كان صباحا باردا من أيام الشتاء ، بينما آشعة الشمس الدافئة تتراقص في أرجاء تلك الحجرة الواسعة الفاخرة لاحقتها "هانيا" بعينيها الزرقاوين العابستين و هي تكمل إرتداء ملابسها السوداء أمام المرآة ، فمنذ سبعة أيام من وفاة والدها و هي ترتدي الأسود حدادا و حزنا عليه ..
و لم يمهلها المحامي الخاص بوالدها وقتا كافيا لتستعيد توازنها الطبيعي الذي فقدته نتيجة لصدمتها بموت والدها المفاجئ ، بل أنه أسرع يطلب مقابلتها كي يتحدث معها بشأن أملاكها و إرثها الضخم ، و لكن في الحقيقة لم تكن "هانيا" مهتمة كثيرا بهذه الأمور خلال تلك الفترة العصبية ، فقد وقع عليها خبر وفاة والدها منتحرا كالصاعقة
في البداية لم تصدق ، و لكن لا جدوي من عدم تصديقها فتلك هي الحقيقة ، لقد مات والدها منتحرا ، و كم تساءلت مرارا ، لماذا فعل ذلك ؟ كيف يمكن لأببها رجل الأعمال الناجح المعروف و المشهور علي أوسع نطاق أن يقتل نفسه ؟ ما الذي دفعه إلي ذلك ؟ رجل بقدره و في مكانته ما السبب الذي يدفعه إلي الإنتحار و هو يملك كافة الأشياء !!
إرتعدت "هانيا" لذكرى مرآي جثة أبيها الغارقة في الدماء فوق أرضية مكتبه ، بينما فكرت في مرارة بالغة ، لقد أصبحت وحيدة بهذا العالم بعد وفاة والدتها منذ خمس سنوات ، ثم وفاة والدها منذ سبعة أيام ، لم يكن لها سوى عمها ، و لكن زوجته و أبنائه جعلوه صعب المعاشرة ، إنه رجل لطيف و حنون ، لكن أسرته تفتقر الكثير من صفاته الطيبة ، لا يوجد بينهم سوى التكبر و الغطرسة الوقحة ، و هذا ما جعل "هانيا" بعيدة تمام البعد عنهم ، فلا تزورهم أو تتعامل معهم و لا هم أيضا ..
رغم أن الجميع يحبون "هانيا" كثيرا وفقا لأعمارهم ذكورا أو إيناثا ، مفتونين بسلوكها الهذب و شخصيتها القوية ، إضافة إلي شكلها الجميل
كان أصدقاؤها يتفاوتون ما بين صبية صغار و متقاعدين وحيدين ، و كانت هي سعيدة جدا برابطتها الإجتماعية المتينة ، فقد كانت تهوى مساعدة الناس و حل مشكلاتهم ، لدرجة ظن البعض أن الطريق مفروش بالورد أمام فتاة جميلة مثلها في الثانية و العشرون من عمرها ، لا يعرفوا حقيقة ما تشعر به في قرارة نفسها
الذين عرفوها لفترة طويلة أدركوا تدريجيا أنهم يكادون لا يعرفونها ، و أنها و برغم ما تبدو عليه من روح إجتماعية منشرحة متحفظة للغاية ، لا تبوح بأسرارها أو بأي شئ يجول بخاطرها إلي أي شخص ..
إنتهت "هانيا" من إرتداء ملابسها ، ثم راحت تضع علي وجهها قليلا من مساحيق التجميل الخفيفة ، كي تداري شحوبها و ملامحها الحزينة ، لم تكن " هانيا " مجرد شابة جميلة فقط ، فتفاصيل وجهها الأشقر كانت كاملة إبتداءً من العينين الزرقاوين الواسعتين تحت رموش كثة حتي الشفتين المكتنزتين الحمراوين ، و قد تركت شعرها البندقي المتموج الطويل الذي ورثته من أمها الفرنسية منسدلا علي كتفيها ، ثم عقدت بعض خصلاته بربطة سوداء حريرية زادتها شبابا و أنوثة إلي الوراء ..
ثم أخيرا غادرت حجرتها ، و هبطت إلي الطابق السفلي حيث كان السيد " شركس ناصف " المحامي ، في إنتظارها إقبلت عليه " هانيا " مرحبة ، ثم جلست قبالته بعد أن طلبت من أحد الخدم جلب القهوة لكليهما
كان السيد " شركس " طويلا نحيلا ذا وجه بشوشا و متقدما في السن إلي حدٍ ما ، فيما بعد ما صافحها و قام بتعزيتها للمرة الثانية ، ركز إهتمامه عليها ، ثم قال بصوت هادئ عميق :
- انا اسف يا انسة هانيا اني طلبت اقابلك بالسرعة دي و انتي في الظروف دي .. لكن الأمر مستعجل و انا مش هاقدر آخره اكتر من كده صدقيني.
أومأت "هانيا" رأسها متفهمة ، ثم أجابته في هدوء :
- مافيش مشكلة يا متر ، انا مقدرة الوضع كويس و عارفة انك اتعاملت مع بابا فترة طويلة ، و علي فكرة مش عايزاك تقلق ابدا انا هدفعلك كل اتعابك.
إبتسم السيد " شركس " في خفة ، ثم قال بلطف :
- يا انسة هانيا انا ماجتلكيش لحد هنا عشان اناقشك في موضوع اتعابي ، والدك الله يرحمه و يحسن اليه كان بيدفعلي اول بأول يعني مسدد دينه معايا ماتقلقيش ، انا بس طلبت اقابلك بسرعة عشان ابلغك بأمور طارئة لسا عارفها من يومين بس.
تغضن جبينها بعبسة متسائلة ، ثم سألته في إهتمام:
- خير يا متر ؟؟
نظر إليها صامتا لبضع لحظات ، ثم أجفل في توتر و أجابها :
- والدك يا انسة هانيا .. من حوالي شهر تقريبا ، باع كل املاكه ، و انا اسف اني اقولك انتي مابقالكيش اي حاجة.
رمقته "هانيا" في صدمة بالغة ، ثم سألته فاغرة فاها :
- انت بتقول ايه ؟؟
ثم تابعت ثائرة :
- مستحيل اللي انت بتقوله ده ، مستحيل بابا يعمل كده ، مش ممكن طبعا !!!
هز السيد " شركس " رأسه في أسف ، ثم تابع بنبرته الهادئة نفسها :
- للأسف يا انسة هانيا ، ده اللي حصل ، انا في الاول كنت زيك كده مش مصدق لما كلمني محامي المالك الجديد من يومين و بلغني الاخبار دي ماصدقتوش ، لحد ما جالي منه امبارح صورة عقد كتابي بالبيع ، يعني توكيل بيع و شرى عليه إمضة مصطفي بيه والدك.
إنعقد لسان "هانيا" في تلك اللحظة ، و أُرغمت علي الصمت ، تحت تأثير تلك المفاجآة القاتلة ، بينما أضاف الأخير بنبرة مفعمة بالشفقة و الآسف :
- المالك الجديد بصفة ودية بيطالب بحقه في ضم كل الاملاك ليه بما فيهم الفيلا و عربيتك كمان لانها مش متسجلة بإسمك ، و لازم تخلي الفيلا انهاردة لانك لو ماعملتيش كده في ظرف 24 ساعة هيضطر يلجأ للمحكمة و الحكم في صالحه هيبقي سريع جدا لان ورقه سليم.
لا زالت "هانيا" تحت تأثير الصدمة العنيفة التي تلقتها منذ عدة دقائق ، و لكنها غصت بريقها ، ثم وجهت بصرها إلي الرجل الجالس قبالتها يحدثها في غاية الهدوء و الآسف ، ثم سألته بصوت أبح :
- مين المالك الجديد ده ؟؟
تحرك في مقعده بشئ من الإضطراب ، ثم أجابها و قد عادت معالم الجدية إلي وجهه :
- هو رجل اعمال معروف ، بس مش عارف اذا كنتي سمعتي عنه و لا لأ .. عموما هو اسمه عاصم ، عاصم الصباغ.
ساد صمت مطبق بينهما ، كانت "هانيا" تفكر بالكارثة التي وقعت عليها ، لماذا قد يفعل والدها شيئا كهذا ؟ لماذا قد يتنازل عن جميع أملاكه بهذه السهولة لأي شخص أيا كان يكون ؟؟ .. :
- في حاجة واحدة بس لسا ملكك يا انسة هانيا ، و محدش هايقدر ياخدها منك.
أعادها صوت السيد " شركس " إلي الحاضر المجنون ، بينما عادت تحدق به في إهتمام متسائلة :
- ايه هي دي يا متر ؟؟
- من خمس سنين بعد وفاة والدتك الله يرحمها مصطفي بيه اشتري بيت جديد و خدك و عزلتوا من الفيلا القديمة.
- ايوه مظبوط ، احنا عزلنا من بيتنا القديم بعد موت ماما ، ماقدرناش نعيش فيه منغيرها !
- اللي انتي ماتعرفيهوش بقي يا انسة ان والدك الله يرحمه كتب البيت القديم ده بإسمك من خمس سنين يعني اول ما سيبتوه و عزلتوا ، يعني هو بقي ملكك انتي من وقتها.
- قصدك ان دي الحاجة الوحيدة اللي هورثها ؟؟
سألته بمرارة هازئة ، فأجابها :
- تقريبا.
ثم عاد يقول بأسف من جديد :
- لكن بردو مع الاسف .. البيت ماعدش يصلح لحد يعيش فيه.
- قصدك ايه ؟؟
سألته مرتابة ، فتنهد بثقل و أجابها في لطف :
- والدك .. حوله لمخزن من سنتين ، فبالتالي مش هاتقدري تعيشي فيه ، الا اءذا كانت ميزانيتك المالية تسمح بإنك ترجعيه مكان يتعاش فيه من جديد.
تنفست " هانيا " بصعوبة و هي لا تزال غير مصدقة بأن والدها فعل بها كل ذلك بعد وفاته ...