كان راقدا بمهجعه ..
حين بدت ذاكرته مشوشة الملامح ، و إختلطت ألوانها حتي ظهرت رمادية مثقلة بالغيم ..
لم يكن من السهل عليه أن ينام بسكون هكذا ... و لكن آلامه و أعصابه المشدودة ، كلها أشياء أنهكت بدنه ، و جعلته يستسلم لغيبوبة السقم و الإنهيار تلك ..
كل عضو بجسده كان هادئا تماما ، عدا عقله .. عقله الذي راح يستحضر كل ذكري أحدثت آثرا بالغا في حياته ..
لا سيما حادثة واحدة في صباه ، لم ينسها أبدا ... رغم أنها تبدو بعيدة جدا ..
و لكنه يتذكرها بكل وضوح ..............................................................
حين كان صبي صغيرا في السادسة عشر من عمره ، و قتما حلت الكارثة المهـولة التي أودت بوالده و براءته في آن ..
لم يستطع منعها ، لم يستطع دحر الخطر بمفرده !
لاح لذاكرته ذلك المشهد الذي لم يفارقه طيلة حياته ..
عندما شق طريقه داخل المخزن المشتعل بآلسنة اللهب الحارقة ..
جال في حذر بحثا عن أبيه ... يبكي بحرقة و هو يصرخ مناديا عليه بأعلي صوته ..
ظل ينادي و لا من مجيب حتي بح صوته و إنجرح ... حتي لطخه السخام تماما ، و تسلل إلي رئتيه ليجعله يسعل بحدة ..
إزدادت حدة سعاله أكثر ، و تشوشت رؤيته أكثر و أكثر ، حيث لمعت أضواء غريبة أمام ناظريه و تطوح جسده بضعف ..
و لكنه ثابر ، و واظب علي البحث بما يمكن من السعة ..
حتي ذاك الآن الذي دوي فيه صوت الإنفجار المدمر !
لم يتذكر شيئا أخر بعد ذلك ، جل ما يتذكره أنه أفاق ليجد نفسه يتيما فجأة ..
ثم مشوها ، ثم مشردا ..
و في الأخير تحول بين ليلة و ضحاها من صبي يافع ، إلي رجل ناضج ، بات مسؤولا عن أمه السيدة الآرملة ، و شقيقه الطفل الرضيع !!
رافق ذلك المشهد ، ذكري أخري ..
و لكنها قريبة و واضحة جدا ..
ذكري تلك الجميلة ، جميلته كما أطلق عليها ذات الشعر الأشقر و العينان الزرقاوان ..
حين كانت بين يديه ، تبتسم له بحب و هي تمسح علي شعره و خده الخشن المجوف بحنان و لطف ..
ثم تضم رأسه إلي حضنها و تخبئه و كأنها أما تحمي طفلها ..
تفاعل عقله مع هذه الذكري بصورة سريعة ، و للحال تنشط أكثر و أخذ يعرض له أحداث الساعات الماضية كلها ..
و بغتة ... ساعده علي إسترداد وعيه .............................................................
-هانيـــــــااااااااااااااا !
هكذا إنطلقت صيحته المتوحشة الجريحة لتربك هدوء الجو الساكن من حوله ، و لينتفض علي إثرها "زين" الذي جلس مسترخيا فوق مقعد وطئ وثير بجوار السرير ..
قفز "زين" نحوه مسرعا ، و أحاط كتفيه بذراعيه بقوة ليحبط محاولاته الهائجة في مغادرة الفراش ..
ثم هتف به في صرامة:
-عـااصم ... اهـدا ، اهــدا يـا عــاااصم !
تابع "عاصم" محاولاته للإفلات منه و هو يصيح بكل جنونه:
-اوعــي ... سيبنـي .. سيبنــي يـا زيــن ، هـي فيــن ؟ .. راحت فيـــن ؟ ... هـانيا فيـــــن ؟؟؟
لم يتمالك "زين" نفسه أكثر ، و هدر بصوت عنيف:
-بقـولك اهـدا ... انـت مش حـاسس بنفسـك ؟ .. ده انـت معدوم العـافية يـابنـي آدم ! ... اهمد بقـي ، الله يلعـن هانيـا علي اليـوم اللـي شـوفتها فيـه يـا اخـي !!
بصوت تآرجح بين الإضطراب و الإنفعال ، صاح "عاصم" غير عابئ بآلامه الجسدية:
-هانيـا فيــن يـا زيـن ؟ .. خدوهـا ؟ ... يعني ماعدتش في البيـت ؟ .. رد عليــا !
و أمسكه بياقتي قميصه ، فضغط "زين" جفنيه بشدة و هو يردد بفحيح حانق مغتاظ:
-الله يخربيتها يا شيخ ... دي لو سحرالك ماكنتش هتقدر تعمل فيك كل ده !!!***********************************
إرتجفت أصابع "هانيا" قليلا و هي تحاول في أقل ضجة ممكنة أن تفتح الباب الزجاجي الذي يطل من غرفتها علي الشرفة ..
إنها لا تريد إزعاج أحد هنا ، خاصة أنها تعلم بإن وجودها غير مرحب به من قبل بعض سكان المنزل ..
رغم الحفاوة الهائلة التي تلقتها بالأمس ، إلا أنها إستطاعت أن تتبين مدي زيفها ..
فقد إفتعلتها "دينار" و إبنتها "رضوي" فقط إرضاءً لـ"توفيق" .. أو بالأحري إرضاءً لـ"مروان" ...
و ذلك ما حارت فيه إلي الآن ، و ساورتها التساؤلات حول حقيقة الآمر ..
فلما يهتم "مروان" لأمرها فجأة هكذا ؟ .. منذ متي و هو يعتنق شيم الرجولة أو النخوة أصلا ؟ ...
لطالما كان شابا مستهترا وفظا !
تري إلام ينوي ؟ .. ماذا يريد من وراء كل هذا ؟؟؟
نفضت "هانيا" عن رأسها عن الأفكار في ذلك الحين ، و تنفست الصعداء لدي إنفتاح باب الشرفة ..
و نوعا ما شعرت بإرتياح بسيط ، إذ بخلاف كل الأحداث التي وقعت بالأمس ، بقيت الليلة الماضية هي الأكثر تآثيرا ..
حيث بعد ساعات طويلة قضتها تتقلب في السرير غير قادرة علي النوم من شدة تدفق الأفكار الملحة علي ذهنها ..
شعرت بإنها لم تعد تطيق ، فتركت الفراش و حتي الآن لم تفكر في العودة إليه ..
لم تستطع أصلا أن تفكر سوي به هو ..
تري كيف حاله الآن ؟ .. تساءلت ... هل أصبح بخير ؟ .. أم أنه تأذي بدرجة كبيرة ؟؟؟
بات قلبها يخفق هلعا كلما تتخيل مكروها أصابه .. لن تتحمل هذا ، ليس بعد أن فرض حبه عليها ، و إحتل مشاعرها و تفكيرها ، و ملك كيانها ...
الآن فقط أدركت فداحة فعلتها !
ما كان يجب أن تتركه ، أو حتي تفكر مجرد التفكير في الآمر ..
ندمت أشد الندم علي تلك الخطوة المتهورة المشوشة التي إتخذتها بلا تفكير عميق أو منطقي ..
فهي قادرة في هذه اللحظة بالذات علي الشعور بشيئا منه ينمو في أحشائها مع كل ثانية تمر عليها ..
أصبحت متآكدة من هذا ، إحساسها آكد لها تلك الحقيقة دون برهان مرئي أو عملي ..
ليته يآتي ... ليته يآتي في الحال و يأخذها ليعيدها مجددا إلي قلعته الحصينة .. و إن فعلها بالقوة ، لن ترفض ، لن تمانع ..
ستذهب معه بكامل إرادتها ..
فقد أمضت ليلة واحدة بعيدا عنه ، إلا أنها كانت ليلة طويلة ، طويلة جدا لا نهاية لها ..
ستتذكرها دائما ، مدي الحياة .. إذ لم تتوقف عن البكاء لحظة واحدة ، و شعرت ببشاعة الوحدة ..
لأنها لم تجده بجوارها ... ماذا يمكن أن تفعل الآن ؟ لا شيء ..
لقد تركته ، و لا أحد يمكن أن يعيده إليها أو يعيدها إليه .
تنهدت بآسي و هي تستدير عائدة إلي الفراش في محاولة أخري يائسة لإستحضار النوم ، علها تهدأ قليلا !
و لكنها ما أن وضعت رأسها علي الوسادة و أغمضت عينيها حتي لاح وجهه أمام عينيها ..
كان حضوره قوي هذه المرة ، حيث شعرت و كأنه قربها حقا ..
أغمضت عينيها بقوة أكثر لئلا تدع آثر الحلم يهرب منها ..
هذا الحلم الرائع المستحيل بنعومته المؤلمة ، و في شيء من الإيحاء ..
إستطاعت أن تشعر بذراعي "عاصم" القويتين الحنونتين تضمانها ، لكنها كانت تعرف أن ذلك محال .. فهو الآن بعيدا جدا عنها ، و لا مجال للوصول إليه ..
تلك الحقيقة أصابتها في الصميم ، فإعتراها آلم قوي ، لترفع رأسها عن الوسادة و تبدأ تجهش بالبكاء ...
لم يقطع وصلة بكاءها المستمرة ، سوي هذا الطرق المفاجئ علي باب غرفتها ..
كفكفت دموعها بسرعة ، ثم هتفت بنبرة ثابتة متكلفة:
-ادخل !
إنفتح باب الغرفة ، و أطل من خلفه "مروان" بوجهه المكفهر المجدب ..
عاينها في صمت للحظات ، قبل أن يقول بلهجة جافة:
-بابا عاوزك تحت !
تجعد جبينها بعبسة متسائلة و هي تقول:
-في حاجة و لا ايه ؟؟!**********************************
يتبع