسة عشر سنة وذلك المشهد يطاردها، سلّمت روحها لذلك الرجل فقط لتعثر على قتلة أبويها ذات يوم. كان عليها الانتظار لسنوات أخرى حتى تحصل على انتقامها، كان يجب أن تكون أقوى وأصلب، كان يجب أن تموت سديم وتولد سيلينا، ذلك الاسم الذي انتحلته حين استيقظت في المشفى، ولم تعرف أنه سيرافقها وسيصبح هويتها لسنوات طويلة. لسنتين بالملجأ كانت سيلينا فقط وحين غادرته كانت تحمل هوية جديدة حملت اسمه الرجل الذي اشتراها... كارل فرانسيسكو.
حين غادرت معه إلى قصره بجزيرة كورسيكا كانت على موعد مع عالم آخر وحقيقة أخرى من ماضيها الذي أخفاه عنها أبويها بالتبني. كارل كان يخيفها، لكنّها تعلمت مع الوقت كيف تتحكم بمشاعرها وهو كان يعاملها كدمية من البلور أحيانًا وأحياناً أخرى يقسو عليها بشدة. عرفت ماذا يريد أن يصنع منها ولم تمانع، تخبطها وصدمة حقيقتها ورغبتها في الانتقام ساعدته ليحقق هدفه ليصنع منها امرأة قوية خطرة، امرأة تستحق أن تتولى أعماله من بعده.
لكنّها لم تستطع إكمال ذلك الطريق الأسود لآخره، لم تكن لترث مكانه أبدًا. داخلها كانت سديم بما تربت عليه من قيم ومباديء تتصارع مع سيلينا التي صنعها كارل ولا مكان للمباديء في عالمها، سديم بطهرها وقلبها الأبيض مع سيلينا العابثة بقلبها الجليدي الغارق بسواد الانتقام والكراهية. فازت سديم ودفعتها للتحرر من عالمه الإجرامي لتهرب بشخصية جديدة، إيفا أنطوان التي كانت مزيجًا منهما وبنفس الوقت حرة من ماضيهما أو هكذا ظنت ذات يوم.
تنهدت بحرقة، آدم أفسد بتدخله كل شيء في الماضي والحاضر. قديمًا أفسد خطتها للهرب والآن اختطفها ومنعها من السفر بعد أن أقنعها بيير بضرورة حضورها لرؤية كارل قبل فوات الأوان. سيفوت الأوان حتمًا حين تستطيع الهرب من هنا. تطلعت للسماء وزفرت بتعب، لماذا عادت أصلًا؟ لماذا لم تبق هناك وترض بحياتها وواقعها؟ دمعت عيناها وهي تتذكر السبب، كانت يائسة ولم يكن أمامها خيارٌ آخر. وحين أتت أدركت أن كل شيء انتهى ومع هذا لم تغادر، لم تستطع.
انتبهت للشمس توشك على الغروب فنزلت لتتجه بتعب إلى الفراش، تلوت ممسكة معدتها وشتمت آدم بحنق
«هل تظنني سأركع أمامك هكذا؟ لن أسامحك، أفسدت حياتي قديمًا وعدت لتفسدها... أيها الخائن»
اعتدلت فجأة حين سمعت صوت سيارة واندفعت تعتلي الطاولة بسرعة لتنظر خارجًا. زفرت بيأس حين لم تر شيئًا واختفى الصوت فعادت تنزل عائدة إلى الفراش تتمتم شتائمها وتوعداتها له بعصبية، فليظهر أمامها فقط وتقسم أن... توقفت أفكارها وانتبهت بقلب يخفق بأمل، لقد أتى. تحكمت بأعصابها لتعيد قناع قوتها وأرهفت السمع مغمضة عينيها تسمع وقع خطواته يقترب. فتحت عينيها تنظر أمامها وازدادت سخرية ابتسامتها، كم تشبه الآن سجينًا ينتظر إنفاذ حكم إعدامه، تترقب قدوم جلادها، لكن الفرق أنها لا تخشى الموت القادم على يديه. لسنواتٍ طوالٍ كانت تنتظره، قلُبها الذي يهدر داخل صدرها دون رحمة الآن يعترف أنها كانت تنتظر، وتشتاق... تشتاق بجنون.
محت ابتسامتها حين انفتح الباب ليتبدد القليل من الظلام ورفعت رأسها باعتداد، صمتت للحظات كما فعل هو قبل أن تنهض ببطء والتفتت إلى حيث وقف صامتًا وقد أحاله الضوء الخافت من خلفه إلى كيانٍ وحشيٍ فبدا لها كقابضِ أرواحٍ أتى لينتزع روحها ويأخذها للجحيم. جاهدت لتمنع قلبها الذي تقافز داخل صدرها يكاد يشق ضلوعها مندفعًا نحوه، ومالت برأسها مبتسمة ببرودٍ مستفز أشعل نيران عينيه أكثر وهي تقول
«هل حان الوقت أخيرًا؟»
لم يمُن عليها بكلمة للحظاتٍ مرت عليها كأبدية قبل أن يشعل النور، إذن هناك كهرباء بالمكان! هل فصل عنها التيار متعمدًا؟ شتمته بحنق وهي تراقبه يتحرك نحوها ببطء صياد يتقدم نحو فريسته المسكينة، لكنّها ليست فريسة، وليست مسكينة ولن تكون أبدًا. لم يرف جفناها وهي تبادله النظر بتحدٍ ليقول أخيرًا بصوتٍ بدا قادمًا من أعماق الجحيم
«أخبرتكِ يا إيفا، يومًا ما سأعثر عليكِ، وعندها ستتمنين الموت ولن تحصلي عليه... لذا لا، لم يحن وقتكِ بعد»
تنهدت ومطت شفتيها بأسف مصطنع وقالت وهي تعود لتجلس
«خسارة، انتظاري الطويل كان دون جدوى إذن»
قالتها بابتسامة ثلجية متحدية وفتحت فمها لتكمل تحديها، لكنّ كلماتها ماتت على شفتيها وشهقت حين انتزعه يشدها إليه وفي لحظة وجدت نفسها أسيرة ذراعيه. تطلعت في عينيه المشتعلتين بفزع سرعان ما دفنته تحت جليدها بينما يهمس بفحيح
«لا تظني أن أسلوبكِ الجديد هذا سيُجدي معي نفعًا يا إيفا، أو ربما تظنين أن آدم القديم ما زال موجودًا وسيصفح عنكِ بنظرة من عينيكِ المخادعتين هاتين»
نظرت في عينيه اللتين أخبرتاها بصدقه، هي تعرف هذا، تعرف أن ما فعلته قديمًا قضى على كل أملٍ لديها لتحصل يومًا على مغفرته، لكنّها لا تبحث عن المغفرة وحتماً لن تركع لتطلبها. قاومت تأوهًا كاد يغادر شفتيها وأصابعه تنغرس في ذراعيها بقسوة، لكنّها فشلت حين دفعها لتصطدم بالحائط بقوة، ليحاصرها من جديد ويميل ليهمس في أذنها
«مرحبًا بكِ في جحيمي يا إيف»
حدقت في عينيه دون أن تسمح للصراع داخلها أن ينعكس في عينيها ورفعت يديها تضع إحداها فوق قلبه برقة مغوية والأخرى لامست بها خده واستمتعت برؤية العتمة تغزو عينيه لتميل نحوه تسمح لعطرها أن يغزو أنفاسه دون رحمة وهمست بإغواءٍ تعرف أنه قادر على أن يطيح بأعتى الرجال عن قدميه
«سبق واحترقت في جحيمك من قبل يا آدم، الآن... من يدري»
شعرت بجسده يتشنج تحت لمستها فاتسعت ابتسامتها وقطعت جملتها بعبث لتحرك وجهها وترفع نفسها قليلًا على أطراف أصابعها، تلف ذراعيها حول عنقه وتحركت شفتاها بتعذيب فوق لحيته القصيرة حتى توقفت أمام شفتيه ونظرت لعمق عينيه بتحد
«من يدري أينا سيحترق في جحيم الآخر يا حبيبي؟»
لمحت ارتباكًا لحظيًا بعينيه فابتسمت بعبث واقتربت أكثر بينما قلبها يتوسلها أن تحرره من عذابه وتسمح له أن يحيا قليلًا بعشقه ويُشبع شوقه الذي لا يرحم. كانت ترتجف داخلها وهي تنظر في عينيه اللتين اسودتا بمشاعر مماثلة فتركت نفسها تنساق خلف مشاعرها. بالكاد مست شفتاها شفتيه حين همس بصوتٍ ثلجي
«أين هو؟»
رمقته بحيرة ليواصل بحقد وذراعاه تضغطان على جسدها بقسوة
«أين هو ابني؟»
اتسعت عيناها وتراجعت شاهقة بصدمة فصاح فيها وهو يهزها بقوة
«أين أخفيتِه؟ أين ابني يا إيفا؟»
********************
قادت سؤدد السيارة وعقلها يحاول التركيز على مهمتها محاولة ألا تنساق خلف أفكارها بشأن ما حدث بينها وبين حارسها المستفز. أخبرته أنها ستعتبر أن شيئًا لم يحدث! من قال أن شيئًا لم يحدث؟ منذ دخل حياتها رحل سلامها النفسي تمامًا وما فعله اليوم كان القشة التي قصمت ظهرها. لن تحتمل وجوده أكثر من هذا، أول ما ستفعله حين تعود هو أن تطلب من جدها أن يطرده وإن كان ولا بد فليحضر رجلًا غيره، فلتحتمله قليلًا حتى تعود.
الآن كل ما عليها التركيز على هدفها، لتأمل أن يتمكن صديق آدم مساعدتها في العثور على الفتاة التي تحتاجها، لا يمكنها الرجوع خالية الوفاض. حان الوقت لتضع حدًا لمنذر ومن خلفه، فقد أصبحت معركتها معه شخصية. لتتأكد أولًا من تلك المعلومات وعندها كل شيء سيُحسم، لن تخسر معركتها ولن تخسر أحدًا ممن تحبهم كما فعلت حين... تجمد عقلها وضاق صدرها، لا هي لم تخسرهما، هما من تخليا عنها وخاناها وهي أقسمت أن تنساهما فلما يعودان لتعذيبها مجددًا...
كانت شاردة في دوامة ذكرياتها فلم تنتبه للنظرات التي يختلسها نحوها بقلق لائمًا نفسه للمرة الألف على تسرعه، زفر بضيق يفكر في طريقة يعيد بها الأمور لما كانت عليه قبل أن ينتبه لشرود نظراتها التام. ناداها بقلق وهو ينظر للطريق شاعرًا بازدياد سرعة السيارة
«آنسة سؤدد، هلا انتبهتِ للطريق وقللتِ من سرعتكِ؟»
لم ترد كما توقع ولم يبد أنها سمعته وتعانده فقط
«آنسة سؤدد، هل تسمعيني؟»
كانا قد غادرا المدينة منذ فترة ولم تخبره أين ذلك الموعد الذي يذهبان إليه لكن يبدو أنهما يتجهان نحو الريف الفرنسي. أخرج هاتفه ليحدد موقعهما وزفر وهو ينظر لها من جديد، العنيدة علام تنوي؟ التفت للطريق حين سمع تنبيه سيارة قادمة في الاتجاه المعاكس، تفادتهما في اللحظة الأخيرة لتنتفض سؤدد مع هتافه وتدير المقود بسرعة. كاد الأمر يمر بسلام لولا ظهور سيارة أخرى أربكتها فانحرفت بالسيارة وهي تصرخ. شتم وهو يمد يده بسرعة ليتحكم في مقود السيارة.
«كان يجب أن أعرف أن هذا سيحدث»
انحرفت السيارة عن الطريق الأسفلتي وتحركت لمسافة كبيرة داخل الحقل القريب حتى أوقفها بمعجزة لكن ليس قبل أن تصطدم تبة ترابية. كانت الصدمة خفيفة لكنّها دفعت سؤدد للأمام فكادت تصطدم بالزجاج لولا أن أسرع يحيط رأسها بذراعه ويشدها ليخفيها في صدره. ترك المقود ليحيطها بذراعه الأخرى متنهدًا بقوة ومرت لحظات وهو يرتجف، ودون شعور ضاقت ذراعاه حولها بحماية قبل أن يتمالك نفسه ويهمس بتحشرج
«أنتِ بخير؟»
لم ترد فحاول إبعادها لينتفض قلبه حين تشبثت كفاها بقميصه تختبئ فيه أكثر. قاوم بصعوبة بينما رجفتها تمتد إلى قلبه وناداها برفق وهو يربت على ذراعها.
«آنسة سؤدد، انتهى الأمر. دعيني أرى لو سمحتِ هل أُصبتِ بأي أذى»
باءت محاولاته بالفشل بينما تدفن نفسه في صدره أكثر، لم يدر أنّها غائبة عن الواقع وعقلها هناك في ماضيها البعيد، في تلك الليلة التي تسللت فيها خلف عماد حين رأته يغادر البيت خُفية كما يفعل أحيانًا كثيرة. رفض مرارًا إخبارها أين يذهب حتى بعدما هددته أن تفشي سره لعمها وتحداها أن تفعل. كان يعرف أنّ قلبها لن يطاوعها أن تسبب له مشكلة مع والده الذي لن يتوانى عن عقابه بقسوة رغم كونه في الرابعة عشر وقتها.
كانت تموت فضولًا لتعرف أين يذهب لذا تسللت خلفه لتكتشف في النهاية أنّه كشف أمرها منذ غادرت خلفه وكان مستمتعًا بمحاولاتها الحمقاء لتخفي ملاحقتها له، لكنّه لم يستطع الاستمرار في لعبته قلقًا عليها فكشف عن نفسه وقرر إعادتها للمنزل. توسلته أن يأخذها معه وكالعادة لم يقاوم توسلاتها له. اكتشفت أنه يتسلل ليقابل صديقه حيث يستغلان الطريق الخالي، ليقودا سيارة والد صديقه التي كان يختلسها دون علمه في بعض الليالي. كانت تعرف أن عماد مهووس بالسيارات ويحلم باليوم الذي يستخرج فيه رخصة للقيادة ويصير بمقدوره قيادة واحدة بنفسه.
توسلته ليلتها أن يسمح لها مرة واحدة بالقيادة وهو رفض بحزم لم يلبث أن ذهب أدراج الريح مع دموعها السخية، ورغم اعتراض صديقه وافق على أن تقود وجاورها يوجهها بحذر ورفق. مضت نصف ساعة وهي تلتزم بتعليماته حتى استسلمت لحماسها وزادت سرعتها فأمرها بحزم أن تخفضها وتتوقف وكادت تفعل لولا ظهور سيارة أمامها. ارتبكت ولم تعرف كيف تتصرف ليسارع هو بجذب المقود بإحدى يديه ويده الأخرى شدت رأسها ليدفنه في صدره بينما يحاول إيقاف السيارة التي دارت حول نفسها عدة مرات.
كانت ترتجف بعنف وهي تتمسك به تظن أن السيارة ستنقلب بهما ويموتان حتى شعرت به يهزها برفق
«سؤدد، أنتِ بخير؟ سُوو، افتحي عينيكِ أرجوكِ»
شعرت به يبعدها ويتفحصها بخوف بينما يهتف فيها أن تجيبه، فتحت جفنيها ترمقه بعينيها الدامعتين
«هل تشعرين بأي ألم؟ هل أُصبتِ؟»
هزت رأسها نفيًا فتنهد براحة شديدة واحتواها
«حمدًا لله. حمدًا لله أنتِ بخير، ظننت أنكِ تأذيتِ»
بكت بحرقة
«أنا آسفة يا عماد، سامحني... لم أقصد أن»
ربت عليها برفق
«لا بأس. اهدأي، المهم أنكِ بخير»
بكت أكثر وهي تتمسك به فأبعدها بعد ثوان وقبّل رأسها
«اهدأي يا سُوو. أنتِ بخير الآن، اهدأي»
بالطبع لم تنته الليلة بسلام فزوجة عمها ضبطتهما أثناء عودتهما، أقامت الدنيا ولم تقعدها واتهمتها أن السبب وأنّها من حرضت عماد على التسلل معها للخارج، وأنّها ستفسده بتصرفاتها المخزية بينما وقف عماد حائلًا بينهما يخفيها وراء ظهره الذي تشبثت به بينما يتلقى عنها كل اللوم. صفعة والده القاسية نزلت على قلبها قبل أن تلمس خده فاندفعت إلى عمها باكية تخبره أنّ عماد لا ذنب له. صرخت فيها ليلى أكثر بينما اقتربت أمها بنظرات لائمة فهتفت تخبرها
«أنا آسفة، عماد لم يفعل شيئًا خاطئًا. أرجوك يا عمي، لا تضربه. أنا السبب»
تقدمت زوجة عمها بغضب لتصفعها
«كنت أعرف أنكِ السبب، أيتها الملعونة الصغيرة»
صرخت أمها محذرة ليلى في اللحظة التي اندفع فيها عماد ليقف بينهما ويتلقى الصفعة. تراجعت ليلى شاهقة بجزع وأسرعت تتحسس وجهه.
«حبيبي، أنا آسفة. هل آلمتك؟ أرني وجهك»
أزاح كفها بحدة ونظر لها صائحًا بغضب
«كنتِ ستضربين سؤدد يا أمي، كيف تفعلين هذا؟»
تراجعت بصدمة قبل أن تلتفت لترمقها بحقد بينما هتفت أمها وهي تحتضنها
«ليلى، لقد تجاوزتِ حدودكِ. تذكري أنني حذرتكِ من الاقتراب من أولادي. في المرة القادمة لن يحدث لكِ خيرًا، فهمتِ؟»
والتفتت نحو شقيق زوجها متابعة
«هذه ليست أول مرة تتصرف زوجتك بهذه الطريقة مع أولادي يا عزت وإن كنت تجاوزت عن عجرفتها ومعاملتها السيئة لي كل هذه السنين لأنك شقيق زوجي فهذا لا يعني أنني سأحتمل نفس المعاملة لأولادي، ولن أسمح لأيٍ منكما أن تعتقدا أن لكما الحق في تأديبهما»
نقلت بصرها بينهما بغضب قبل أن تشدها خلفها مواصلة
«عندما يعود أحمد سيكون لنا حديث آخر. تصبحون على خير»
تحركت معها مرغمة وعيناها معلقتان بعماد الذي تابعهما بقلق وخوف مدركًا ما عنته أمها، كان خائفًا من أن تنفذ ما أرادته لفترة طويلة وتقنع عمه بإنفصالهم عن بيت العائلة. هذا الخوف كان يعتصر قلبها هي الأخرى بينما تراقب أمها تتحرك في الغرفة بعصبية تحدث نفسها بغضب وتقسم أن تأخذهما بعيدًا إن رفض زوجها أن ينقلهم لبيتٍ بعيد.
حركها خوفها من فكرة فراقه فنهضت لتحتضنها وتتوسلها باكية.
«أنا السبب يا ماما، عاقبيني أرجوكِ لكن... لا تدعينا نذهب. سأكون أكثر تهذيبًا وسأبتعد عن طريق العمة ليلى ولن أجعلها تجد الفرصة لتتشاجر معك. دعينا نبقى هنا أرجوكِ، لا أريد الذهاب لبيتٍ آخر، لا أريد أن»
كتمت كلماتها في حضنها... لا تريد الابتعاد عنه، لا تتخيل يومها من دونه. كيف ستحتمل فراقهما؟ زفرت أمها بحرارة وشدتها لتجلس على الفراش وتضمها ثم تهمس بحنان.
«الأمر لا علاقة له بكِ يا سؤدد، هذه الأمور بيننا نحن الكبار ونحن سنحلها. أنا يهمني مصلحتكِ أنتِ وسيف، لن أطمئن عليكما في هذا البيت ولا أريدكما أن تكبرا في بيتٍ مليء بالمشاكل والشجارات»
كانت تعرف أنه من العبث محاولة إقناعها، عماد الوحيد من أسرة عمها الذي يحبهم وهو وحده يهمها، لو تضمن أن تأخذه معها لغادرت عن طيب خاطر. أغمضت تدعي النوم لتغادر أمها بعد أن قبّلتها بحنان لتعاود البكاء بصوتٍ مكتوم، لا بد أن عمها عاقبه بقسوة. انتبهت على طرقات خافتة على باب شرفتها فنهضت لتفتحها وشهقت بفرح وهي تراه يقف مبتسمًا. غمز رافعًا إصبعه أمام شفتيه يأمرها بالصمت قبل أن يرفع كفه ليمسح دموعها
«كنت أعرف أنكِ ستستمرين في البكاء ولن تنامي»
همست وهي تنظر للخارج عبر الضوء الشاحب
«هل تسلقت الشجرة؟ أنت مجنون»
ضحك بخفوت
«كان لا بد أن أفعل وإلا لن أستطيع النوم الليلة وأنا قلق عليكِ»
هزت رأسها ومسحت دمعة أخيرة
«أنا بخير و... آسفة أيضًا، لقد ضُربت بسببي»
«فداكِ يا سُوو. ثم إنه كان خطأي من البداية، لو لم أتسلل خارجًا لما حدث كل هذا»
رمقته بأسى وتوقفت عيناها على أثر الصفعتين، فاقتربت تلمس خده هامسة بألم
«هل تؤلمك كثيرًا؟»
هز نافيًا وابتسم
«لا، لا تؤلمني»
«أنت تكذب»
رددت بلوم فنفى بإصرار
«صدقيني لا تؤلمني، ربما في لحظتها فقط و»
قطع جملته عندما ارتفعت على أطرافه وشدته لينحني قليلًا. طبعت قبلة رقيقة على خده ونزلت بعدها ترمقه بخجل. لوحت بكفها بعد ثوان أمام عينيه المصدومتين لينتبه. كتمت ضحكتها وابتسم هو متأملًا وجهها ثم قال بأسى.
«يبدو أنني أنا من سيفسدكِ... لماذا لم تكوني أكبر ولو بعامين؟»
تخصرت باعتراض
«لستُ صغيرة. سأتم الحادية عشر خلال أيام، هل نسيت؟»
تراجع للخلف مبتسمًا
«لا لم أنس. ولا تقلقي، هديتكِ في الحفظ والصون»
ابتسمت بسعادة قبل أن تبهت ابتسامتها ويخفت حماسها
«أنا خائفة يا عماد، أمي تريدنا أن نغادر. قالت أن هذا أمر خاص بالكبار وهي مصرة على رأيها»
قطب بضيق لثانية ثم اقترب ليمسك عضديها بكفيه
«لا تخافي، سأتحدث معها ومع عمي عندما يعود، سأتحدث مع أمي أيضًا. يجب أن يفهموا أن الكبار عليهم أن يراعونا أيضًا وألا يسمحوا لخلافاتهم أن تؤثر علينا»
«وماذا لو رفضوا وأصروا على خلافاتهم؟ أنا لا أريد أن أتركك»
تمتمت بعينين دامعتين، فرقت عيناه واقترب ليحتضنها بحنان
«لن أترككِ أبدًا، سأبقى معكِ. حتى لو ذهبت إلى آخر الدنيا ستكونين معي، سأكون معكِ دائمًا يا سُوو... تذكري هذا»
أومأت هامسة عبر دموعها تعده بالمقابل أنها لن تنسى أبدًا وستكون معه حتى لو افترقا رغمًا عنهما.
***
«سؤدد... سؤدد، افتحي عينيكِ»
شعرت بيد تضرب على خدها برفق، فحركت رأسها بضيق وصوته يشتت الغيوم المحيطة بعقلها. تأوهت وهي تتحسس جبهتها بألم ليأتيها صوته
«آنسة سؤدد، هل تسمعيني؟ افتحي عينيكِ، هل أُصبتِ بأذى؟»
فتحت عينيها بتشتت لتجد رأسها على صدره فقبضت بكفها على قميصه، هي ما زالت مع عماد! هل كانت تحلم بافتراقهما؟ عاد الصوت المزعج يسحبها من خيالاتها وأمانها بقسوة فرفعت وجهها تنظر للعينين المطلتين عليها وصاحبهما يربت على وجهها.
«عماد»
همست وطيفه يبتعد لتشعر بتشنجه واختفى القلق من عينيه ليحتلهما ألم وحزن مع شيء من الصدمة. استيقظ عقلها منتبهًا لوضعهما فشهقت تدفعه بيديها في صدره.
«ماذا تفعل؟»
بدا لها شاردًا أو مصدومًا وألم شديد احتل عينيه سرعان ما تلاشى فاعتقدت أنّها توهمته. أشاح وجهه مرددًا ببرود.
«كما ترين، كدتِ تتسببين في حادث بقيادتكِ المتهورة»
تطلعت للخارج بضيق ثم عادت تنظر له بانفعال
«هذا لا يعطيك الحق في أن»
هتف يقاطعها بغضب
«أنتِ من لا يملك حق الاعتراض يا آنسة. لولا رحمة الله لكنا الآن ميتين، ألا تتمتعين حتى ببعض اللباقة لتعتذري؟»
«لا تصرخ فيّ هكذا. لم يحدث شيء وأنا لن أعتذر لك أبدًا، ومرة أخرى... لا تلمسني أبدًا حتى لو كنت أموت، فهمت؟»
اتسعت عيناه لحظة ثم تحكم في نفسه ليخبرها ساخرًا
«بالمناسبة، أنتِ من كنتِ تتشبثين بي»
حدقت فيه بارتياع بينما يتابع
«حاولت كثيرًا إبعادكِ عني، لكنكِ استمريتِ في احتضاني حتى كدتِ تخنقيني، لذا لا تلومي سوى نفسكِ، مفهوم؟»
ارتجفت شفتاها لا تجد كلمات لترد قبل أن تردد بتقطع وارتجاف
«أنت... أيها الـ... كيف تجرؤ؟»
فتح الباب وغادر أمام أنظارها الذاهلة ليدور حول السيارة حتى وصل لبابها ففتحه بعنف وأزاحها بصرامة
«ابتعدي، هيا تحركي للمقعد الآخر»
ابتعدت مرغمة عندما شعرت بجسده يلامسها متجاهلًا لتحذيرها الذي لم تمض عليه لحظات
«ماذا تفعل؟ قلت لك لا تلمسني أبدًا»
تجاهلها وهو يدير محرك السيارة لتهتف
«اللعنة عليك، ماذا تفعل؟ ابتعد، أنت لن تقود السيارة»
واصل محاولاته مع المحرك حتى عاد للعمل وأدار المقود عائدًا للطريق
«اصمتي تمامًا، من الآن فصاعدًا أنا من سيقود؟»
«أيها الوغد، هل نسيت نفسك؟ أنت تعمل عندي وستنفذ أوامري أنا. توقف حالًا وإلا لن يحدث لك طيب»
التفت يرميها بنظرة أوقفت دمها كما فعل صوته الصارم
«أنا لا أعمل عندكِ أيتها الآنسة المدللة، أنا أعمل عند السيد رفعت هاشمي وأنفذ أوامره وحده. وأوامره تقتضي حمايتكِ حتى من عقلكِ العنيد هذا، كلامي واضح؟»
حدقت فيه بذهول، ثم أشاحت وجهها تهمس بتوعد
«لن تنجو بفعلتك هذه أقسم لك، قريبًا سأجعلك تبتلع كلماتك هذه»
قاد بهدوء ورد ببرود أكبر
«جيد. حتى ذلك الحين اصمتي ودعيني أقود، لا نية لي أبدًا أن أموت بسبب تهورك وعنادكِ، ومن الآن وحتى أعيدكِ لعائلتكِ بسلام كل شيء سيسير كما أريد أنا، فهمتِ؟»
رمته بنظرة حارقة مليئة بالغل والقهر وعادت تنظر أمامها وهي لا تتوقف عن تمتماتها المتوعدة. زفر بيأس وهو يدير بصره عنها ليركز على الطريق وقلبه يعتصر بين ضلوعه بقسوة.
******************
ابتسمت آنجيليكا وهي تلوح مودعة ماريا وبيدرو آخر من تبقى من ضيوف الحفل واللذين أصرا على البقاء معها ومساعدتها بتنظيف الشقة. انتظرت رحيلهما وعادت إلى الشقة ودخلت مبتسمة لجوليانو الذي كان يمسك بالهدايا وأسرعت تجلس بجواره
«أيها الفضولي، لم تستطع الانتظار حتى أعود لنفتحها معًا»
ضحك قائلًا
«لم أفتحها بعد، وأنتِ هي الفضولية بالمناسبة. لو كنتِ مكاني لكانت كل الهدايا فُتحت في لحظة واحدة»
وكزته بمشاكسة واختطفت منه العلبة ضاحكة
«أنت محق، دعني أرى ماذا جلبت الجدة أنيتا، ماذا تتوقع يا جولي؟»
قالتها وهما يفتحان هدية السيدة ماريانو جارتهما المسنة الطيبة التي كانت أول من قدمّ المساعدة لهما حين ألقت بهما الأقدار إلى هذه البلدة الصغيرة بجنوب إيطاليا ورغم ضيق حالها ساعدتهما، وتولت رعاية جوليانو الصغير أثناء بحثها المحموم عن عمل، وحتى اليوم ورغم تقدمها في السن ما زالت تعتني به حتى عودتها من عملها. هتفت آنجيليكا بحماس وهي ترفع السترة بيديها
«وااو، رائعة. لقد حاكت لك سترة جديدة، أليست جميلة؟»
قال ضاحكًا على حماسها بينما تضع السترة على صدره تقيسها
«توقعت هذا منذ أخذت مقاساتي متحججة أنها تصنع سترة لقريب صديقتها الذي يماثلني في الجسد، إنها لا تجيد إخفاء الأسرار أبدًا»
عبثت بشعره ضاحكة
«أنت هو الذكي واللماح زيادة عن اللزوم، عليك أن تشكرها غدًا على هذه الهدية الجميلة»
هز رأسه لتواصل محذرة
«آه ولا تتذاكى وتخبرها أنك كشفت خدعتها، مفهوم؟»
ضحك وهو يتناول الهدية التالية ورفعها لأذنه يهزها وهو يسألها أن تخمن ما بداخلها، ومرت الدقائق التالية وهما يتبادلان التخمين وفتح الهدايا، وشعرت ككل مرة بالهموم تتطاير من قلبها مع سعادة شقيقها. أغمضت عينيها تبتسم وقلبها يستحضر خيالات البقية ويخبرها أنهم يشاركونهما هذه اللحظات قبل أن تنتبه للمسة شقيقها لذراعها ففتحت عينيها تنظر له بحب واحتضنته
«عيد ميلاد سعيد يا قلب آنجي، هذا أسعد يوم بحياتي. أتمنى لك سنة مليئة بالسعادة والأمنيات التي ستحققها كلها»
ربت على ظهرها
«وأنتِ أيضًا يا آنجي»
ثم ابتعد رافعًا حاجبه ومكتفًا ذراعيه
«لكن هناك هدية ناقصة»
قطبت بتفكير ثم صاحت
«آه... كيف نسيت؟»
ضحك على تعبيراتها الفزعة وهي تندفع نحو غرفتها وتغيب لحظات ثم تعود. اتسعت عيناه وهو يرى ما تحمله وحاول النهوض لمساعدتها لكنها أشارت له أن يبقى واقتربت لتضعه أمامه. نظر لها بقلب خافق فابتسمت مشيرة له أن يفتحه، دمعت عيناه وهو يخمن هديتها ولم يخب ظنه وهو يزيل ورق الهدايا. لم يتمالك مشاعره واندفع يحتضنها ودموعه تسيل
«شكرًا يا آنجي، أنتِ أروع شقيقة في العالم»
احتضنته بحب مماثل وأبعدته تمسح دموعه
«هل أعجبك؟»
أومأ ناظرًا للكمان الذي كان يتمنى الحصول عليه. لم تنس هي نظرته لكمان مشابه أثناء مرورهم بمتجر للآلات الموسيقية قبل أشهر ووعدته أن تحضر له واحدًا وهو أخبرها كذبًا أنه لا يريد وأنه لفت نظره فقط. تحسس الكمان برفق
«لا بد أنه كلفكِ كثيرًا، أنتِ تتعبين لتحصلي على المال ما كان يجب أن»
وضعت سبابتها على شفتيه مقاطعة
«أنت أغلى عندي من أي شيء، لو أردت عينيّ سأعطيك إياهما»
وغمزت بحرج مفتعل لتمنعه من البكاء
«وكما ترى هو ليس جديدًا، إنه مستعمل للأسف. صاحبه اضطر لبيعه وأنا اشتريته بسعر مناسب، لذا لا تقلق بشأن المال»
ومسحت دموعه مردفة بحزم
«على ماذا اتفقنا؟ لا دموع ولا حزن سيدخل بيتنا اليوم... فقط سعادة، حسنًا؟»
أومأ برأسه لتصفق بحماس
«إذن هيا، أنا متشوقة لأسمع عزفك»
قال بتردد
«لم أتدرب منذ فترة طويلة ولا أظن أن»
«هراء، أنا واثقة أنك ما زلت تتذكر العزف بنفس البراعة، أغمض عينيك واعزف بقلبك وسترى»
نظر لها بتردد فأومأت بتشجيع وهي تحمل الكمان تضعه بين يديه، نظراتها اللامعة المتحمسة حسمت تردده فتنفس بعمق وابتسم ثم بدأ العزف لكنّه توقف فجأة وابتسم رادًا نظراتها المتسائلة.
«هل يمكنني أن أطمع بهدية أخرى؟»
«بالطبع يا حبيبي»
هتف بحماس وتشوق
«هل يمكنكِ أن ترقصي أثناء عزفي؟»
بهتت ابتسامتها قبل ان تطرق ناظرة إلى قدميها فأسرع متراجعًا
«آسف يا آنجي اعتبري أنني لم أقل شيئًا. أعرف أنكِ توقفتِ منذ سنوات، ظننت أننا يمكن أن»
قاطعته بحماس وقد آلمها أن تحزنه في يومه السعيد
«ولم لا؟ قلت لك لو طلبت عينيّ سأعطيهما لك»
نهضت قبل أن يمنعها وأسرعت تزيح الطاولة تزيد مساحة الصالة الصغيرة وأشارت له غامزة ليبدأ العزف. بدأ بتردد لم يلبث أن اختفى وهو يرى لمعة عينيها وهي تسمع عزفه مبتسمة قبل أن تغمض وتبدأ الحركة تاركة جسدها يسترجع ذكرياتها مع الأنغام. تحركت على أطراف أصابعها وجسدها تمايل بمرونة لم تدرك أنها ما زالت تتمتع بها. ارتفعت ذراعاها للأعلى برشاقة قبل أن تدور على قدمها ثانيةً إحدى ساقيها. استمرت في الدوران قبل أن تتغير حركتها وذراعاها تنفردان وتنثنيان برقة. استغرقت في رقصتها وذكرياتها وقلبها ينتشي بشعور اشتاقته كثيرًا، واتسعت عينا جوليانو بانبهار وهو يراها تحولت في لحظات لفراشة ترقص بحرية مع النسيم.
تابعتها عيناه بانبهار انعكس على عزفه قبل أن ينتبه بقلق لحركة قدميها وعاد ينظر لها بخوف منتبهًا لنسيانها ما حولها وانغماسها التام في الرقص متناسية وضع قدمها. توقف عن العزف وناداها بقلق لكنّه لم تسمعه ولم تنتبه حتى لتوقف العزف. لم يدرك أنها لحظتها كانت تحارب لتعود من شرنقة الماضي الجميل التي أسرتها، كانت تشارك لوسيانا تمارين الباليه القاسية وتحول المشهد لهما وهما ترقصان بسعادة تلفهما ضحكات والديهما.
غرقت أكثر وهي تدور على قدم واحدة والمشهد يتحرك لمشهد السيارة وهي تدور حول نفسها وقد فقد والدها السيطرة عليها قبل أن تظلم الدنيا. دارت أكثر والمشهد يتغير لها وهي تحمل جوليانو الصغير وقد فقدا كل شيء. نسيت وضع قدمها التي تضررت من الحادث واستمرت في الدوران تتذكر رعبها وهي تهرب به، تتذكر مخاوفها وخشيتها من فقدانه فتخسر معه آخر ما تملك في هذه الدنيا، جوليانو الذي حاربت لحمايته كل هذه السنين، جوليانو الذي أفاقت على هتافه المرتعب باسمها لتتوقف فجأة وتفتح عينيها.
لم تحتمل قدمها المجهود الذي بذلته فسقطت ليندفع إليها ويحتضنها
«آسف يا آنجي، ما كان يجب أن أنسى أن قدمكِ ما زالت»
ربتت عليه وابتسمت بأنفاس متسارعة
«لا بأس، أنا بخير»
لمس قدمها بقلق فدلكتها برفق
«صدقني أنا بخير»
«لكن أنتِ»
قاطعت همسه الباكي مرددة بعينين لامعتين
«أنا لم أشعر أنني أتنفس وحية كما شعرت قبل لحظات جوليانو، كنت قد نسيت هذا الشعور تمامًا»
رمقها بشك فضحكت تضمه بقوة
«شكرًا لأنك شجعتني لأنسى خوفي وأسترجع هذا الشعور الرائع»
أبعدها بحزم
«لا تحاولي، أنتِ لن ترقصي بهذه الطريقة المتطرفة مرة أخرى»
ضحكت تعده
«حسنًا لن أفعل أيها المستبد»
مدت يدها تزيح عن جبينه خصلة سوداء ناعمة وتتابع بحنان
«هل تعرف؟ أنا متفائلة كثيرًا وبت متأكدة أن الأيام القادمة ستحمل لنا الخير الكثير بين يديها»
ابتسم على تفاؤلها لتتابع بتأكيد
«سترى، السعادة ستفتح ذراعيها لنا والحياة ستبتسم ولن تعبس مرة أخرى أبدًا»
رفع أحد حاجبيه فهجمت عليه مدغدغة
«ألا تصدقني، هه؟ ألا تثق بي أيها الصغير المتذاكي؟»
ضحك وهو يقاومها
«أصدقك، أنا أصدقكِ يا آنجي»
رحمته أخيرًا من تعذيب أصابعها وشدته وهي تستلقي أرضًا وتضمه إليها وأغمضت عينيها مرددة بوعد
«آنجي ستفعل المستحيل لو عاندتها الحياة وستحضر السعادة حتى عندك، أعدك يا روح آنجي».
**********************
استمع منذر لسكرتيرته بشرود قبل أن يصرفها ويسترخي في مقعده مفكرًا للحظات، نهض بعدها وتوجه للنافذة الكبيرة بمكتبه وتطلع خلالها للشارع البعيد. يخشى أن يفشل ذلك الرجل في مهمته، والأسوأ الآن الضيق الذي يشعره لأنّه خائف من أن ينجح ذلك الأحمق في الانتقام من وتين ويصيبها بأذى. غبي، المفترض أن يقلق من أن ينجح ذلك الرائد العنيد في القبض على رجله الذي فقد عقله بسبب وتين.
الأحمق كتب شهادة وفاته بنفسه بعد أن حذره بشدة من الاقتراب من طريقها وأخبره أن المقابل سيكون حياته لكنّه لم يهتم. انتبه على رنة هاتفه وفتح الرسالة يقرأها بسرعة، وفي لحظة كانت أصابعه تجري على شاشة الهاتف برسالة ختمها بأول حرفين من اسمه وهو يدرك أنها ستفهم حتمًا أنه وراء ما حدث. أخبرها ألا تتهور مرة أخرى ولا تتذاكى وتخبر الرائد بأي شيء، لم يرد من تهديده سوى منعها من التهور بأي كلمة، ولم ينس أن يطلب منها أن تخبر سؤدد أنّ ديونها ازدادت واحدًا وأنهما سيتحاسبان قريبًا. سيفعلان حتمًا فهو متأكد من أنها تعد له مفاجأة لن تعجبه أبدًا.
تنهد عائدًا لمقعده، ليتها تنشغل في سفرها حتى يهدأ الوضع قليلًا فأي محاولة منها للتدخل سيكون ثمنها حياتها وهو لن ينجح في حمايتها هذه المرة مهما حاول. استرخى في مقعده يحركه يمينًا ويسارًا بشرود حتى قاطعه صوت سكرتيرته عبر جهاز الاتصال الداخلي
أرعتذر يا منذر بك، شاهيناز هانم الصاوي تطلب مقابلتك لكنّها لم تحدد موعدًا و»
«دعيها تدخل»
شعر بدهشتها التي سرعان ما أخفتها وهي تقول بعملية
«تمام يا سيدي»
استرخى في مقعده بعينين لامعتين ناظرًا للباب في انتظار قدومها،كان واثقًا أنها ستأتيه بقدميها في أقرب وقت، لا بأس ببعض العبث قبل أن تعود الصحفية العنيدة من سفرها ويضطر للتفرغ لحربها معه بكل جدية. هو واثق من أن الأيام القادمة ستحمل لهم الكثير، إحساسه يخبره بهذا وإحساسه لم يخب يومًا.
*******************
انتهى الفصل
قراءة ممتعة❤️😘
أنت تقرأ
سديمُ عشق "ثلجٌ ونار"(الجزء الثاني من سلسلة حكايات الحب والقدر) (قيد المراجعة)
Любовные романыنظرت في عينيه اللتين أخبرتاها بصدقه .. هي تعرف هذا .. تعرف أن ما فعلته قديماً قضى على كل أملٍ لديها لتحصل يوماً على مغفرته .. لكنّها لا تبحث عن المغفرة وحتماً لن تركع لتطلبها .. قاومت تأوهاً كاد يغادر شفتيها وأصابعه تنغرس في ذراعيها بقسوة، لكنّها فش...