كان "مروان" نصف واعيا بما يدور حوله ..
فقد سمع الحديث الذي دار كله بين "عبيد" و "سالم" .. ظل ساكنا بلا حراك حتي إنتهيا من فعل ما عزما علي فعله ، و تركا الشقة تماما خالية ، إلا من "مروان" الذي بات لا حول له و لا قوة ..
و لكنه بمنتهي الصعوبة ، حاول أن يحرك يده .. و قد نجح نسبيا في ذلك ..
فمد يده المرتعشة إلي جيب سرواله الخلفي ، و بصعوبة أيضا ، جاهد حتي أخرج هاتفهه ..
ففتحه و ضرب رقم هاتف والده بأصابع باردة مرتجفة و ملطخة بدمائه .. من حسن حظه أنه قام بتغيير رقم هاتفهه مؤخرا ، فلو كان رأي والده رقمه القديم علي شاشة هاتفهه ، ما كان ليجيب إتصاله أبدا ..
وضع "مروان" الهاتف علي أذنه في إنتظار الرد ..
و بالفعل ، أتاه صوت والده بعد لحظات:
-الو !
كم كان من العسير علي "مروان" أن يفعل ذلك ، و لكنه ناضل حتي خرج صوته ضعيفا مبحوحا متحشرجا:
-بـ .. بـ ، بابا.
جاء رد "توفيق" سريعا متوجسا:
-مروان ! في ايه مروان ؟ مالك ؟؟!
ضعف معدل تنفس "مروان" .. فلم يستطع سوي أن يهمس بأخر جملة:
-الـ الحقني يا بابا.
ثم فقد وعيه تماما ................................................................
علي الطرف الأخر ..
إنتفض "توفيق" واقفا و هو يصرخ بإبنه:
-مروااان .. مروااااان رد عليا !!
كان "توفيق" قبل مكالمة إبنه يعد نفسه للنوم ، فيما الأن ، أخذ ينادي عليه بلا جدوي ،
و لما فقد الأمل في رده ، أجري الإتصال بزوجته ..
و ما هي إلا ثوان حتي جاء صوتها ، فصاح بها:
-ابني فيين يا ديناار ؟ مرواان فييين ؟؟؟************************************
أمام باب العمارة التي كانت تقطن فيها قديما عائلة "توفيق علام" .. دوت أبواق سيارات الشرطة و الإسعاف ..
في نفس اللحظة التي وصل فيها "توفيق" إلي هناك قبل "دينار" .. ركض صوب باب العمارة ، و لكن عددا من العسكر منعوه عن بلوغ هدفه ..
فأخذ يصيح فيهم بضراوة:
اوعوا .. سيبوني .. ابني فوق ، سيبووني.
و هنا ، أقبل عليه الضابط المسؤول ، و راح يهدئه بقوله:
-يا أستاذ .. يا استاذ من فضلك اهدا ، مش هينفع تطلع ، ده مسرح جريمة و في ناس بتشوف شغلها فوق.
إلتفت "توفيق" إليه ، و سارع يصرخ فيه بكل جنونه:
-ابني بيموووت.
شعر الضابط بأن "توفيق" علي وشك أن يفقد عقله ، فأسرع يقول في إشفاق:
-في مسعفين معاه فوق يا استاذ ، ماتقلقش .. خير إن شاء الله.
في اللحظة التالية ، تناهي إلي سمع "توفيق" صوت صراخ "دينا" و عويلها ، فإستدار ليجدها تركض صوبه و "رضوي" في أعقابها مباشرة عيناها تنزفان بالدموع هي الأخري ، فيما توسلت "دينار" زوجها بقولها:
-فين مروان يا توفيق ، قولي فين ابني؟ جراله ايه ؟؟
-اهو !
صاحت بها "رضوي" و هي تشير بإصبعها نحو السرير النقال الذي حمل "مروان" فوقه .. قفز "توفيق" من مكانه جريا نحو إبنه ، و صوبت "دينار" نظرها المذعور تجاهه ، فغطت فمها في صدمة مما رأت ..
الملاءات البيضاء التي إفترشت السرير ، و التي إلتحف بها "مروان" جميعها غارقة بالدماء ..
كان السير كثيفا طيلة الطريق إلي المستشفي ، و أكثر من مرة شعر "توفيق" برغبة عارمة لإطلاق صوته بالصراخ في كل السائقين و رجال المرور الذين يشغلون الطريق دون مبرر ..
لكنه لم يفعل ، فقد خيم الصمت عليه و علي زوجته و إبنته اللتين جلستا إلي جواره داخل عربة الإسعاف مع "مروان" .. لا شيء يقال الأن ، فقط مجرد الإنتظار و الترقب و الدعاء ..
تأمل "توفيق" إبنه الغائب تماما عن الدنيا و ما فيها .. فلم يكن يتصور أن يجد "مروان" الشاب الشامخ الممشوق القوام طريح الفراش هكذا ..
وجد سائق العربة مكانا للتوقف أمام المدخل الرئيسي للمستشفي ، فأسرع رجال الإسعاف بنقل "مروان" إلي الداخل ..
و تمت إجراءات تسجيل الدخول بصورة سريعة ، و إستطاعت غرفة الاستعلامات تأمين طاقم من أفضل الأطباء بالمشفي لعلاج "مروان" ..
جاءت ممرضة بخطوات سريعة ، و قادت "توفيق" و عائلته إلي جناح الطوارئ ، و هذا يعني أن "مروان" الأن داخل حجرة العمليات ..
و مع المضي قدما وسط الإصابات العديدة الموجودة في ذلك الجناح ، بدت علي "دينار" علامات التأثر و الإضطراب ، مما دفع "رضوي" إلي الضغط علي يدها بشدة في محاولة منها لتشجيعها و تهدئة أعصابها ..
مضت عدة ساعات قبل أن يطل عليهم رجل متوسط العمر ، يرتدي الرداء الطبي الأبيض و فوقه الملابس المعقمة الخاصة بغرفة العمليات ..
ركض "توفيق" ناحيته فورا ، و قلبه يخفق بشدة ، لكنه واجه الطبيب بشجاعة مصطنعة ، و سأله:
-ابني عامل ايه يا دكتور ؟؟
في تلك اللحظة ، كانت "دينار" تقف إلي جانب "توفيق" عندما هز الطبيب رأسه بآسف قائلا:
-للأسف .. ابن حضرتك حالته سيئة جدا جدا .. و في اي لحظة متوقعين له الوفاة.
إختل توازن "دينار" فجأة لدي سماعها ذلك ، فأسرعت "رضوي" لإسنادها و دموعها تنهمر فزعا علي أخيها في صمت ..
هز "توفيق" رأسه رفضا ، و قال:
-لأ .. مش ممكن .. اكيد في حل ، مستحيل يموت.
وضع الطبيب يده علي كتف "توفيق" لمواساته و هو يقول بلطف:
-الطعنات اللي اتعرضلها كانت في اكتر المناطق خطر في جسم الانسان ، و اللي بيبقي صعب علي اكبر دكتور انه يسيطر عليها او يتحكم في امكانية شفائها .. و ابن حضرتك واخد 3 طعنات في 3 مناطق خطر مانقدرش احنا نتحكم فيها ، منها الامعاء و الكبد و الكلي ، الإصابات فيهم عميقة.
ثم تنهد و هو يخلع القفازات الطبية عن يده ، ثم يقول:
-احنا عملنا اللي علينا .. و لو طلع عليه الصبح و هو لسا عايش ، ان شاء. الله ده هيكون مؤشر كويس .. ادعوله انتوا بس ربنا يلطف بيه.
و غادر الطبيب ، تاركا "توفيق" جامدا في مكانه كمن هوت عليه صاعقة من السماء ..
لحظات سوداوية ، فاصلة بين الحياة و الموت غشيت "توفيق" .. فإستبد به شعور الآلم ممزوج بحسرة راحت تنهش قلبه .. فإن ولده الأن بين أيدي الله ، و مصيره المحتوم متوقف علي قضائه و قدره عز وجل ..
إذن ، فالأن هو لا يملك شيئا ليفعله ، و ما عليه سوي الدعاء و التضرع إلي الله ..