أصغى لكِ الليلُ حتى مرَّ في عجلٍ
ليدرك الصبحُ شيئًا من حكاياكِ
قالت بحبٍ: صباح النورِ قلتُ لها
ما أشرق النورُ إلا من مُحيَّاكِ
«د. محمد المقرن»
******************
فتحت عينيها بصعوبة لتغمضهما فورًا حين آلمها نور الشمس، تنهدت وهي تنقلب على جانبها لتنظر للحائط بشرود تسترجع ما مرت به منذ أتى بها آدم هنا وكيف مرت عليها الليلة الأولى. حاولت جاهدة ليلتها أن تغوص بأعماق ذكرياتها السعيدة معه لتمنع نفسها من كراهيته، تعرف أنه يريد الانتقام منها وتوقعت الأسوأ حين هربت قبل سنوات، لكن أن يستغل نقاط ضعفها ويحبسها في هذا المكان المهجور الذي تحيطه الحقول الزراعية لمسافات واسعة وبالتأكيد تستغله الذئاب وغيرها من وحوش الليل التي باتت ليلتها الثانية تفكر كم منها بالخارج يفصلها عنهم جدار.
دمعت عيناها اللتان أحاطتهما هالات سوداء من سهرها ونومها المتقطع، صوت معدتها ذكرها أنّها لم تأكل منذ يومين بعد أن رفضت مس الطعام الذي تركه. تبًا له، يعاملها كأسيرة حرب ويبقيها حية... ربما حتى يكتفي من انتقامه وبعد ذلك سيتركها للموت ولو جوعًا. لن تمنحه الفرصة لا للشماتة ولا للانتقام، ستموت هنا وتنتزع منه انتقامه الأحمق. موتها سيكون أكثر رحمة من أن يقتل آخر ما تبقى داخلها من مشاعرها الغبية اليائسة نحوه.
عادت تتلوى في الفراش ومسحت دموعها التي خانتها، ماذا تفعل؟ ألم تقسم أنّها لن تدعه ينتصر ولن تسامحه على فعلته. هي الآن في أشد الحاجة لسيلينا، لها هي فقط. سيلينا التي ولدت بعد موت سديم وذاقت الأمريّن حتى أصبحت امرأة قوية ثلجية القلب. لما يقرب من عشر سنوات عاشت في ظلها وحمايتها، دفنت سديم الصغيرة داخلها وأهالت فوقها أطنانًا من الثلوج وتعلمت استقبال لطمات الحياة حتى اشتد عودها وأقسمت ألا يكسرها أحد.
حتى ذلك اللعين الذي تحكم بحياتها طويلًا ما كادت تجد الفرصة حتى حلّقت بعيدًا وهربت منه لتحصل على حريتها وتبدأ صفحة نقية بعيدًا عن السواد الذي غمسها فيه سنين طويلة حتى نسيت من كانت كما أراد هو. لا تنكر أنّها تعلمت الكثير من عملها معه وأثبتت له في النهاية أنّ التلميذ يفوق أستاذه، انتحلت شخصية جديدة قررت أنّها الأخيرة وهربت بعيدًا عن مخالبه. تعب كثيرًا ليصنع منها ما هي عليه وهي أثبتت له أن عمله كان مثاليًا. أخفت آثارها جيدًا وكادت تهرب إلى حيث لن يجدها لولا حبها اللا عقلاني الذي هب كعاصفة مجنونة واحتل قلبها.
ابتسمت بأسى تتذكر كيف جرفهما تيار الحب دون تعقل وهي بالذات رمت بكل تعقلها خلف ظهرها ونسيت كل شيء سوى كونها حية معه. ما كان يجب أن تتخلى عن حذرها، ما كان يجب أن تنسى كل ما علّمتها الحياة. تأوهت بحنق وهي تمرر أصابعها في شعرها بعصبية، لماذا كانت بهذه الحماقة؟ لماذا أعادت قصة والديها بحذافيرها بعد أن أقسمت آلاف المرات أنّها لن تقع في نفس الفخ؟ بل كان يجب أن تموت مع عائلتها، العائلة الوحيدة التي عرفتها، لم تكن لتعرف حقيقتها المُرة.
نهضت بإرهاق لتتجه لدورة المياه الصغيرة المُلحقة في الغرفة وصفعت وجهها بالماء تغسل عنه أثر النوم والدموع. الذكريات ستضعفها وهي تريد كل قوتها عندما يمن عليها بزيارته في هذا المعتقل الذي رماها به. خرجت لتلتقط منشفة من الخزانة الصغيرة وجففت وجهها. ألقتها على الفراش واتجهت لتعتلي الطاولة لتنظر خارج النافذة متشبثة بالقضبان، وتعلقت عيناها بالخضرة الممتدة على مدى بصرها. أين هذا المكان بالضبط؟ هل هو ملكه أم استأجره لبعض الوقت؟ لا تستطيع مد بصرها خارج حدود هذه الغرفة التي تبدو كما لو أن يد إنسان لم تمتد لها لفترة من الزمن. تنهدت بقلة حيلة ونزلت لتعود إلى الفراش، نظرت في ساعتها بيأس. لا يعقل أنّه ينوي حبسها حتى الموت، بالتأكيد سيأتي. على الأقل ليرى نتيجة فعله.
عادت تتوعده قبل أن تصدر معدتها أصواتًا معترضة ونظرت بأسى إلى الطعام الذي فسد. تنفست بقوة وحاولت أن تشغل نفسها كما تعودت وهي صغيرة حين كانت تمر عليها الأيام دون لقمة. أغمضت كما كانت تفعل وأطلقت العنان لخيالها لترى الطعام والفراش الوثير لكن عوضًا عن هذا ارتسمت في مخيلتها صورتها الصغيرة وهي تجلس حافية القدمين ملتصقة بالحائط في ركن غرفة شبه معتمة، ملابسها بالية وخصلاتها مشعثة ووجهها ملطخ بالأتربة التي خطت فوقها الدموع شقين، تحاول تخيل مائدة بألذ الأطباق التي كانت أمها تبرع في إعدادها. انهمرت دموعها وهي تكاد تلمس المائدة، ومدت يدها لا لتلتقط الطعام بل لتلامس خيال أبويها المبتسمين.
تلاشيا فور أن لمستهما وكادت تصرخ منادية عليهما تتوسلهما أن يأخذاها معهما للعالم الآخر، حيث لا وجع ولا جوع ولا آلام. خافت عقاب المُشرفة فاكتفت بدفن وجهها بين كفيها وبكت في صمت قبل أن تنتفض حين شعرت بكف تلامس كتفها. لوهلة ظنتها المُشرفة أتت لتعاقبها مُجددًا فانكمشت على نفسها. ارتفعت الكف تمسح رأسها بحنان تردد في صوت صاحب اليد، رفعت رأسها ليقابلها وجه صبي يكبرها ببضع سنوات. ابتسم لها غامزًا وهو يضع سبابته على شفتيه يحذرها من إحداث صوت. سمعته يقول وهو يرفع يده الأخرى بشطيرة وقطعة حلوى.
«خذي بسرعة، لا بد أنكِ جائعة. هيا بسرعة قبل أن يأتي أحد»
تناولت الشطيرة بتردد حسمه صوت معدتها فأسرعت تلتهمها بشراهة أمام عينيه اللتين تأملتاها بحنان وشفقة فتمتم
«على مهلكِ يا صغيرة وإلا ستغصين»
غصت بطعامها لحظتها فربت على ظهرها وناولها الماء لتشرب. رمقته بعدها بعينين دمعتا من شدة سعالها لتتحرر دموعها مع تربيته على شعرها بحنان ذكرها بأمها.
«أنا بيير... وأنتِ سيلينا، صحيح؟»
خفضت عينيها تواصل التهام الشطيرة حتى أنهتها ليناولها قطعة الحلوى مردفًا
«هذا اسمكِ، صحيح؟ سمعت المشرفة تناديكِ به»
صمتت للحظات ثم همست بجمود
«هي لا تناديني إلا باللقيطة الملعونة»
ران الصمت فنظرت له لتقابلها نظرته القاتمة التي اختفت سريعًا
«هي تنادي الجميع بهذا اللقب، لا تدعي هذا يزعجكِ... أنتِ»
«أنا لست لقيطة»
قاطعته بهمس ميت فقطب وهو يميل قليلًا نحوها
«ماذا؟»
هتفت بحدة وهي ترمقه بغضب وألم
«أنا لست لقيطة... أنا»
كتم كلماتها بكفه
«اهدأي، ستفضحين أمرنا»
حدق فيها بشفقة ونزع كفه حين لامستها دموعها لتواصل باكية
«أنا لست لقيطة، لست لقيطة. أنا يتيمة، مات أبي وأمي. ماتا وتركاني وحدي»
تراجع بجزع وهو يراها تبكي بانهيار ثم تنهد واقترب يحيطها بذراعيه وشدها لتبكي فوق صدره. تتشبث به تبكي بكل الدموع التي اختزنتها منذ قُتِل أبواها أمام عينيها، وما أن بدأت دموعها تخفت حتى سمعت صوت تصفيرة مميزة بالخارج ليبعدها بسرعة وربت على رأسها
«يجب أن أذهب الآن، سأراكِ مرة أخرى. اهتمي بنفسكِ»
أخذ الزجاجة الفارغة وغادر بسرعة البرق، سمعت صوت مزلاج الباب وهو يُغلق وعاد الصمت لمحيطها فتطلعت حولها تتساءل إن كان حلمًا ما حدث للتو، لكنّ معدتها التي توقفت آلام جوعها ودفء عناقه يؤكدان أنها ما كانت تحلم. ابتسمت من بين دموعها وهمست
«بيير... شكرًا لك»
لم تتصور لحظتها أن هذا الصبي سيكون جزءًا مهمًا من حياتها وأنه سيرافقها للسنوات العشر القادمة من عمرها وحتى بعدما قررت الهرب كان معها في كل لحظة حتى وهو بعيد.
عادت لواقعها وفتحت عينيها تتذكره بألم، بيير الغالي الذي لم يبخل عليها بصداقته وحبه وحمايته، من أجلها تنازل عن حريته ورافقها في ذلك الطريق المظلم ليتأكد من أنها لن تؤذي نفسها. وضع روحه على كفه من أجلها وهي ماذا قدمت له؟ لا شيء سوى الألم والمعاناة وانتزاع حريته وحقه في الحياة الشريفة، حتى عندما تعلم قلبها الحب وقعت في حب رجل آخر. تذكرت بحزن كيف آلمته بهروبها وحدها. كانت تعلم أنّه سيتمكن من الإفلات من حصاره هو الآخر. أرادت تحريره من قيوده التي يصمم على أن يقيد نفسه بها إليها، هي كانت لعنة في حياته وعقبة لا أكثر وكان يجب أن تحرره منها.
تنهدت وهي تتمدد على ظهرها متطلعة في السقف بشرود، بيير سيكتشف خدعة آدم وربما يأتي ليبحث عنها، لن يقتنع أبدًا بتلك الرسالة الحمقاء وسيقلق عندما لا تجيب على اتصالاته، وكالعادة سيترك كل ما بيده سيأتي من أجلها ولو كانت حياته على المحك. ضحكت وهي تتخيل مواجهته مع آدم، هو يعتقده حبيبها الفرنسي ولن تكون مبالغة إن تصورت أن رد فعله سيكون سيئًا إن قابله. بيير هو الآخر رد فعله سيكون قاسيًا فهو كان شاهدًا على معاناتها بسبب آدم ولولا رفضها وتوسلها إياه لسافر منفذًا تهديده وبحث عنه ليقتله انتقامًا لما فعله بها.
ابتسمت مفكرة كم يشبه هشام بحمائيته وقلبه الكبير وقلقه عليها، هو الآخر لن يرحم آدم أبدًا إن عرف ما فعله الآن وأنّه كان سبب الحالة التي وصلت إليها قبل ست سنوات. آدم يظنها إيفا اليتيمة التي لن يهتم لها أحد ولن يشعر بغيابها، هي ليست وحيدة، لديها هشام وبيير، لديها عائلتها التـ...
توقفت فجأة وخفق قلبها لتعود وتهمس الكلمة كأنما تتذوقها بينما راحة شديدة تلامس قلبها لأول مرة لتعترف بما أنكرته طويلًا، مهما عاندت وكذبت على نفسها هذا لن يغير من الحقيقة شيئًا، هي ليست وحيدة أبدًا، هي... لديها عائلة.
********************
تقلب آدم بلا راحة محاولًا العودة للنوم، وزفر وهو يتحرك لينام على جانبه وأغمض رغمًا عنه مع رائحة عطرها التي ما زالت عالقة بالفراش. لم يشعر بها أمس وهو يلقي بجسده المتعب الذي أضناه التعب والتفكير ويغرق في نومٍ لم يخل من أحلامه المعذبة بها. لم يقاوم وهو يدفن وجهه بالوسادة يتنفس بعمق ليتخلل عطرها صدره ويعيده لسنواتٍ مضت. عادت صورها تغزوه وعقله يعود به من الماضي لما حدث بينهما آخر مرة قبل أن يغادر شقة صديقه ويذهب بها بعيدًا.
ضرب الوسادة بقبضته، ونهض بحنق نحو الأريكة. هل هو أحمق أم يهوى تعذيب نفسه؟ ما الذي أعاده لشقة صديقه؟ وبدلًا من أن ينام فوق الأريكة بالصالة اختار أن ينام في نفس الغرفة التي حبسها بها وفوق نفس الفراش الذي تركت فوقه عطرها.
تطلع للفراش بكراهية مستعيدًا صورتها وهي مستسلمة له وعاد صوتها المغوي يتردد هامسًا اسمه. كانت تحاول إغواءه، وهو كالأحمق كاد يقع في فخها من جديد. لا، لا يجب أن يسمح لها بالتلاعب به مجددًا، عليه فقط أن يتذكر كل الرجال الذين عرفتهم قبله وبعده وجسده سينفر منها تمامًا. تنفس بعمق وتمدد على الأريكة مغمضًا، ورغمًا عنه سافر عقله إليها. منذ حبسها في البيت الكبير وهناك جزء داخله لا يتوقف عن طعنه بقسوة. لقد أقسم أن ينتقم منها، فهل سيشفق عليها الآن؟ هل سيظل خيالها يطارده راسمًا أبشع الخيالات عن حالتها وهي وحيدة في ذلك البيت البعيد عن العمران. أقرب بيت مسكون يبعد مسافة كبيرة عنها ومهما حاولت الصراخ لن يسمعها أحد.
ضغط على قلبه الذي يُصر على إخباره بلوم أنّها ربما لم تكن تمثل كُليًا في الماضي، وربما كانت صادقة في بعض الأشياء. يتذكر كيف ارتجفت حين مرا بقفص الذئاب في حديقة الحيوان التي زارها ذات يوم. لم تكن تمثل، حتى أنّها ادعت حبها لهذه الحيوانات، لكنّه لاحظ رجفتها والخوف بعينيها وادعى لحظتها أنه لم ير شيئًا. ظن خلال الفترة القصيرة التي قضاها معها أنه صار يحفظها عن ظهر قلب، ظن أنها كانت واضحة كنبع ماءٍ صاف لعينيه. هل كانت مرآة الحب عمياء أم أن تمثيلها المتقن كان يخفي وراءه بعض الصدق؟ ربما في داخله كان يعلم ويُصدق لذا اختار ذلك المكان. كان يعلم أنها ستخاف من الوحدة والظلام والذئاب التي ستسمع عواءها.
دفن وجهه بين كفيه زافرًا بألم، هو ليس ساديًا ولا قاسيًا. لم يكن هكذا يومًا ولا فكر باستغلال نقاط ضعف أحدهم لكنّها السبب. هي أحالته لذلك القاسي الذي ما عاد يفكر سوى بانتقامه ورؤيتها راكعة تتوسله ليسامحها على خيانته، على قلب رُبى الذي انكسر بسببها، على العذاب الذي عاشه. هل سيأتي الآن ويستسلم لعذاب ضميره؟ هي حررت تلك الوحوش بقلبه وعليها احتمال مصيرها.
انتبه على طرقات فرد بشرود ليدخل خالد بوجه عابس.
«أنت مستيقظ؟»
ابتسم بسخرية
«كما ترى»
«تبدو رائق البال بالنسبة لشخص اختطف امرأة»
هتف خالد بحنق فرفع عينيه للسقف زافرًا بنفاذ صبر
«خالد، لن نعيد هذه الأسطوانة. أنا متعب ولم أنم جيدًا طيلة الليل»
هتف مستنكرًا
«وهل كنت تتوقع أن تنام بهناء؟ ما الذي فعلته بها يا آدم؟ أين أخفيتها؟»
أطرق دون رد ليهتف خالد بجزع
«هل قتلتها؟»
لم يقاوم ضحكة ساخرة جعلت صديقه يهتف اسمه بغضب، فرمقه بنظرة اختلط فيها الألم بالسخرية
«لا تقلق، ليس بعد»
تأمله مليًا ثم اقترب ليجاوره وربت على كتفه برفق
«ما الذي يحدث معك يا آدم؟ لا تبدو طبيعيًا منذ ظهرت تلك المرأة. ماذا يدور بينكما؟ تبدو أجنبية، من أين تعرفها؟»
تنهد مجيبًا بسخرية
«إنها فرنسية»
ارتفع حاجباه ولمعت عيناه بتفهم
«هل هي نفسها من...؟»
ابتسم بتهكم مرير يجيب سؤاله المبتور
«نعم هي، نفسها التي أخبرتك عنها قديمًا»
ثم ضحك بمرارة
«تتذكر عندما حذرتني وقتها وأخبرتني أن الوقوع في حب أجنبية ليس جيدًا وأن عائلتي لن ترضى بها»
تأمله بأسف مستعيدًا تلك المكالمة بينهما، لم يخبره آدم سوى أنه قابل فتاة فرنسية رائعة وأنه وقع بحبها. تذكر السعادة التي كانت تشع من صوته وهو يؤكد له أنها ليست كما يظن وأن عائلته ستحبها مثله، وأنه سيحضرها معه فور انتهاء دراسته.
كان قلقًا من أجله وعقله استعاد كل القصص التي يعرفها عن الزواج بأجنبيات والمشاكل التي تحدث بسببه في أغلب الأحيان. حاول إقناعه عبثًا لكنّه بدا وكأنه شخصٌ آخر غير العقلاني الذي يستمع دائمًا لصوت عقله ويغلبه على عاطفته، ورغم قلقه الشديد تمنى له السعادة الدائمة، لتثبت الأيام صدقه بعدها حين عاد آدم وقد تبدل لشخص آخر.
دون الحاجة لسؤال أدرك أنّ الأمر انتهى معها لكن ليس دون خسائر، آدم تغير كُليًا وحين سأله قلِقًا، أخبره أنّها كانت علاقة عابرة ولم تنجح ولا يريد الحديث عنها مجددًا ولم يحاول هو الضغط عليه. ما دام لا يريد الحديث فلن تجبره قوة على الأرض أن يفعل، ولم يكن بحاجة لتفسير فحالة آدم كانت تفسر كل شيء.
ما آلمه أن صديقه تباعد عن الجميع في الفترة التالية وكثرت أسفاره للخارج. كان يتصرف بطريقة غير طبيعية، ثم توقف كل هذا فجأة وعاد لحياته وتزوج بابنة عمه وظن هو أنه نسي ذلك الموضوع القديم. ها هو يكتشف أن الماضي لم يمت وآدم لم ينس تلك الفتاة كما توهم، تصرفه الجنوني يثبت أنه لم يتجاوز ماضيه وأنه لسببٍ ما ناقمٌ عليها بجنون وتحركه رغبة عنيفة في الانتقام منها. رفع عينيه ينظر لصديقه الذي أطرق شاردًا وبدا ممزقًا مشتتًا كما رآه عندما عاد من سفره قبل سنوات.
«ما الذي فعلته بك لتصل لهذه الحالة يا آدم؟»
سأله بتوجس ولم ينطق آدم بحرف فكرر بقلق أشد
«ماذا فعلت بك يا صديقي؟»
تنفس آدم بصعوبة قبل أن ينظر إليه، وراعه كم الألم والتمزق في عينيه وهو يرد
«قتلتني... قتلتني يا خالد»
*********************
تحركت سؤدد بحذر بين الأشجار تزيح بيدها الأفرع المتدلية متسائلة بتوتر، كيف أتت هنا؟ هذا المكان يبدو مألوفًا، تعرفه جيدًا. أزاحت ستار الأوراق الخضراء الأخير لتتجمد وعيناها تقعان على البيت الكبير لتدرك أين هي، كانت في بيت اليزيدي. البيت الذي ولدت فيه وقضت سنوات طفولتها الأولى به. انتزعت نفسها من ذهولها وتقدمت للأمام تدير عينيها الدامعتين تتأمل البيت الذي حمل ذكريات طفولتها. خفق قلبها حين وقعت عيناها على الطفلة الصغيرة التي تجري أمامها ضاحكة بسعادة، خصلات شعرها الأسود تتطاير بحرية خلفها. تابعتها عبر دموعها ورأتها تندفع نحو صبي ببضع سنوات يدخل من البوابة الحديدية بابتسامة واسعة حنونة.
«عماد»
همست بألم وراقبته وهو يفتح ذراعيه للصغيرة التي اندفعت لتحتضنه
«لقد أتيت أخيرًا»
صاحت بسعادة وربت هو على شعرها برقة
«اشتقت لكِ كثيرًا يا شقية»
ابتعدت عنه وكتفت ذراعيها تزم شفتيها بغضب طفولي بعد أن تذكرت أنّها كانت غاضبة لأنه سافر في رحلته المدرسية وهي قضت الأيام التي غابها غاضبة تتوعده أنها لن تتحدث معه أبدًا وستخاصمه عندما يعود، وعندما رأته يدخل من البوابة نسيت كل غضبها منه. قرص خدها وقال ضاحكًا
«سُوو غاضبة مني»
هزت كتفيها مرددة بتذمر مدلل
«وتخاصمك أيضًا»
«هكذا؟»
مط شفتيه بأسف لتقول
«نعم هكذا، ولن تكلمك بعد الآن»
ورفعت له خنصرها
«أنا أخاصمك»
ابتسمت من مكانها وهي تراقبهما، وضحكت من بين دموعها وهي تتوقع ما سيحدث تاليًا، حين انحنى عماد ليعض إصبعها فصرخت منتزعة يدها وضربته.
«أوجعتني يا متوحش، لن أكلمك أبدًا... أبدًا»
حاولت الابتعاد لكنه ضحك وشدها نحوه متمتمًا بإغراء
«ألا تريدين حتى أن تعرفي ماذا أحضرت لكِ معي؟»
نظرت له مقاومة لمعة الفضول والترقب بعينيها وهزت كتفها بلا مبالة مفتعلة
«لا أريد»
رفع حاجبًا خبيثًا وهز كتفيه
«إذن... سُوو لا تريد هديتها... لا بأس... سأعطيها لشخص آخر»
مدت ذراعها تمسك قميصه من الخلف تمنعه من الذهاب
«لا، أنت أحضرتها لي. أنا غاضبة منك لكن أريد هديتي»
كتف ذراعيه بنظرة ضاحكة ثم قال ملامسًا خده بسبابته
»تمام، سأعطيها لكِ، لكن ليس قبل أن تعطيني ثمنها»
ضحكت وهي تمسح دموعها بينما ترى صورتها الصغيرة خالية البال تزم شفتيها ناظرة له بخدين محمرين وقدمها تضرب الأرض بتوتر، قبل أن تحسم ترددها وتقترب لترتفع على أطرافها وتمسك قميصه لتدعم نفسها. لامست قلبها المتوجع وهي تراه يميل قليلًا ليسمح لها بطبع قبلة رقيقة فوق خده. ابتسم ولمعة حينان غمرت عينيه بينما ابتعدت تهمس بخجل وهي تمد كفها.
«هيا، أعطني هديتي»
سالت دموعها أكثر وهي تراه يعطيها هديتها معتذرًا لها عن ابتعاده ويخبرها أنّه لم ينسها لحظة. همست اسمه بألم وحاولت إيقاف دموعها قبل أن تنتفض حين شعرت بيد تمسح دموعها. رفعت عينيها بوجل لتلتقيا بعينيه الخضراوين، كانتا كما عهدتهما في صغرها غامرتين بالحنان. اقترب ليحتضن وجهها بكفيه هامسًا
«لا تبكي يا سُوو أنا هنا»
وجدت نفسها تهمس باكية
«لماذا تركتني؟ لماذا تخليت عني وحنثت بوعدك؟»
مسح دموعها ناظرًا في عينيها لثوان قبل أن يشدها ليضمها بين ذراعيه، لم تبتعد كما كان يجب أن تفعل بل تشبثت به تبكي بحرارة.
»قلت أنك لن تتركني أبدًا، قلت أنه حتى لو تركني العالم كله ستكون بجانبي. لماذا كذبت؟ لماذا خنتني؟»
مسح على شعرها متمتمًا باختناق
«كنت مرغمًا»
بكت بحرقة ليشدد احتضانه لها
«لكنني لم أنسكِ لحظة واحدة، كنتِ معي دائمًا. رافقتِني في كل لحظة فرقت بيننا»
انقبضت أصابعها على قميصه
«سترحل من جديد، ستتخلى عني»
احتواها أكثر حتى شعرت أنها توشك أن تختبئ داخل صدره
«لن أفعل أبدًا يا سُوو، لن أترككِ أبدًا، حتى لو حاولتِ أنتِ أن تبعديني لن أرحل»
بكت للحظات قبل أن تشعر بالبرد فجأة ففتحت عينيها لتجد يبتعد. حاولت إيقافه وصرخ قلبها فيه أنّه وعدها لتوه. رفعت ذراعيها تحتضن جسدها الذي غادره دفء عناقه. كذب مرة أخرى، خانها ورحل مجددًا. هتفت اسمه بأعلى صوتها لتنتفض مستيقظة، اعتدلت في فراشها بأنفاس متسارعة وقلبها يخفق بجنون. نظرت حولها بحيرة ثم هتفت
«يكفي. لماذا عدت لتعذبني من جديد؟ لماذا؟»
لماذا لا يريد خياله أن يفارق أحلامها؟ لماذا عاد ليشتتها ويضعفها في أكثر وقتٍ يحتاج تركيزها وقوتها؟ لقد رمت تلك الفترة خلف ظهرها، طفولتها وصباها وماضيها، بيت عائلتها وذكرياتها، عماد وجعها الثاني ووجعها الأول، والدها. كلاهما خانها وتخلى عنها وهي لن تسمح لهما بالعودة لحياتها وإفساد كل ما صنعته لتصبح كما هي الآن. هي قوية ولن تعود أبدًا إلى سؤدد يزيدي التي طعنها أقرب الناس إليها وقتلوا فيها كل جميل.
تمتمت بحزم وهي تنزع الغطاء عن جسدها وتنهض، يجب عليها الاستعداد لمقابلة صديق آدم الفرنسي الذي أكد أنه سيقدم لها كل المساعدة التي تحتاجها في بحثها عن المعلومات التي تنقصها. تأمل كثيرًا أن يساعدها في إيجاد خيط جديد لتُعد الفخ الذي ستوقع به منذر. تحركت نحو الحمام المُلحق بجناحها لتتوقف فجأة مع رؤيتها الشرفة المفتوحة، قطب لحظات بتفكير قبل أن تغلق روبها بإحكام وتتقدم لتخرج إلى الشرفة.
تنفست الهواء بعمق لتزيح بعضًا من هموم قلبها المتراكمة، كل شيء سيكون على ما يرام. القدر سيكون رحيمًا بها ولن يحرمها فرصتها وسعيها من أجل الحقيقة والعدالة. ارتسم على شفتيها شبح ابتسامة كاد يتسع لولا أن قتله صوتٌ ساخر قربها وصاحبه ردد منتزعًا إياها من سلامها النفسي الذي بالكاد لامسته
«ها قد أشرقت الشمس أخيرًا»
فتحت عينيها والتفت بذهول لتراه في الشرفة الملاصقة، كادت تستسلم لانفعالها وتشتمه بوقاحة لولا أن تابع كأنّه لم يكن يوجه لها الكلام السابق
«إطلالة هذا الفندق رائعة، تسمح للشخص بمشاهدة شروق الشمس الرائع»
قاومت لتتمالك أعصابها بينما تابع وهو يرتشف القليل من فنجان قهوته
«والاستمتاع بفنجان من القهوة رائعة المذاق»
رمقته ببرود قابله ببراءة ورفع فنجان قهوته نحوها
«هل ترغبين في رشفة منها؟ ستعجبكِ جدًا»
راقب باستمتاع حركة فكها العصبية بينما تقاوم حتى لا تستسلم لغضبها لتردد ببرود
«لا أحب القهوة»
«مممـ غريب»
لم تتمالك حدتها وهتفت فيه
«ما الغريب يا هذا؟»
هز كتفيه مجيبًا
«ظننت أنكِ من عشاق القهوة»
تخصرت بسخرية
«حقًا؟ وما الذي دفعك لهذا الاستنتاج العبقري؟»
وترتها نظراته قبل أن يبتسم بغموض وارتشف من الفنجان متمتمًا
«مزاجكِ السوداوي أوحى لي بهذا، القهوة تصنع التوازن المثالي للأشخاص في مثل حالتكِ»
تقدمت بانفعال لتمسك السور القصير بين الشُرفتين هاتفة باستنكار
«الأشخاص في مثل حالتي؟ هل تراني مجنونة يا هذا؟»
«حاشا لله، أنا لم أر امرأةً بعقلكِ ونضجكِ»
انقبضت يداها بعنف وهي تتمتم من بين أسنانها
«لقد تجاوزت حدودك كثيرًا، من سمح لك بالتحدث معي هكذا؟»
رمقها ببرود فرفعت سبابتها في وجهه
«لا تنس نفسك، أنت تعمل عندي ولا أسمح لك أبدًا بتجاوز الحدود معي، أتفهم؟»
هز رأسه وقال كأنه لم يسمع شيئًا
«هل سأتجاوز الحدود إن قلت أنكِ تبدين خلابة حين تستيقظين من النوم؟»
تراجعت شاهقة بحدة ليتابع بتفكير عميق
«تذكرينني بأحدهم. من؟... من؟»
فرقع إصبعيه وهتف بظفر أمام عينيها الذاهلتين
«أجل، الساحرة التي كانت فوق بلوزتك»
كان انفجارها وشيكًا فابتسم ببراءة
«ألست محقًا؟»
كادت تصرخ به لولا أن انتبهت لكلماته التالية
«فعلًا، نفس شعرها المشعث والهالات الغريبة حول عينيها»
نظرت لوجهه المبتسم بخبث قبل أن ترفع يدها تتحسس شعرها الذي كان مشعثًا بالفعل ولا بد أن وجهها وعينيها حملتا آثار نومها كذلك. انتبهت لضحكته وهو يغادر الشرفة لتضرب السور بحنق
«وغد، وقح... تبًا لك يا كتلة العضلات الغبية»
هزت رأسها رفضًا واندفعت إلى غرفتها
«لن تفلت بهذه البساطة، لن أتركك تفلت بوقاحتك هذه أبدًا»
أسرعت تغسل وجهها وتجففه بعنف ولمّت شعرها في ذيل حصان متزمت ثم غادرت جناحها بعنف لتتجه إلى الباب المجاور. توقفت فجأة حين رأت نفس الأجنبية تقف بثياب قصيرة تتحدث معه بدلال وميوعة تكاد تلتصق به. غلى الدم بعروقها واندفعت نحوهما بحدة.
«ما الذي يحدث هنا؟»
التفتت لها الفتاة وتجهمت بينما هتف بوجه مشرق وهو يتقدم ليحيط خصرها بذراعه يشدها لتلتصق به شاهقة بهلع.
«قلت لكِ، حبيبتي ستأتي بأي لحظة وستسيء الفهم»
وابتسم بحب شديد وهو يقربها إليه أكثر
«لم تحتمل خصامي وأتت لتطرق بابي في الصباح الباكر، هل تصافينا الآن يا حبي؟»
شعر برجفتها فمال يهمس في أذنها كأنما يغازلها أمام الفتاة
«آسف، احتلمي قليلًا حتى أتخلص من هذه المشكلة»
حدقت فيه بعقل متجمد من الصدمة ولم تنتبه حين اعتذر من الفتاة وسحبها إلى غرفته ليغلق الباب متنفسًا بقوة.
«ظننت أنني لن أتخلص منها أبدًا»
انتبه لسؤدد التي زادت رعشتها وتسارعت أنفاسها وقبل أن ينطق بحرف يعتذر لها دفعته بقوة وانهالت على خده بصفعة
«كيف تجرؤ؟»
رفعت كفها لتعيد الصفعة، لكنّه أوقف يدها في الهواء ولمحت برعب سواد الغضب بعينيه
«دعني... دع يدي أيها الـ»
شهقت عندما شدها لترتطم بصدره وحدقت بهلع في وجهه بينما يقول ويداه تقبضان على عضديها بشدة
«لا أحد تجرأ وفعل ما فعلتِ يا سؤدد يزيدي... لا أحد»
ارتجفت وعقلها يستعيد حادث اختطافها وما تعرضت له فدمعت عيناها. اشتدت قبضتاه لرؤية دموعها وتمزق بين شعورين متناقضين لم يلبث أن انتصر أقواهما. همس ويداه ترتخيان عنها قليلًا ليردد بحنان اهتزل له قلبها بينما يرفع كفه ليمسح برقة دمعة خائنة.
«آسف، لم أقصد إخافتكِ. أعتذر بشدة عن تصرفي لكنني كنت مضطرًا، آسف جدًا»
واصلت تحديقها به والرعب الذي تسلل لقلبها لم يكن يمت بصلة لرعبها الأول بينما تدرك أنّها ليست مرتعبة ولا متجمدة لقربه، هي مرعوبة لأن حنانه ورقته كانا يخترقان بخبث جليد قلبها.
«وآسف للطريقة الخاطئة التي بدأنا بها معرفتنا القصيرة... آسف لإزعاجكِ وإجباركِ على تحمل وجودي المؤقت في حياتكِ»
خفضت وجهها لتتحرر من أسر عينيه لتنتبه بذهول لكفيها فوق صدره تلامس إحداهما موضع نبضه المتسارع بينما كان يواصل برفق
«آسف لأنني سأستمر في تجاوز حدودي لأطلب منكِ أن تتناسي عداوتكِ قليلًا. هل يمكنني أن أطمع في هدنة لنتمكن من العمل في سلام ويؤدي كل منا مهمته على أكمل وجه؟»
رفعت له عينين حائرتين فقاوم بصعوبة أفكاره الحمقاء التي يعرف أنها ستعيده معها لنقطة الصفر، عليه استغلال تخبطها وحيرتها ليلزمها بوعدٍ يعرف أنها لن تتراجع عنه. فتح فمه ليهمس اسمها لولا أن عاد البرود لعينيه ودفعت صدره بكفيها فتراجع خطوة. أطرقت هي للحظات قبل أن تنظر له ببرود أكبر وتهمس بنبرة ثلجية.
«استعد لنغادر بعد قليل»
تحركت لتغادر فأوقفها هامسًا برجاء
«سـ... آنسة سؤدد، أنا»
قاطعته دون أن تلتفت
«سأعتبر أن شيئًا لم يحدث وأنني لم أسمع شيئًا»
ران الصمت القاتل للحظات قبل أن تلتفت نحوه بحزم
«لا تتأخر، هناك موعد هام لا أريد التأخر عليه»
غادرت بعدها تاركة إياه ينظر إثرها مقطبًا، قبل أن يتنهد بيأس، رائع. لقد أفسد كل شيء، هو واثق من أنها ستلقي بكلامه الأحمق عرض الحائط وستضع آلاف الحواجز الجليدية التي لن تسمح له بتجاوزها أبدًا.
*******************
اعتدلت آنجليكا في فراشها وتمطت بكسل قبل أن تطالعها الشمس، كادت تصرخ فزعًا لولا أن تذكرت أنه يوم عطلتها وأنّها لم تتأخر. ابتسمت ونهضت بحماس لتغادر غرفتها وهي تلملم شعرها وترفعه فوق رأسها قبل أن تتمتم
«يجب أن أجد عملًا آخرًا، ذلك الرجل أصبح مزعجًا وإن كنت أنجو كل مرة من مضايقاته فلن أنجو للأبد»
كما أنّ ذلك البخيل يتلذذ بحاجتهم للعمل ويبرع في إيجاد الأعذار ليخصم من راتبهم. هزت رأسها بلوم، لماذا تتذكره الآن وتفسد يومها السعيد بسيرته البغيضة؟ اليوم ليس سعيدًا لأنه يوم عطلتها فحسب، بل أيضًا لأنّه عيد ميلاد ملاكها الحبيب. اليوم ستنسى كل همومها لتسعده... جوليانو، كل ما تبقى لها في هذا العالم، هو من يجعلها صامدة على قدميها في وجه لطمات الحياة، ابتسامته السعيدة كفيلة بأن تمسح عنها كل همومها، عندما تعود متعبة آخر الليل ويستقبلها بابتسامته وعناقه المحب تنسى كل تعبها. ابتسمت بحنان وأسرعت لتنهي طقوسها الصباحية حتى تتمكن من إيقاظه. بعد وقتٍ قليل كانت تقف في المطبخ الصغير تعد لهما الافطار، تدندن بأنشودة كانت أمها الحبيبة تغنيها دومًا. غامت عيناها وهي تبتسم بحنين بينما تتذكر نفسها ولوسيانا تزعجان أمهما التي كانت تكتفي بابتسامة حانية وتواصل الغناء بصوتها الجميل، حتى يناديهما والدهما ويأمرهما أن يتوقفا عن إزعاج حبيبته، لتتبادلا النظرات المشاكسة ثم تندفعان لتنقلا إزعاجهما وشقاوتهما إليه.
انتبهت من شرودها على صوت جرس الفرن ورفعت إصبعها تمسح دموعًا خائنة، أما آن الوقت لتتوقف عن استعادة ذكريات لن تعود ولن تُكسِبها إلا مزيدًا من الألم كل مرة تحاول ملامسة خيالاتهم تتمنى لو أنهم يعودون ولو للحظات لترتمي بأحضانهم. اشتاقت لهم... اشتاقت وتعذبت بشدة رغم مرور كل هذه السنوات على رحيلهم ولولا حاجة شقيقها إليها لتمنت الموت ولتوسلت الله أن يأخذها إليهم. مسحت دموعها بقوة وتحركت تتناول الأطباق لتضع الطعام بها وترصها على المائدة ثم اتجهت إلى غرفة شقيقها.
فتحت النافذة تسمح للشمس بالدخول والتفتت تتأمله نائمًا بسلام وابتسمت بحب، كم يذكرها بوالدها، فهو قد ورث ملامحه وشعره الأسود الذي أورثه لوسيانا أيضًا، بينما هي أخذت شقرة والدتها والنمش المتناثر برقة فوق بشرتها، ولطالما كانت تغيظهما أن والدهم يحبها أكثر لأنها تشبه حبيبته.
اقتربت لتجلس بجواره ولامست شعره بحنان
«جوليانو، استيقظ حبيبي. هيا لقد أشرقت الشمس»
تململ بانزعاج فمالت متابعة بمرح
«من الذي سيكمل عامه الثاني عشر اليوم؟ جولي حبيبي، أليس كذلك؟»
فتح عينيه فجأة يرمقها بنزق ثم هتف بتذمر
«جولي من؟ هذا اسم للفتيات يا آنجي توقفي عن مناداتي به أرجوكِ»
رفعت حاجبًا مشاكسًا جعله قبل أن تهجم عليه مدغدغة
«آآآه انظروا من احمر خجلًا الآن»
تلوى محاولًا الابتعاد عن أصابعها المدغدغة وتوسلها بضحكات مكتومة
«يكفي توقفي... آنجي، توقفي»
ابتعدت تضحك عبر دموع سعادتها ليعتدل هو لاهثًا ويقول
«لن تكبري أبدًا، ستظلين طفلة»
ضحكت وهي تشعث شعره بأصابعها
«من الطفلة، هه؟ ليس معنى أنك كبرت عامًا أن شيئًا سيتغير، سأظل أنا الكبيرة»
رفع حاجبًا خبيثًا وقال ببراءة
«آه، بالطبع»
«آه بالطبع؟! وماذا يعني هذا؟ هل تسخر مني؟»
هز كتفيه ببساطة فضيقت عينيها بتنمر، ضحك فاستسلمت لضحكتها واحتضنته
«عيد ميلاد سعيد، جوليانو»
احتضنها بما سمحت قوته وابتعد يرمقها بحب مماثل
«أنتِ لا تنسين أبدًا وتصرين على الاحتفال به كل عام»
«بالطبع، كم جوليانو لدي؟»
قال معترضًا
«ولكنكِ لا تحتفلين بعيد ميلادكِ أبدًا»
«لكنني أحتفل به بالفعل»
قالت مبتسمة بعد لحظة تردد وتابعت مربتة على شعره
«أنا أحتفل به مع عيد ميلادك يا روح آنجي»
وغمزت بعينها بمرح مفتعل قبل أن تنهض
«أليس هذا أفضل ويجعل الفرحة مضاعفة؟ هيا، لا تحاول خداعي لتبقى في سريرك. هيا انهض لدينا يومٌ طويل»
راقبها في صمت وهي تبتعد قبل أن تتوقف عند الباب تبتسم
«مسموحٌ لك بالسهر الليلة استثناءً يا صاحب الحفل»
أومأ مبتسمًا وتابع خروجها لتبهت ابتسامته، يعلم أنّها تخفي حزنها وألمها عنه وتحاول إسعاده بكل الطرق. منذ كبر وبدأ يستوعب وضعهما حتى صار يكره كونه صغيرًا وعاجزًا، يعرف أنها ستحزن إن عرفت أنه كثيرًا ما تمنى لو أنه مات مع أسرتهما ولم يبق ليكبلها بمرضه وصغر سنه وخوفها الدائم عليه وسعيها الدائم لتوفر المال لعلاجه ودراسته. إن لم يكن مقدرًا له الموت معهم فلماذا على الأقل لم يكن شقيقها الكبير الذي يتحمل عنها المسؤولية؟
دمعت عيناه وهو ينظر لصورتهما المجاورة لفراشه، تحتضنه فيها كأم رؤوم بابتسامة لا تفضح ما داخلها من آلام. تظن أنه لا يسمعها وهي تبكي في غرفتها ليلًا بعد تركها له بابتسامتها, كان يتسلل ليقف أمام بابها يستمع لبكائها المكتوم، يكتفي بوقوفه هناك حتى يختفي بكاؤها ويعود لغرفته وهو يدعو الله أن يكبر بسرعة ويُشفى ليعوضها عن كل ما لاقت لأجله. انتبه على صوتها، فالتفت ليجدها تقف أمام الباب بقلق
«ما بك؟ أناديك منذ فترة، ظننتك نمت من جديد»
لم يرد وهو يقاوم دموعه فقالت بخوف
«حبيبي، أنت بخير؟»
نهض ببطء ليتجه إليها ولف ذراعيه حول خصرها يحتضنها بطريقة دفعت الدموع لعينيها بينما يهمس باكيًا
«أحبكِ كثيرًا يا آنجي»
ابتسمت مقاومة دموعها واحتضنته
«وأنا أحبك يا روح آنجي وكل دنياها»
رفعت رأسه ومسحت دموعه بحنان
«هل سنبكي في هذا اليوم السعيد؟ هيا، اذهب واغتسل واستعد»
وضحكت غامزة بمرح
«سنؤجل البكاء لوقتٍ آخر، أما اليوم لن نفعل شيئًا سوى المرح والسعادة. لا شيء غيرهما سيدخل بيتنا اليوم، مفهوم؟»
أومأ لتحتضنه من جديد وهي تدعو الله أن يحفظه لها سالمًا وألا يأتي ذلك الوقت الآخر الذي يبكيان فيه وأن تدخل السعادة بيتهما اليوم ولا تغادره أبدًا.
***************
انتهى الفصل
قراءة ممتعة ❤️❤️
أنت تقرأ
سديمُ عشق "ثلجٌ ونار"(الجزء الثاني من سلسلة حكايات الحب والقدر) (قيد المراجعة)
Lãng mạnنظرت في عينيه اللتين أخبرتاها بصدقه .. هي تعرف هذا .. تعرف أن ما فعلته قديماً قضى على كل أملٍ لديها لتحصل يوماً على مغفرته .. لكنّها لا تبحث عن المغفرة وحتماً لن تركع لتطلبها .. قاومت تأوهاً كاد يغادر شفتيها وأصابعه تنغرس في ذراعيها بقسوة، لكنّها فش...