- لا حول و لا قوة الا بالله ! معقول !!
صاح " رشدي " بذلك مشدوهاً ، ثم تابع :
- معقول العيال بعد ما كبرتهم و علمتهم و شقيت عشان تبنيلهم مستقبلهم ، اخرتها يعملوا فيك كده ؟ و عشان ايه ؟ عشان كنت عايز تساعد اخوك و تقف جنبه في محنته !!
إحتشدت الدموع بمقلتي "توفيق " و هو ينظر إلي " رشدي " في خزي قائلا بصوت متهدج إنفعالاً :
- سألت نفسي كل الاسئلة دي يا رشدي ، مالقتش اجابة تريحني ، كأن راجل غيري هو اللي رباهم ، كأن راجل غيري كافح و شقي طول السنين دي عشانهم.
عبس " رشدي " قائلا بصوته العميق :
- جري ايه يا توفيق ؟ بتدمع و لا ايه ؟ لا اجمد كده و خليك شديد و ارمي ورا ضهرك مسيرهم يرجعولك و يستسمحوك كمان.
بمرارة تقطرت من صوته قال :
- يرجعولي ! بقولك ورثوني بالحيا و بقي معاهم ملايين.
ثم أردف بآسي :
- انا دلوقتي بقيت ميت في نظرهم يا رشدي.
ضغط " رشدي " علي شفتيه في تأثر آسف ، ثم مد يده عبر الطاولة الصغيرة و ربت علي كتف صديقه قائلا :
- و لا يهمك يا توفيق ، هما العيال كده ، لما بيكبروا بيحبوا يخرجوا عن طوع اهاليهم ، طيش ، طيش يا توفيق.
أومأ " توفيق " رأسه متنهداً ، ثم عاد ينظر إلي "رشدي " قائلا في إستحياء :
- انا كنت قصدك في طلب يا رشدي.
- يسلام ! طلبين يا توفيق مش طلب واحد اؤمر ؟؟
كم وجد صعوبة في صياغة كلماته قبل أن يقولها ، لكنه إنطلق يقول بصوت مرتج قليلاً :
- كنت عايزك تشوفلي اي حتة هنا اقعد فيها ، انا زي ما قلتلك سيبت البيت و ..
- طب بس ماتكملش.
قاطعه " رشدي " واجماً ، ثم تابع مقرراً :
- انت هتيجي تقعد عندي في الشقة ، مين قالك اصلا اني كنت هسيبك تمشي من هنا و انت في الظروف دي !!
أهداه " توفيق " إبتسامة خفيفة ، ثم قال في تردد :
- متشكر يا رشدي ، بس انا مش عايز اكون ضيف تقيل علي المدام و الاولاد.
- مدام و اولاد !!
هتف " رشدي " باسماً في سخرية ، ثم إنفجر ضاحكاً و قال :
- مدام و اولاد ايه بس يا عم توفيق قول يا باسط.
- انت لسا ماتجوزتش يا رشدي ؟ معقول ؟؟
عاد " رشدي "بجسده يستند إلي ظهر مقعده ، ثم تنهد قائلا :
- ماتجوزتش يا توفيق ، بس في واحدة ايه .. معششة في قلبي ، و مخيشة في نافوخي.
- طب ماتتجوزها يا اخي !!
هتف " توفيق " متعجباً ، بينما زم " رشدي " شفتيه آسفاً و قال :
- يا ريت ، بس ماينفعش.
- ليه كده ؟؟
لمعت عيناه خبثا ، ثم أجابه بإبتسامة واسعة :
- اصلها متجوزة.
- يخربيتك يا رشدي ! عامل علاقة مع واحدة متجوزة ؟!!
- ايه يا جدع ماتفهمنيش غلط ، انا علي علاقة بيها اه لكن عمري ما عملت معاها حاجة في الحرام ، انا بردو رشدي مجالات كبير الحتة و ليا سمعتي.
- اه صحيح !
صاح " توفيق " متذكراً ذلك اللقب الغريب ، ثم سأله :
- ايه حكاية رشدي مجالات دي ؟ الواد صبي القهوة لما سألته عن رشدي هلباوي اصر انه رشدي مجالات مش هلباوي ! ايه حكاية مجالات دي ؟؟
قهقه " رشدي " بمرح ثم أجابه :
- دي حكاية طويلة ، هبقي احكيهالك بعدين.
و فجأة سمعا صوت نزاع حاد آت من منتصف ( الحارة) فهب " رشدي " واقفاً علي قدميه ، ثم إتجه نحو التجمهر يتبعه " توفيق " بينما علي الطرف الأخر ، صاحت بصوت مجلجل تلك المرأة الأربعينية ذات القوام الشرقي الجذاب :
- هي الخمسة جنيه مافيش غيرها و لو مش عاجبك خلي عنك خالص.
بينما باغتها بوقاحة ذلك الشاب الأسمر الهزيل قائلا :
- صدقي انتي ولية ماعندكيش دم ، بقي جايبك من المشوار ده كله رايح جاي و تديني خمسة جنيه ! ليه ؟ هو التوكتوك فلوسه حرام و لا ايه ؟ طب عليا النعمة ما انا متعتع من هنا الا اما اخد في ايدي عشرة جنيه فوق الخمسة دي.
- بس يابني انت ، ايه مالك في ايه ؟؟
قالها " رشدي " بصوته العميق و هو يحول فيما بينهما ، بينما إلتفت إليه الشاب ذا الأسنان الصدأة قائلا بتبجح :
- الولية ام لسان ذفر دي جايبها من اخر بلاد المسلمين رايح جاي و في الاخر بتديني خمسة جنيه !!
- احترم نفسك ياض انت لأقل ادبي عليك بجد.
هتفت السيدة في حدة بالغة و قد تضرج وجهها بحمرة الغضب ، بينما تدخل " رشدي " في هدوء حازم قائلا :
- خلاص يا ست دلال ، اسكتي انتي لو سمحتي.
ثم توجه بالحديث إلي الشاب :
- و انت يابني ، خدت الست منين و وديتها فين بالظبط ؟؟
- خدتها من هنا يا بشمهندس و بعدين وديتها الضراسة ، و من الضراسة رجعتها هنا بردو.
- بس الضراسة مش بعيدة اوي يعني.
قالها " رشدي " متململاً ، ثم تنهد بثقل و سأله :
- ما علينا ، انت عايز كام يعني ؟؟
- عشرة جنيه.
أجابه مسرعاً ، فدس " رشدي " يده بجيب سرواله دون كلام و أخرج ورقة نقدية بعشرة جنيهات ، ثم أعطاها للشاب قائلا :
- خد يا سيدي.
تهلل وجه الشاب و هو يطوي النقود بيده ، ثم يضعها داخل جيبه ، بينما صاحت السيدة " دلال " معترضة بشئ من الخجل :
- انت بتعمل ايه بس يا سي رشدي مايصحش كده.
ثم أضافت و قد إحتدت نبرة صوتها :
- هو خد حقه علي داير مليم ، انما تقول ايه في الطمع و قلة التقوي !
- خلاص بقي يا ست دلال ، و انت يابني يلا اتكل علي الله و بعد كده ابقي اتعلم ازاي تتكلم بإحترام مع الناس.
شدد " رشدي " علي أخر كلماته و هر يربت علي كتفه بقوة ، فيما أومأ الأخير رأسه إيجاباً ثم رحل في هدوء و هو يرمق " دلال " شذراً ، بينما توجهت " دلال " صوب " رشدي " علي إستحياء باسمة ، ثم تطلعت إليه قائلة :
- انا مش عارفة اقولك ايه يا سي رشدي !
أهداها " رشدي " إبتسامة عذبة بدوره و قال :
- ماتقوليش حاجة يا ست دلال ، انا ماعملتش حاجة كبيرة يعني.
- عموماً ماتقلقش انا هردلك فلوسك ، قبل المغرب بأمر الله هيكونوا عندك.
قست ملامحه و هو يؤنبها :
- عيب كده يا ست دلال ، انتي كده بتشتميني.
فشهقت " دلال " قائلة :
- معاذ الله ياخويا ونبي ماقصدش انا بس آا ..
- خلاص يا ستي قولنا مافيش حاجة.
قالها بصرامة منهياً للمجادلة ، فإبتسمت هي برقة ، ثم حولت بصرها نحو " توفيق " الواقف إلي جوار " رشدي " يتابع ما يجري من حوله في صمت ، بينما راحت تتآمله لبرهة ..
لم يكن وسيماً ، و لكنه بالتأكيد كان جذاباً بنظرها ، فجذبيته تكمن بتلك الهالة العجيبة التي أحاطته ، إنه هادئ للغاية ، شديد الملاحظة ، بدا لها ساحر و لطيف ، كما أنه كان أنيقاً أيضاً و هو داخل بذلته الداكنة و جزمته اللامعة .. :
- ده الاستاذ توفيق علام ، صاحبي يا ست دلال.
قالها " رشدي " عابساً عندما لاحظ نظرتها المتفحصة لصديقه ، بينما إستطاعت أن ترسم إبتسامة مرتعشة علي شفتيها ، ثم ألقت عليه التحية بصوت أبح :
- اهلا يا استاذ .. الغورية منورة.
بادلها " توفيق " بإبتسامة ودودة ، ثم قال :
-اهلا بيكي يا مدام ، متشكر اوي لذوقك.
- العفو.
قالتها برقة متناهية و هي ترمقه في إعجاب بالغ و قد تلألأت مقلتيها ببريق لامع ...***************
في منزل أخر ، أكثر تواضعاً عن سوابقه ..
وقفت فتاة بمنتصف حجرة الجلوس الصغيرة تنظر حولها برضا ، ثم قالت و البسمة تعلو شفتيها الورديتين :
- و نضفتها اخيرا ، باقي اوضة ماما بقي.
ثم فجأة سمعت صوت جرس المنزل يدق ، فذهبت و فتحت الباب ، لتصطدم بأمها و بفتاة تقف خلفها مباشرة .. :
- ازيك يا هنا ؟؟
حيتها أمها السيدة " قوت القلوب " ببشاشة ، ثم أضافت حين لاحظت جمود إبنتها :
- معايا ضيفة.
ثم إلتفتت خلفها قائلة :
- ادخلي يا هانيا ، ادخلي يا حبيبتي البيت بيتك.
تراجعت " هنا " إلي الخلف بآلية حين رأت حقائب ملابس كبيرة رابضة أمام باب الشقة ، بينما أمسكت السيدة " قوت القلوب " برسغها قائلة :
- تعالي يا هنا عايزاكي في كلمتين.
ثم نظرت إلي "هانيا " و قالت معتذرة :
- البيت بيتك يا حبيبتي خدي راحتك و انا مش هتأخر عليكي.
أهدتها " هانيا " إبتسامة بسيطة مترددة ، فقد إنتابها شعور خفي بأن وجودها بهذا البيت غير مرحب به من قِبل أحد سكانه ..
و لكنها خطت إلي داخل المنزل و هي تتفحصه بإهتمام و دقة ، كان السقف منخفضاً جداً مقارنة بسقف منزلها العال ، و الجدران مطلية بلون أبيض إستحال إلي الأصفر لفرط قِدمه ، كما كان الأثاث عتيق مهترئ ..
وقفت " هانيا " تتأمل ذلك المنزل ملياً و فكرت .. هل ستتحمل العيش هنا ؟ هل ستعتاد تلك الحياة الخشنة الجلفة ؟ و هي ربيبة القصور المدللة !!
أدركت أن ما بيدها حيلة ، و أن عليها تحمل هذا الوضع ريثما تجد حلاً و تفتش وراء هذا الرجل الذي قلب حياتها رأساً علي عقب في ليلة و ضحاها ..***************
يتبع