تجمدت ملامح "هانيا" عندما أعلن "شهاب" عن هوية الفتاة ، و قد لاحظ الجميع ذلك
لكن سرعان ما أرخت "هانيا" تعابير وجهها الجامدة ، و رسمت علي شفتيها إبتسامة هادئة يشوبها التوتر البسيط ..
ثم تساءلت في هدوء:
-انتي اسمك هاجر الطحان ؟ .. يعني ليكي صلة قرابة بكمال الطحان ؟؟
إبتسمت "هاجر" برقة ، و أجابتها:
-ده يبقي بابا.
تضاعف إرتباك "هانيا" فقد تأكدت شكوكها ، إلا أنها جاهدت حتي تحافظ علي هدوئها أمامهم ..
بينما سألها "شهاب" بدهشة:
-ايه ده يا هانيا .. انتي تعرفيه ؟؟
أجابت "هانيا" بثبات ناقض تلك الفوضي التي تعتمل بداخلها:
-اه طبعا .. كمال الطحان نار عالعلم ، اكبر رجل اعمال في البلد.
ضحك "شهاب" قائلا و هو يغمز بعينه لها مرحا:
-حسبي علي كلامك يا هانيا ، اكبر راجل اعمال في البلد واقف جمبك اهو .. و اسكتي بقي مش عايزين نزعل عاصم ، عاصم زعله وحش.
و تابع الضحك مرة أخري ، فشاركته "هانيا" ضحكه قائلة:
-اقصد في مجاله يعني.
تدخل "عاصم" هنا ، و نفي قول أخيه بأن نظر إلي عيني "هانيا" و قال بمنتهي اللطف:
-انا ممكن ازعل كل الناس .. انما ماقدرش ازعل هانيا ابدا.
ثم دني برأسه من رأسها ، و قطف قبلة سريعة من خدها ..
أقشعر بدنها من ملمس شفتيه علي بشرتها ، إلا إنها أهدته إبتسامتها الحلوة ، ردا علي عبارته اللطيفة التحببية ، بينما كانت تسخر منه في قرارة نفسها ..
برز صوت "شهاب" في تلك اللحظة ، حين قال مخاطبا شقيقه:
-علي فكرة يا عاصم .. انا عزمت هاجر علي كتب الكتاب انهاردة ، ده لو ماعندكش مانع يعني !
هز "عاصم" رأسه نفيا و هو يقول بإبتسامة خفيفة:
-لأ خالص ماعنديش مانع طبعا .. هتشرفينا يا انسة.
بشيء من الخجل ردت "هاجر":
-ميرسي اوي لذوق حضرتك.
-حضرتك !!
قالها "شهاب" مستنكرا ، و تابع:
-حضرتك ايه بس ؟ قوليله عاصم عادي مش هيقفش عليكي.
رمقته "هاجر" بنظرة جانبية من عينيها يعرفها جيدا ، فأدرك مقصدها علي الفور ، و قال:
-ماشي ماشي خلاص.
ثم نظر إلي "عاصم" و أردف:
-انا هروح اوصلها بقي عشان تلحق تجهز.
و صافحت "هاجر" كلا من "عاصم" و "هانيا" قبل أن تلتقط حقيبة يدها من فوق الطاولة ، ثم تستدير علي عقبيها و ترافق "شهاب" إلي باحة القصر ، حيث مكان سيارته هناك ..
و الأن ، ها و قد أصبحا الخطيبين وحدهما ..
سحب "عاصم" مقعدا لـ"هانيا" و دعاها للجلوس بلهجة مهذبة .. لبت "هانيا" دعوته بطواعية هادئة و جلست ..
حانت منها إلتفاتة قصيرة نحوه ، فشاهدت في عينيه نظرة دفء و هو يرنو إليها .. فأزاحت بصرها عنه بسرعة ، و عادت تركز إهتمامها علي الطعام ..
تحلت أيضا بروح المضيفة المعاونة ، و أمسكت إبريق القهوة الساخنة ، و سكبت فنجانا له و أخر لها ..
كان فطوره خفيفا .. قليلا من الخبز بالزبدة مع القهوة ، و قد إستمتع بالإفطار هذا الصباح و هي جالسة أمامه يراقبها بعينيه ..
بينما كانت تأكل ببطء و هي تفكر ، و قد حرصت علي ألا تشرد بذهنها أمامه حتي لا يساوره الشك حيالها ..
قالت في نفسها .. هل إنطلت عليه حيلتها يا تري ؟ .. هل حقا صدق بإنها علي إستعداد لبدء صفحة جديدة معه ؟ .. و هل حقا صدق بإنها تخلت بمثل تلك السهولة عن ثأرها و ثأر والدها ؟؟ ..
من الصعب أن تفهم طريقة تفكيره ، فرجل مثله يستطيع أن يخفي كل مشاعره إذا أراد ، و لكنه الأن لا يظهر إلا الإهتمام الشديد بها ..
رأته في تلك اللحظة يشعل سيكارة لنفسه ، و لاحظت أن يده الممسكة بولاعته الذهبية لامست خده الأيمن ، و شاهدته يمر بأصابعه فوق الندبة الخشنة دون وعي ..
فرفعت يدها بسرعة ، و أمسكت بيده من الرسغ ، و أنزلتها علي الطاولة بعيدا عن وجهه و هي تقول:
-بطل تعمل كده !
رفع حاجبيه متفاجئا ، و ردد ببلاهة:
-ابطل اعمل ايه ؟؟
تذكرت "هانيا" أنها كانت عضوا فعالا ضمن فرقة التمثيل أثناء دراستها في الصف الثانوي ، و للحال ، أسرعت تستدعي كل خبراتها كممثلة محترفة ، و قالت:
-بلاحظ كتير اوي انك متأثر بالحرق اللي في وشك ، مع انه مش بشع اوي زي ما انت اكيد فاكر .. و مش عميق اوي كمان.
نظر "عاصم" إليها و بدا كشابا طائشا لا يصدق ما يسمع .. كان وجهه الأسمر متقلصا بشعور غامض لم تستطع "هانيا" تفسيره
إنما إستطاعت أن تتأكد من وقع كلماتها في نفسه ، و مدي تأثره بها ..
في اللحظة التالية .. هب "عاصم" فجأة من مجلسه ، و أسلفها ظهره ..
سار مبتعدا ببطء لعدة أمتار ، و هو يعاود ملامسة الندبة بيده مرة أخري .. نهضت "هانيا" بدورها و تبعته ..
وضعت يدها علي كتفه ، و ضغطت بلطف لتجعله يستدير و يواجهها .. و بالفعل ، إستدار لها ..
كانت عينيه حزينتين تحت حاجبين معقودين ، و قد بدا نافذ الصبر عصبيا .. ربما لم يعجبه كلامها ، قالت "هانيا" في نفسها ..
أو ربما شعر بسخف المهزلة التي أقدمت عليها .. مما يعني أنه كشفها و ينذرها بألا تتمادي في تمثليتها ، إلا أنها تجاهلت هذا كله ، و ثبتت علي موقفها ..
فإن تمثليتها تلك هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق مآربها ، و لن تدع الفرصة تفلت من بين يديها ..
أسندت "هانيا" كفها علي صدره ، و ببطء ، زحفت بيدها حتي وصلت إلي وجهه .. فلامست بكفها ندبته القاسية لتؤكد له صدق قولها ..
و في لحظات ، كانت تلملم بقايا كرهها له و نفورها منه ، و تلقي بهم مؤقتا في أعمق أعماقها ، لتنثر بأماكنهم عاطفة كاذبة مصطنعة .. فلمعت عيناها ببريق النشوة ، و تسربت إبتسامتها الجذابة إلي شفتيها ، و إنفرجت أساريرها ..
و بمنتهي الرقة و اللين قالت:
-انت .. مش وحش ابدا.
و أكدت علي كلامها مرة أخري:
-ابدا.
بدا "عاصم" ذاهلا ، إلا أنه بطريقة ما كان يقرأ ما يدور في خلدها .. عليها إذن أن تضلله و إلا ذهبت آمالها سدي !
همت بنزع يدها عن وجهها ، لكنه كان أسرع منها ، إذ أمسك بكفها و هو لا زال علي وجهه ، و بحركة آلية ..
قربه من فمه ، و أغمض عينيه ، ثم طبع قبلة عميقة بباطن كفها الناعم ..
إحمرت وجنتاها لوهلة .. فقد ضجت بأعماقها مشاعر الكره و النفور تجاهه مرة أخري ، لكنها كبحت نفسها بصورة سريعة ، و تذكرت أن تكون محببة متساهلة إذا ما أرادت الوصول إلي تحقيق أهدافها ..
ثم لو لزم الأمر تقتله بعد ذلك .. نعم ، فلم يعد هناك شيئا لتخسره ، لقد سلب منها كل ما تملك .. و فضلا علي هذا ، هي لم تنسي يوما إعتدائه البغيض عليها ..
و بما أن حياتها كانت تتمثل في طهارتها التي دنسها ، إذن فلا مستقبل لها في كل الأحوال ، و قد إنتهت حياتها بالفعل منذ أيام ..
و لن يضيرها لو تحقق موتها بشكل فعلي ، لن يفرق هذا كثيرا .. و لكن عليها أن تأخذ روحه هو أولا ...************************************
يتبع