2

47 4 0
                                    


استيقظت من النوم و تفاجأت من كوني لم أرى ذاك الكابوس في منامي، حيث أتعرض للمطاردة و تنقذني تلك الغريبة ، إما أن الأمر صدفة أو أن الكوابيس توقفت لأنني قابلتها بالفعل، نظرت إلى المنبه على المنضدة لأجد الساعة تشير إلى التاسعة و الربع، لقد قابلت الغريبة أمس عند الساعة التاسعة و النصف، أريدها أن تكمل لي ما حدث لنور، فقفزت من السرير و فتحت دولاب الملابس و آخذ أول شيء تقع عليه عيناي، ثم أتجه نحو دورة المياه .
توقفت سيارة الأجرة قرب رصيف الميناء لأدفع أجرة السائق و أترجل نحو ذلك المقعد، وجدتها بالفعل هناك، مرتدية فستانا أسودا طويلا و مسرحة شعرها في ظفيرة، لابد أنها تحب اللون الأسود، وجهت نظري إلى يديها لأرى نفس العلبة بين أناملها، فتقدمت و جلست بهدوء، لتقول :" كنت أعرف أنك ستعودين " إبتسمت لها لكنها لم تنظر إلي حتى بل ركزت عينيها على أمواج البحر الهائجة، لقد كان الجو باردا أكثر من أمس، و توقعت أن المطر سيسقط في أية لحظة، لا أدري كيف خرجت الغريبة من منزلها دون معطف أو وشاح، لتكمل السرد بصوتها الخافت الممزوج بمشاعر مختلفة :" ثلاثة أيام و معدة الطفلة فارغة، شعرت بألم ساحق في رجليها، و أحد نعليها قد تمزق بالفعل، لتقع عينيها على شاحنة سلع كبيرة، فدخلت فيها و اختبأت بين صناديق السمك التي تفوح منها رائحة نتنة، وضعت الطفلة قطعة من ثوبها المتسخ على أنفها، و لم يغمض لها جفن حتى وصلت إلى تلك المدينة الساحرة، لم تدرك أنها كانت في الشاحنة طوال أربع ساعات، بل لم تشعر بشيء حتى، فقد كانت صورة أمها المعلقة إلى سقف الغرفة لا تفارق ذاكرتها، و ما أن شعرت بالشاحنة تتوقف حتى فتحت البوابة و خرجت قبل أن يراها سائق الشاحنة، لم تدرك أن تلك المدينة التي التجأت إليها هي التي ستحتضن أبشع أيام حياتها، و التي ستؤلمها و تجردها من أي رغبة بالحياة، هي المدينة التي ستجعلها تتمنى الموت ألف مرة في اليوم، و التي ستمزق كل ذكرى جميلة بحياتها، ركضت حتى شعرت بأن رجلها تكاد تبتر، و لم ترى بعدها شيئا عدا الضباب، ثم الظلام " تملكني الفضول، و شعرت بالحزن لمعاناة طفلة لم تتجاوز العاشرة من عمرها لأسأل الغريبة بقلق :" هل ماتت ؟!" لتقول :" لا، الموت أهون بكثير مما قذفته الحياة في وجهها، لقد تم نقلها من طرف أحد المارة إلى مستشفى، و حين فتحت عينيها و أدرك الممرضين أنها تحسنت سألوها عن عائلتها لتجيب ببساطة أنها يتيمة، ليتم نقلها مباشرة إلى ميتم بالمدينة، قضت هنالك أبشع أربع سنوات في حياتها، و كان الجانب الإيجابي الوحيد فيه أنها تتناول بعض الطعام، و الذي ما كانت لتحصل عليه لو ظلت متشردة، و يزورونها أحيانا بعض الغرباء ليلتقطوا مئات الصور معها و يعطونها بعض البسكويت التي لم يبق على انتهاء صلاحيتها سوى بضع أيام، ثم يغادرون لينشروا تلك الصور في حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي ليظهروا للآخرين مدى طيبتهم المزيفة، ليأتي ذاك اليوم المشؤوم الذي قلب حياتها رأسا على عقب، لمحت من نافذة تلك الغرفة ذاك العجوز الذي كسى الشيب رأسه، و بطنه المنتفخ كامرأة في آخر شهر حملها، كانت نظراته الحادة تعكس ذاك الشيطان القابع بداخله، بدا لها كالوحش الذي لطالما قرأت عنه في قصص الأطفال، و رأته في الرسوم المتحركة، لكن الوحش في الواقع أسوأ بكثير من ذاك الخيالي، دخل مكتب مدير الميتم، لتسرع إحدى الفتيات نحو نور، و باقي زميلاتها في الغرفة، قائلة أن العجوز قد عاد لأخذ المزيد من الفتيات نحو الهاوية، هي لم تفهم شيئا حينها لكنها شعرت بشيء ثقيل على صدرها، حتى أن الهواء لم يكن يصل إلى رئتها بشكل منتظم، كانت متوترة، خائفة و مرعوبة، و كان هنالك شعور آخر لم تجد تفسيرا له " وقفت الغريبة فجأة و همت بالمغادة، لكنها مدت لي زهرة بيضاء أخرى، و طلبت مني وضعها في المياه ثم رحلت و تركتني في دوامة أكثر الأفكار ظلاما، أين يمكن لذاك العجوز أن يأخذ فتيات يتامى قاصرات ؟!!

شبه حبيب [ مكتملة ]حيث تعيش القصص. اكتشف الآن