كانت صفحة الليل سوداء ،،
مرصعة بالنجوم ، و السكون يخيم علي ذلك القصر الضخم و المعزول نسبيا عن العالم الخارجي و الناس ..
أما النسائم الرقيقة ، فقد أثقلها آريج الأزهار و الورود علي إختلاف أنواعها و هي تتسلل إلي أنف "عاصم" من خلال شرفة مكتبه المفتوحة ، حيث كان يقف أمامها شاردا في بحر من الأفكار ..
لقد كانت جذوة الأمل بقضاء يوم لا ينسي غدا قد خبت في أعماقه بسبب ما فعله توا مع صديق عمره الوحيد "زين" ..
لقد أهانه بدرجة كبيرة ، و هو نادم أشد الندم علي ذلك ، منذ رحيله قبل قليل ، لم ينفك "عاصم" عن التفكير في كيفية مرضاة صديقه ..
و لو أنه غير واثقا من جدوي تفكيره .. فأي إعتذار ذلك الذي يمكن أن يجعل "زين" ينسي أو يتناسي ما قاله "عاصم" .. فقد كان كلامه قاسي و خارج عن المألوف بصورة كبيرة ، لدرجة جعلته هو نفسه يشعر بالذهول من ذاته.. فكيف فعل ذلك مع "زين" ؟؟ كيف ؟ ..
أفاق "عاصم" من تفكيره مغموما و هو يشد علي يديه بقوة مغمضا عينيه .. من الواضح أن الأمر سيطول قليلا حتي يجد حلا لتلك المشكلة ..
إنتقل "عاصم" بتفكيره بصورة سريعة إلي أسيرته الفاتنة .. "هانيا" ..
كل الأمور التي كانت تشغل تفكيره طوال هذا الوقت ، إحتار في إتخاذ قراراته بشأنها ، عدا الأمر الذي عزم بكل قوته علي تنفيذه ، كان محسوما و بشده ..
إذ يجب أن يتم زواجه بها و غدا كما وعدها ، حتي و لو تم ذلك رغما عنها ، فقد بات الأمر خارج عن إرادته ، إنها إرادة قلبه الأن ..
قلبه الذي لم يذق للحب طعما منذ ولادته حتي إلتقي بها ، كان قدره أن يقع في غرامها ، من دون جميع الحسناوات اللائي كان بإمكانه أن يتخير أجملهن و يتخذها ملكا له بأمواله ، إلا أنها وحدها من إستطاعت أن تنتزع الوجه الأخر للشيطان اللئيم بداخله ..
أنها الأن حبيبته ، رغم معارضتها لذلك ، رغم كرهها و نفورها منه .. إن الحب جنون منذ القٍدم ، و قد إعتاد التعقل في تصرفاته ..
لكنها غيرت فيه الكثير دون أن يدري كيف إستطاعت أن تفعل ذلك !
إنها حقا تراه وحشا ، و لكنها أيضا بإستطاعتها أن تخضع هذا الوحش لإرادتها وقتما تشاء ، فقط إذا سايرته و لبت له رغباته بطواعية .. عند ذلك لن يتردد في تقديم أي شيء تطلبه أو تتمناه ، فقد تاقت نفسه إليها ، و يريد بشدة أن ينال حاجة قلبه و عقله منها .. :
-عاصم بيه !
تناثرت فجأة أفكار "عاصم" أشلاء علي درب الواقع لدي سماعه صوت الخادمة .. إلتفت إليها بقامته المديدة الجامدة ، و سألها عابسا:
-في ايه ؟؟
أجابت الأخيرة بخفوت منكثة رأسها:
-هانيا هانم كان بقالها شوية بتخبط علي باب اوضتها و عايزة تخرج ، انا سيبتها لما هديت خالص و جيت ابلغ حضرتك ، مارضتش افتحلها الباب زي ما حضرتك امرت.
هز "عاصم" رأسه ، و بصوته الأجش قال:
-طيب .. روحي انتي دلوقتي.
أطاعته الخادمة بتهذيب ، و إنسحبت في هدوء ..
بينما ظل "عاصم" ساكنا للحظات ، ثم إتجه للخارج قاصدا حجرة "هانيا" ...************************************
إتجهت "حنة" صوب باب الشقة بوجه مشرق و هي تتبختر في خطاها ، و تختال بنفسها في غنج داخل المنامة الحمراء المثيرة التي كشفت عن أغلب أجزاء جسدها ..
و مع إستمرار دق الجرس ، هتفت بمزيج من الدلال و الرقة:
-ايوه يا حبيبي .. ايوه جاية اهو.
و فتحت "حنة" الباب ..
فصعقت من هول ما رأت .. فقد كان من يقف أمامها علي بعد إنشات قليلة ليس سوي شقيقها و زوجها ..
لقد قضي عليها لا محالة ... لوهلة ، تحجرت عيناها أمامها مضروبة بالذهول و الفزع ..
تلاحقت أنفاسها في رعب وجل ، ثم فجأة و بحركة سريعة منها ، حاولت أن تغلق الباب في وجهيهما ، و لكن عبثا فشلت محاولتها ..
إذ كان "عبيد" أسرع منها ، حيث مد قدمه يمنع إكتمال إغلاق الباب ، لم تجد "حنة" بداً من المقاومة ، فإستدارت و إندفعت للداخل و هي تصرخ و تصيح في هلع ..
إلا أن شقيقها "سالم" طوي الأرض بخطوات واسعة و وصل إليها مسرعا .. إمتدت يده بسرعة البرق و قبضت علي حفنة من خصيلات شعرها ، ثم إجتذبها بقوة وحشية إلي الوراء ..
كانت لتسقط لو أنه تركها ، بينما واجهها "عبيد" وجها لوجه في هدوء مريع و هو يحدجها بنظرة باسمة كلها شماتة ، و لم يدم صمته طويلا ، إذ ردد بصوت كفحيح الأفعي:
-اهلاااا بحبيبة قلبي و مراتي الغالية .. وحشتيني يا حنة.
ظلت "حنة" تحدق فيه بعنين جاحظتين تشعان جنونا مفزعا ، فيما إنطلق صوت أخيها الخشن أخيرا بقوله:
-اه يا فاجرة يا **** .. كنتي فاكرة اننا مش هنعرف نوصلك ؟ كنتي فاكرة انك هتفضلي هربانة منا طول العمر ؟ و ديني و ايماني لاكون دبحك بإيديا و جايب خبرك يا ******.
تثلجت أطرافها و شحب وجهها حتي البياض ، و هي تتلفت بعينيها الجاحظتين المرتعبتين يمينا و يسارا ، تاركة لسانها يهذي بكلمات غير مفهومة ..
كانت حالتها مزرية لدرجة جعلت الإبتسامة تتسرب في لحظات إلي شفتي "عبيد" و أساريره تنفرج و عيناه تلمعان ببريق النشوة و فجأة لفت نظره ما ترتديه من ملابس مثيرة لم تفكر أن ترتديها له يوما و هو زوجها ، فسألها مبتسما:
-بس ايه الحاجات الحلوة اللي انتي لبساها دي يا حنة ؟ ماكنتش اعرف انك بتليقي اوي كده و بتبقي مزة في الحاجات المقطعة !
تحولت إبتسامته إلي ضحكة كبيرة مخيفة أعقبها بأن هوي علي صدغها بصفعة هائلة جعلتها تصرخ بمنتهي الآلم ، ثم قبض بقوة بإبهامه و سبابته علي صدغيها ، و قد جاء صوته العنيف يهدر بشراسة:
-بتخنيني انا يا حنة ؟ .. نفسي اعرف ، نفسي افهم ازاي جاتلك الجرأة تعملي كده ! يا بنت الريف و الناس الغلابة الطيبين .. بقي واحد زي ابن ال *** ده يضحك عليكي ؟ يخليكي عاملة زي صندوق الزبالة ؟ .. عشمك بإيه ؟ قالك هايديكي ايه ؟ ما تنطقي و قولي طاوعتيه و سلمتيله نفسك ليه ؟ هربتي معاه ليه ؟؟
و نزل بالصفعات العنيفة علي وجهها حتي تورم تماما ، و برزت منه الكدمات بمختلف ألوانها ..
الحمراء ، الزرقاء ، و الصفراء .. شعر "عبيد" أنه فرغ فيها شحنة لا بأس بها من شحنات غضبه و غيظه ..
فقبض علي رسغها و راح يجرها جرا تجاه طاولة ربض فوقها هاتفهها المحمول ، فيما كان "سالم" شقيقها لا زال قابضا بكفه علي شعرها ..
إلتقط "عبيد" هاتفهها و فتحه ، أخذ يبحث عن رقم "مروان" حتي وجده .. أجري الإتصال به ، صوب نظراته المظلمة الغاضبة إليها و هو يحذرها بقوله:
-خدي .. كلمي الباشا و استعجليه ، قوليله يجي دلوقتي حالا و اياكي تحسسيه بأي حاجة.
و وضع الهاتف علي أذنها ، و ما هي إلا لحظات حتي أتاها صوت "مروان" العذب:
-ايه يا حبيبتي .. عاملة ايه ؟ وحشتيني جداا.
نظرت "حنة" إلي زوجها بخوف ، فيما رمقها بنظرة محذرة ، فجاهدت كي تقول بصوت عادي و هادئ:
-كويسة يا حبيبي .. و انت كمان وحشتني اوي ، آو اومال انت فين كده ؟؟
-انا جاي يا قلبي في الطريق اهو ، المهم بس قوليلي الاول .. لبستي البيبي دول اللي جبتهولك و لا لأ ؟؟
في تلك اللحظة ، لم تستطع "حنة" إلتزام الصمت أكثر ، فصرخت فيه فجأة:
-ماتجيييش يا مرواان ، اوعي تيجي علي هنا ، امشي ، اهرب.
و هنا .. أسرع "عبيد" بغلق الخط و هو ينظر إليها بغضب مدمر ، ثم إنقض عليها بالضرب المبرح و قد إنضم إليه "سالم" ..
فما كان منها سوي أن راحت تطلق صراخاتها المتتالية و التي ضعفت حتي خبت تدريجيا ...************************************
علي الطرف الأخر ..
إستطاع "مروان" أن يسمع تحذير "حنة" .. فدب الذعر في قلبه ، و راح يفكر ، تري ما الذي يحدث معها ؟
إزدحم عقله بأفكار عديدة جميعها سيئة ، أبرزها فكرة تمني ألا تكون صائبة ، أزاد من سرعة سيارته بدرجة كبيرة ، و قد حولها علي الفور إلي آلة مجنونة مثله راحت تلتهم الطرقات بوحشية و هي تصدح بأعلي صوتها المسعور ، حتي أنه في أقل من عشرة دقائق كان يقتحم مدخل العمارة التي يقطن بها مع عشيقته .. "حنة" ..
إندفع "مروان" مباشرة نحو الدرج ، فلم يتخذ المصعد ، إرتقي الدرجات قفزا ، إثنتين إثنتين ..
حتي وصل إلي طابق شقته لاهثا .. كان باب الشقة مواربا ، فقفز "مروان" جريا صوبه و دفعه بقوة ..
دلف للداخل ليجد الآتي .. "حنة" ملقاة أرضا ومتكومة علي نفسها تحت أقدام زوجها و شقيقها و قد إنسابت الدماء من كل أجزاء جسدها بسبب الضرب الذي تعرضت له علي أيدي كلا من "عبيد" و "سالم" ..
جن جنون "مروان" جراء هذا المنظر ، فركض نحوهم و هو يزعق بأعلي صوته كالمجنون ..
إنتبه الإثنان إليه ، فتركا "حنة" مكانها و إندفعا نحوه ، دارت العركة بين الثلاثة لمدة قصيرة ، إستطاع فيها "سالم" و "عبيد" أن يتفوقا علي "مروان" و أخذا يتناوبا عليه بالضرب هو الأخر ...***************************************
يتبع