الثامن والثلاثون

1.4K 238 221
                                    

عودة الربيع تعني عودة الألوان المبهجة، وعودة الكائنات للانطلاق.. تسابق نسمات الربيع العليلة، وتعانق أشعة الشمس الدافئة بحبورٍ يبهج القلوب وينعش النفوس. ببساطة عودة للحياة.

إلا أن "ساشا" كانت تنتظر حلولَ الربيع لسببٍ آخر.. انتظرته بشوقً -يفوق شوق المحبين جميعاً- لأن عودته تعني عودة ربيعها الخاص لحياتها وقلبها، بعد شتائه الكئيب الموحش. لم تظن للحظةٍ أن هذا الشتاء سيحكم قلبها للأبد.

لم تترك "ساشا" حجرتها منذ أن دخلتها بعد ذلك الخبرِ الصادمِ الذي تلقَّته قبل يومين.

بل لم تترك فراشها، وأعفتها "جوزيت" عن العمل بسبب حالتها التي عكست بصدقٍ إعياءها وشحوبها المقلق. بدت متعبة إلى حد عودة جدتها لقضاء الليلتين في الحجرة –التي تشارك فيها "ساشا" أحياناً- معتذرةً لليدي "جيسيكا" عن البقاء في حجرتها القريبة منها في الأعلى.

وضعت "جين" كفَّها على جبين صديقتها الممددة داخل فراشها وهي تقول:

- لا تعانين من الحمى.

وضَّحت "ساشا" وهي تنظر إليها بعينين باهتتين يسودهما الإرهاق:

- أخبرتكِ أنني لا أشكو منها.

- لمَ تعانين من التعب والإرهاق إذاً!! لماذا تلازمين الفراش ليومين متتالين؟

لم تنتظر "جين" إجابةً على أسئلتها بينما أناملها تبعد الغطاء عن جسد "ساشا" الخامل لتأمرها بالنهوض:

- هيَّا.. ليس لأن جدتك هي كبيرة الخدم هنا تتدللين، وتتركين كامل مهامك على عاتقي.. أنتِ المسؤولة عن شؤون اللورد، وهو لم يعد بمفرده. لديه زوجةٌ الآن، وأنا لا أستطيع إضافة شؤونهما إلى مهامي الأساسية.. هيَّا انهضي.

أرغمت "ساشا" جسدها المتعب على النهوض قليلاً لتستند على ظهر سريرها الحديدي، ثم أبعدت خصلاتها البندقية عن ملامحها الشاحبة وهي تتمتم بصدق:

- أشعرُ بالدوارِ بالفعل ما إن أترك الفراش. لا أعلم ما يصيبني، لكنَّني لستُ بخيرٍ أبداً.

- هذا لأنكِ لا تأكلين جيداً. لقد حلَّ الربيع ببهائه وسحره، وأنا واثقةٌ أنَّ كلَّ ما تحتاجينه هو هواءٌ نقيٌ، وطعامٌ شهيٌ، وستستعيدين طاقتك بسرعة.

ثم ابتعدت لتجلب الصينية الموضوعة فوق سرير "جوزيت" الخالي، وقد احتوت على أطباقٍ منوعةٍ، وضعتها فوق حجر صديقتها مطالبةً إيَّاها بتناولها، ولم تتركها إلا بعد أن نالت "ساشا" ما يكفيها، ثم تركتها "جين" وهي تطالبها بتبديل ثيابها واللحاق بها.

زفرت "ساشا" بعمقٍ بينما كانت تجلس على طرف الفراش وقدماها تستقرَّان على أرض حجرتها الساكنة.. لا بد أن تأتي هذه اللحظة.. لن تبقى هاربةً من رؤيته إلى الأبد.. عليها مواجهة قدرها ووعي انتهاء حلمها برفقته.. أغمضت عينيها وهي تضغط بكفَّيها على طرفِ مرتبتها الخفيفة.. هذا الألم الذي يوخز قلبها لن يزول بسهولةٍ. هي مدركةٌ للوجع الذي ستعانيه عند رؤيته، ومستعدةٌ لمحاربة الدموع التي ستبارزها كلَّما لمحته.

جلوسترشير..   مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن