الرابع والثمانون

1.7K 218 212
                                    

أثقل الألم صدر "هوارد" وهو يحثُّ خيله على الإسراع نحو منزل السيد "باركر". فقدُ السيدة "اليزابيث" يدمي قلبه، ويغرق مشاعره في حزنٍ عميق فكيف بأفراد أسرتها وعلى الأخص صديقه العزيز.

ارتجف قلبه بعنفٍ وصورة "ميليسا" تعود لتسيطر على مخيلته. وعاد السؤال المخيف يستحوذ عليه .. هل هي من خلى منزل آل"بلير" منها، أم أنَّه شخصٌ آخر؟
تنهد بأسى بينما عيناه تحدقان في الطريق أمامه. حتى لو كان السيد "بولين" هو الفقيد فذلك سيؤلم "هوارد" كثيراً. فبعد أن اتضحت له الحقيقة زالت كراهيته نحوه، وبات يأمل أن يبقى على قيد الحياة لتتاح له الفرصة لتصحيح أخطائه نحوه، وتعويض ما فات.

كان السيد "توماس" قد صعد إلى حجرته منذ مشاركته ابنه الأكبر شاي الظهيرة، فرافق الخادم "هوارد" إلى حجرة المكتب، ووضَّح الأخير أنَّه سينضم إلى صديقه دون الحاجة لطلب إذناً منه، فاستجاب الخادم على الفور إذ أنه يعي علاقة سيده بهذا الزائر.

لم يتصور "جاري" للحظة أن الطرقَ على بابِ حجرةِ المكتب سيعقبه ظهور "هوارد ديكنز".

نهض "جاري" عن مقعده وهو يحدِّق في صديقه للحظاتٍ قبل أن ترتسمَ إبتسامةٌ منذهلةٌ على شفتيه -يغمرها الشوق و السعادة- دفعت ب"هوارد" لمدِّ خطواته معلناً عن فقده العظيم.

ابتعد "جاري" عن طاولة مكتبه ليعانق صديقه بشدةٍ مرحباً بعودتهم إلى "جلوسترشير"، وقد تهدَّج صوته مما أثار مشاعر "هوارد" الموشكة على الإنهيار، لكنه نجح في قمعها، مكتفياً بتحريرِ آهةٍ عميقةٍ؛ عبَّرت عن الكثير بينما كفُّه تربت على ظهر صديقه دون أن ينهي عناقهما الحار قائلاً:

- كم خشيتُ ألا أحظى بهذا اللقاء.

أغمض "جاري" عينيه برضا كبير وقد شغلته هذه اللحظة بالفعل منذ انتقال "هوارد" بشقيقتيه إلى "لندن"؛ وقبل سطوة الوباء على حياتهم.

تمتم "جاري" بتأثرٍ واضحٍ:

- افتقدتك كثيراً يا صديقي العزيز.

نظر "هوارد" إلى وجه "جاري" وهو يبتعد خطوةً قصيرةً ليقول بأسى صادق:

- آسف لفقدكم الثمين.

اكتسح الألم عيني "جاري"، وظلل الحزن ملامحه العذبة وهو يرد على مواساة صديقه بتمتمةٍ يخنقها الوجع الساكن في حنايا روحه الثكلى. وأضاف "جاري" بأسفٍ كبيرٍ:

- لا أعتقد أنَّ هذا الوباء ترك عائلةً دون أن يختطفَ أحدأً منها.

ازدادت خفقات قلب "هوارد" تسارعاً وهو يغتصب الحروف متسائلاً:

- هل "ميليسا" بخير؟

نظر "جاري" في حدقتي "هوارد" التي التمعتا ببريقٍ جزعٍ يتآكله ببطء، فلم يتركه فريسة لذلك الخوف الذي يتملكه ليريحه مؤكداً:

- "ميليسا" بخير. لم تصب بالمرض.

زفر "هوارد" بعمقٍ وهو يشيح بوجهه ليبتعد نحو المقعد على يمين المكتب، وألقى جسده داخله بينما آهةٌ منهكةٌ تخرج من أعماقه.. آهةٌ خلَّصته من ثقلِ مشاعر الفزع والتشاؤم التي أبت مفارقته لمدةٍ طويلةٍ؛ عايش خلالها أسوء ما يمكنه معايشته يوماً، وترك عواطفه تتحرر؛ محدثة طبقة رقيقة من الدموع فى عينيه.

جلوسترشير..   مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن