التاسع والسبعون

1.5K 218 182
                                    

استحوذت رعشةٌ عنيفةٌ جسد "مارك" وهو يخطو إلى داخل تلك الردهة الواسعة؛ التي طالما التقته فيها "مونيكا" -عند عودته- بضحكةٍ جميلةٍ وهي تخبره أنَّها اشتاقت إليه، أو بملامحٍ عابسةٍ لتشكو تأخره.

انتفض قلبه بقوةٍ وهو يحدِّق في ذلك الممر الخالي الذي اعتادت الظهور منه لتتوقف خطواته دون أن يزيح عينيه الخضراوين، وكأن توقع ظهورها سيحضرها بالفعل. بقي واقفاً في مكانه للحظاتٍ طويلةٍ حتى تغلَّب تعقله على أوهامه ليجرَّ خطواته المتثاقلة نحو السلالم المؤدية إلى الطابق العلوي.

رغم افتقاد "مارغريت" لتواجده إلا أنَّها انزوت بعيداً دون أن تفكرَ في إلقاء التحية، فهذا الرجل الذي أمامها ليس زوج سيدتها الذي عرفته. لم ينثر البهجة في المكان، بل زاده وحشةً.. لم تبهجها رؤيته بل ضاعفت حزنها، وقد آلمها ذلك الأسى الذي نحت آثاره على تقاسيم "مارك" الجذابة؛ طامساً بشاشته المعتادة، حاكماً على روحه المرحة بالموت.

لقد ضاعف قدومه من شوقها لسيدتها الراحلة، وهذا أسوء ما في عودته إلى هنا.

ارتعد قلبه وارتعشت قدماه على نحوٍ أرعبه وهو يقف أمام باب الحجرة التي شاركها "مونيكا". وجرَّ ساقيه المرتعشتين إلى الداخل بينما الدموع تغشى رؤيته.

لم يعتد دخول الحجرة ليجدها باردةً على هذا النحو الذي يرسل قشعريرةً باردةً إلى أرجاء جسده، ولم يُحِطه هذا السكون الكئيب من قبل إلى هذا الحد الذي يثيرُ داخله ضيقاً يكاد يخنق أنفاسه الواهنة.

كل شيء من حوله بدا فاقداً لجماله المعتاد، خالياً من تلك الروح العذبة التي كانت تنثر بهجتها وسحرها في كل جزءٍ ينتمي إليها.

لم يكن هناك شيءٌ يدل على الحياة سوى عينا "روميل" القابع في مكانه المظلم دون أن يفكرَ بالإسرع إلى "مارك" الذي ازداد انهمار دموعه، فأشاح بوجهه عن "روميل"، وألمٌ عظيمٌ يخترق قلبه أشعره بحاجةٍ ماسةٍ لاستنشاق الهواء.

فتح النافذة على مصرعيها سامحاً للهواء البارد بالتغلغل إلى رئتيه دون أن يطفيء النار المشتعلة داخله.

لم يستطع "مارك" احتمال رؤية ذلك الرفيق الذي طالما اقترن وجوده بوجود مالكته الرقيقة برفقته، ليظهرا معاً كرفيقين متضادين شكلاً، متناغمين روحاً. وها قد فقد ذلك الجسد الضخم الحياة بفقد صاحبته. ظلَّ "روميل" بعيداً وكأنَّه يرفض وجود هذا الدخيل بما أنَّ "مونيكا" التي فرضته عليه غير موجودة لتجمعهما.

بقي "مارك" جالساً قريباً من النافذة يطلق العنان لأحزانه، منفرداً بشوقه وشجونه دون أن يخشى إثارة كمد والدته واستياء والده، أو لوعة شقيقته.

حرَّر دموعه وأعتق قيد آهاته لتتعالى في أرجاء الحجرة الموحشة، لا يستمع إليها سوى "روميل" الذي لم يملك ما يقدمه له سوى مراقبته بصمتٍ غريبٍ.

جلوسترشير..   مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن