جلست "ميليسا" إلى الطاولةِ القريبةِ من نافذةِ حجرة نومها، ثم فتحت الدرجَ الصغيرَ -الذي يتوسطُ الإطار العريض المحيط بأسفلِ سطحها الخشبي المصقول- لتخرج دفتر صغير، بدأت تنفث عبر صفحاته ما تعايشه منذ احتلال الوباء لريفهم الحبيب، وفرض سيطرته على أرجائه.
فتحت دفترها على صفحة جديدة، لتبدأ بتسجيل التاريخ أعلى الصفحة قبل أن تنتقل إلى سطرها الأول.
(لا زلتُ حتى الليلة بصحةٍ جيدةٍ، فلم يختارني المرضُ إلى الآن، لكنني أترقبُ ما سيحمله الغدُ من ضحايا جدد قد أكون أحدهم.
لقد انقلبت حياتنا رأساً على عقب، أصبحت الوحشة رفيقنا، والمرض هاجسنا الوحيد. لم يعد شروق الشمس مرتبطاً بحياةٍ متجددةٍ، بل إعلاناً لنهاية حياة أحدهم، وبدايةً لوداعِ آخر.
الفقيد لا يجد من يشيَّع جثمانه، والفاقد لا يحظى بمن يواسيه. لا يشارك منَّا الآخر أحزانه، ولا يشاطره العزاء. فالوباء ونهايته الحتمية تُبقي المريضَ في فراشه، وترغمُ الصحيحَ على التحصُّنِ في منزله)
تملكتها رغبة شديدة في تسطير كلمات خاصة لحبيبها الغائب، فلم تتردد عن محاورته وهي تكمل بوحها البائس..
( كم أنا سعيدةٌ بأنَّكَ بعيدٌ عن كل هذا، فلستُ بحاجةٍ للانشغالِ بك، والقلقِ بشأنك. رغم أنني أشتاق إليكَ للغاية، بل و يزداد شوقي كلما فكرتُ أنَّ الموت قد ينتشلني قبل أن نلتقي ثانيةً.
لقد اخترتَ الفراق رغم بقائنا على قيد الحياة. ما إن تسلل هذا الوباء القاتل إلى حياتنا حتى أدركتُ أنَّ هناك فرقٌ عظيمٌ بين الفقد والفراق، وقد أعتقدتُ أنني فقدتك بافتراقنا.
وبات سؤالٌ يرافقني طوال الوقت... هل لو كان ثمن الأرض هو فقدي هل كنتَ ستبقى على عنادك، وتصرُّ على استردادها، أم كنتَ ستضحي بها لأجل بقائي؟!!!
قلبي يصرُ على إخباري أنَّه رغم جفائك وكبريائك القاسي إلا أنَّك لم تكن لتقبل بفقدي في سبيل تلك الأرض التي فرَّقت بيننا، لكنني تمنيتُ حقاً سماع الإجابة منك.
فلتبقى سالماً حيث أنت.
"ميليسا بلير")
أخذت نفساً عميقاً لتزفره ببطء وهي تغلق دفترها، تحدث نفسها أن هذه الطريقة الوحيدة التي قد توصلها ب"هوارد ديكنز" إن عاد إلى "جلوسترشير" وقد انتشلها الموت.
ربما أن هذه الصفحة قد تكون الأخيرة، وربما سيأتي الغد لتكتب أخرى. لا يمكنها ضمان شيء.
لم تكن مشاعرها أو أفكارها مستقرة، لكن التحدث عبر هذه الصفحات الوسيلة الوحيدة التي تشعرها أنه لا يزال قريباً منها.. تحادثه، تعاتبه، وتشتكي إليه... وكم تحن لكل هذا.
********
لم تستطع "دورندا" الاستسلامَ للنومِ.. كانت بحاجة ماسة للجوء إلى رفيقٍ يشاركها ليلها الطويل، ويعينها على الهربِ من أفكارها المرعبة، ومخاوفها التي لا تهدأ.
أنت تقرأ
جلوسترشير.. مكتملة
Romanceدعوة لزيارة أحد أرياف انجلترا الخلابة.. حيث يحتضن السحر كل بقعة يحتويها، ويتجلى الجمال الذي يثير حواسك أينما توجهت. هناك ستلتقون بشخصيات نسجتها من خيالي المحب لتلك الحقبة الفيكتورية المتميزة. أشخاص عاشوا حياة طبيعية يتخللها المرح والترح.. الحب والكر...