السادس والسبعون

1.5K 225 338
                                    

في مثلِ هذه الأيام العاصفة، بسبب البرودة التي تشتدُ يوماً بعد يومٍ، كان من الطبيعي أن تتسللَ الوحشة إلى الطرقات ما إن يبدأ الليل بسدلِ ستاره القاتم، لكن هذا السكون الموحش، والكآبة المخيفة كانا يجثمان حتى على نهارِ "جلوسترشير"؛ إذ أن الجميع يلتزم منزله هلعاً من الاصابة بالعدوى، ولم تعد تٌقام الزيارات، ولم تتم مبادلة بطاقات المعايدة، أو الانشغال في صنع هدايا العيد التي يتم تجهيزها خلال الشهر الأخير السابق لعيد رأس السنة.

المكان الوحيد التي تدب فيه الحركة دون حياة هو المكان الذي يحوي الموت المؤكد؛ العيادة، والكنيسة. فقد كانتا تشهدان المزيد من الحالات كل يوم. تستقبل حياة على وشك الانتهاء، وتودع ما انتهى منها.

روائح الأقمشة المحترقة، والمحاليل الملحية، والمطهرات تبعثُ المرض بشكلٍ آخر.

لم تشعر "مونيكا" بالرغبة في النهوض من فراشها، وقد كرهت هذا الروتين الموجع؛ من قضاء الوقت في انتظار عودة زوجها من بين المرضى والموتى، واحتمال اصابته ترافق مخيلتها طوال هذه الفترة العصيبة.

مسحت بكفِّها الناعم الجزء الخالي من فراشها الدافىء، وهي تحاول طرد هواجسها ومخاوفها، وبقيت تردد الصلوات في سرِّها ليحفظ الإله زوجها من كل سوءٍ حتى عادت لتغرق في النومِ لساعاتٍ أخرى.

طرقت "مارغريت" باب حجرة سيدتها قبل أن تفتحه بهدوءٍ شديدٍ إلا أنَّ الفراش كان خالياً. جابت بعينيها المتعجبتين أرجاء الحجرة وهي تنادي بإسم سيدتها دون أن تجد رداً. وقبل أن تغادر وصلها صوتاً ضعيفاً يردد اسمها فأسرعت "مارغريت" بفزعٍ نحو الجهة البعيدة من السرير لتجد "مونيكا" متقوقعة حول جسدها وهي تجلس على أرض الحجرة.

- ما بكِ سيدتي؟!!

تمتمت "مونيكا" بإعياءٍ شديدٍ وهي ترفع وجهها الشاحب إلى خادمتها:

- أشعر بالإرهاق، لقد عدتُ لتوي من الحمام بعد أن أفرغت ما بجوفي، وأشعر بالبرودة تجمِّد أطرافي.

أحاطتها "مارغريت" بذراعيها لتساعدها على النهوضِ متمتمةً باضطرابٍ ممتعضٍ:

- لا بأس سيدتي.. من الواضح أنَّ قلقك على السيد "مارك" سيؤثر على صحتك. هيا سيدتي فلتستلقي على فراشك وسأحضر لك شرابك، وسأجدد هواء الحجرة حتى تسترخي تماماً. يجب ألا تواجهي نوبةً أخرى.

حاولت "مونيكا" أخذُ دفعاتٍ كبيرةٍ من الهواء لتخفف من الضيق الجاثم فوق صدرها، وازداد شعورها بالدوار بينما كانت تنتصب واقفةً، فأسرعت تغمض عينيها لتترك جسدها الخامل يسترخي بين ذراعي خادمتها؛ التي ازداد خوفها وهي تطالبها بالتماسك.

- سأرسل في طلبِ السيد...

إلا أن "مونيكا" امسكت بذراع خادمتها متمتمة بإعياء:

جلوسترشير..   مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن