علي الطرف الأخر ..
أمام باب ڤيلا ( الطحان) الداخلي .. وقف "شهاب" عاقدا ذراعيه أمام صدره ، مستندا بجسده إلي سيارته الفارهة ، في إنتظار وصول "هاجر" ..
و لأنه سريع الشعور بالملل ، تآفف في ضجر و أخرج هاتفهه من جيب سترته الفاخرة ليعاود الإتصال بها ..
إلا أن ظهورها المفاجئ أثناه عن عزمه ، فأعاد هاتفهه إلي جيب سترته مجددا بصورة بطيئة و هو لا يستطيع إزاحة بصره لثانية عنها ..
فقد ظهرت في شكل جديدا عليه كليا ، كانت شديدة الحسن و الفتنة ، لا تشبه البتة تلك الفتاة ذات الشعر الفوضوي و الملابس ذات الطالع البوهيمي ..
و ها قد إقترلت منه أخيرا و هي تنظر إليه في إستحياء ، فوجد نفسه يتفرس في وجه الفتاة بنت العشرين بنظرات متوهجة ، ممتزجة إعجابا و دهشة ..
و لا شعوريا ، خرجت الكلمات من فمه:
-ايه ده ياسطا هاجر ؟ .. كنت مخبي فين الجمال ده كله.
و فورا ، إختفت بسمة "هاجر" ليحل محلها العبس المستاء ، فضربته علي صدره بخفة معاتبة و هي تقول:
-اسطا ؟ .. بقي انا كنت اسطا يا شهاب ؟؟
أخذ "شهاب" يزحف بنظرة متفحصة علي جسدها وصولا إلي وجهها بمنتهي البطء و التركيز و هو يقول:
-اصل بصراحة اول مرة اشوفك حلوة اوي كده ، و مسرحة شعرك و لابسة فستان زي البنات .. ماتزعليش مني بس انا مش بحب البنت اللي تلبس كاچوال ، مابتفرقش ساعتها كتير عن الراجل.
أفحمتها كلماته بحيث لم تعد قادرة علي النطق أبدا ، و قد تصاعدت الدماء الغيظ و الغضب إلي وجهها ..
ضحك "شهاب" من قلله علي ما آلت إلي ملامحها من حنق ، فقال معتذرا:
-اسف .. اسف يا هاجر معلش سامحيني ، و الله انتي زي القمر حتي لو لبستي خيش ، انا كنت بهزر معاكي و الله ، و لا هو الهزار بقي حلو ليكي و وحش ليا ؟؟
و في الحال ، تذكرت أول لقاء لهما ، حيث أثارت حنقه بمزاحها الثقيل ..
إبتسمت "هاجر" برقة ، و قالت:
-ماشي يا شهاب .. سماح المرة دي ، يلا بقي عشان منتأخرش.
عاينها مرة أخري سريعا بنظرة إعجاب ، و قال:
-يلا.
و فتح لها باب السيارة لتجلس في الكرسي المجاور له ، بينما لم يفطنا الثنائي المرح إلي ذلك الرجل هناك ، الذي يقف بالأعلي يراقبهما بإهتمام من خلف إحدي نوافذ المنزل ..***********************************
-رايحة فين يا سمية ؟؟
قالتها السيدة "هويدا" مستوقفة إبنتها التي كادت تخرج من باب المنزل ، إلتفتت "سمية" إلى والدتها ، و بوجه متجهم قليلا أجابت:
-طالعة اسلم عالبت دعاء و اقعد معاها شويك يا ماما ، بقالي كام يوم ماشفتهاش وحشتني.
-طيب بس انزلي علطول ماتغيبيش ، و لو لاقيتي اخوها الصغير ده فوق انزلي ماتقعديش.
-ماشي ماشي.
قالتها "سمية" في لامبالاة ، ثم خرجت من منزلها قاصدة الطابق التالي ..
صعدت الدرج بسرعة ، ثم ها هي الأن أمام باب شقة صديقتها "دعاء" .. طرقت الباب مرة ، إثنان ، و ثلاث ..
ففتح لها الشقيق الأصغر بعائلة صديقتها .. إبتسم الشاب إبتسامة واسعة أظهرت أسنانه الصدئة ، و قال في ترحاب:
-اهلا اهلا يا سوما .. ازيك ؟؟
إبتسمت "سمية"بدورها ، و ردت تحيته:
-انا كويسة يا اسلام ، ازيك انت ؟ عامل ايه ؟؟
-زي الفل يا سوما .. خشي خشي واقفة برا ليه ؟!!
لبت "سمية" دعوته بسرور و دخلت ، فأغلق هو الباب من خلفها ..
بينما تساءلت "سمية" و هي تجوب أرجاء الشقة بعينيها:
-هو مافيش حد هنا و لا ايه يا اسلام ؟؟
قال "إسلام" و هو يتبعها إلي الداخل:
-لا ياستي مافيش حد هنا .. كلهم راحوا فرح واحدة قاريبتنا في الفيوم.
-ياااه الفيوم ؟ و هيرجعوا امتي ؟؟
-يعني عالفجرية كده .. ابويا اجر مكروباص ، و خد باقية العيلة اللي هنا و قال بدل ما كل واحد يروح لوحده يروحوا كلهم سوا.
أومأت "سمية" رأسها بتفهم ، فيما دعاها "إسلام" للجلوس قائلا:
-ماتقعدي يا سمية .. و لا انتي مكسوفة تقعدي معايا لوحدك ؟؟
إبتسمت "سمية " بخفة ، و قالت:
-لا يا اسلام مش مكسوفة .. ده انا كنت طالعالك انت مخصوص.
رفع حاجبيه ذاهلا ، و ردد:
-طالعالي مخصوص ؟ .. ليه خير يا سمية ؟؟
-نقعد الاول و اقولك.
و جلست سمية فوق مقعد قديم الطراز ، بينما جلس "إسلام" بالمقعد المقابل لها ، ثم سألها بفضول:
-ها يا سوما ؟ .. ايه الموضوع بقي ؟؟
تنهدت "سمية" بعمق قبل أن تقول:
-اسمع يا سيدي.
و قصت عليه لب الموضوع ، و كان ينصت إليها بتركيز حتي فرغت من شرح القصة كاملة ، فسألها:
-ايوه بس معلش يا سمية انا مش فاهم .. انتي عايزة مني انا ايه يعني ؟؟
تراقص لهيب الغل و الكره في عينيها و هي تجيبه:
-عايزاك تخدمني يا اسلام ، عايزاك تقف جمبي .. انا نفسي اشوف فيها يوم ، نفسي ادمرها.
وافقها "إسلام" بقوله:
-معاكي يا حبيبتي و أخدمك بعنيا ، بس افهم ايه المطلوب ؟؟!
إبتسمت في شر ، ثم قالت:
-انا هقولك ايه المطلوب يا اسلام.************************************
قرع "عاصم" باب حجرة أمه مرتين متتاليتين ، ثم أدار المقبض و دفعه ..
وقف علي أعتاب بابها و هو يبحث عنها بعيتين قلقتين ، إذ لم يرها في فراشها كالمعتاد ، و لكن سرعان ما خمد قلقه ، و إرتخت ملامحه المتوجسة براحة ..
فقد رأها تجلس فوق الكرسي المعدني النقال الخاص بها أمام شرفتها المطلة علي أجمل الأماكن الخلابة بالقصر كله ، و بينما كان يقترب منها بخطوات خفيفة ..
كانت هي شاردة بذهنها بعيدا بعيدا .. حتي إنتزعها صوت إبنها من وصلة أفكارها .. :
-مساء الخير يا امي !
قالها "عاصم" بنبرة هادئة و هو يرمقها بنظرته الباسمة .. رفعت السيدة "هدي" بصرها إليه .. كادت أمه تجهله في البداية من تلك البذلة التي يرتديها ، لكن ملامح وجهه النبيلة ، كانت تعبر عن رصانة غير إعتيادية ..
كانت لتسعد برؤيته هكذا ، إلا أنها تعلم جيدا المناسبة التي من أجلها إبنها متأنق كثيرا هكذا ..
ردت عليه بفتور:
-اهلا يا عاصم.
ثم سألته ساخرة:
-خلاص نويت ؟؟
تنحنح "عاصم" في شيء من التوتر ، و أجابها:
-ايوه يا امي .. خلاص نويت.
و سألها بلين و رجاء:
-مش هتقوليلي مبروك ؟؟
أشاحت بوجهها عنه و هي تقول بلهجة جامدة:
-مبروك.
أغمض "عاصم" عينيه بقوة ، مزدردا غصة مريرة في حلقه ، ثم عاد يسألها:
-من قلبك يا ماما ؟؟
ساد الصمت بينهما ثقيلا لدقيقة كاملة قبل أن تعود أمه ، و تنظر إليه مجددا .. ثم تقول بصوت لاذع:
-مباركتي للجوارة دي مش هتفرق معاك ، زي ما رأيي مافرقش معاك بردو .. روح يا عاصم .. روح اعمل كل اللي انت عايزه ، جرب .. لكن خليك فاكر اني حذرتك قبل ما تكمل في الطريق ده .. صحيح انا شجعتك تمشي اوله ، لكن ده قبل ظهور البنت دي .. و بعد كده منعتك لما عرفت الحقيقة ، لكت انت كالعادة صوتك من دماغك.
ثم إستطردت بغضب:
-انت لازم تشوف النتايج بعنيك عشان تصدق انك اتعديت حدودك لما حطيتها في دماغك و اصريت تكمل انتقامك منها هي ، و هي اصلا مالهاش اي ذنب ، و مالهاش علاقة بأخطاء ابوها .. انما انا قادرة افهمك كويس اوي يا عاصم ، انت شفتها بنت جميلة و انت راجل عشت حياتك اللي فاتت وحيد بسبب عقدتك ان مافيش واحدة هتقبل بواحد مشوه زيك ، و لما جت الفرصة و قابلتها حللت لنفسك فكرة انتقامك منها ، لكن في الحقيقة ده كان غطا خبيت وراه رغبتك فيها .. رغبتك اللي عميتك و خلتك وصلت للمرحلة دي و اللي انا واثقة انك في يوم هتندم اشد الندم علي كل اللي انت عملته ده.
أطرق "عاصم" رأسه خزيا و قد أصابته كلمات والدته في الصميم ، لكنه تجاهل صوت الحق بداخله و الذي يؤيد كلامها ، و سألها بهدوء:
-طيب حضرتك حابة تنزلي تحضري كتب الكتاب ؟؟
-لأ.
هتفت أمه بصرامة .. فهز رأسه موافقا ، و قال:
-تمام . تصبحي علي خير يا امي.
و إتجه صوب باب الحجرة ليخرج ، إلا أنه توقف فجأة علي عتبته ، ثم قال من فوق كتفه دون أن يستدير لها:
-علي فكرة يا امي .. باللي هعمله انهاردة ، مش هعمله عشان انتفم منها .. هعمله عشان بحبها.
و أغلق الباب من خلفه في هدوء ..
أطلقت أمه تنهيدة مهمومة ، ثم رفعت وجهها نحو سماء الليل تناجي ربها بعينين خاشعتين هامسة:
-يااااا رب .. اكفيه شر نفسه.***********************************
يتبع