58

2.4K 69 13
                                    


لا تعلم لماذا أحست بأنفاسها تختلج في صدرها حين سمعته يقول تلك الكلمات ، فرفعت إليه وجهها الشاحب بسرعة ، و سألته بإقتضاب:
-عايز تعترفلي بإيه ؟؟
أطرق رأسه ، و ظل صامتا للحظات .. أراد أن يجمع أفكاره ، و يستحضر الكلمات المناسبة للتصريح عما يجيش بصدره ..
لكنه فجأة هب واقفا ، و سار صوب النافذة الزجاجية القريبة من موضع مجلسهما ..
إستند بيديه إلي حافتها الرخامية ، و سكن قليلا ..
راقبته "هانيا" منتظرة ما سيخرج من فمه في تشوق ، فيما تقلصت ملامح وجهه المعذب في شيء من الآلم ، فإبتلع غصة مريرة في حلقه ، و سحب نفسا عميقا ، و بدأ يتكلم و لكن بصوت متحشرج بعض الشيء:
-زمان و انا صغير .. ابويا ماكنش بيحب ينزلني الشارع العب .. بس قعدت اتحايل عليه في مرة من المرات لحد ما نزلت ، المهم اتخانقت مع ولد و ضربني و ضربته
لما رجعت البيت و هدومي مقطعة ، ابويا شافني .. قالي مين عمل فيك كده ؟ قولتله فلان.
صمت لثوان ، و تابع بصوت أجش:
-حسيت ساعتها ان عضم وشي اتكسر من كف ايده اللي نزل علي وشي .. و قالي بعدها انزل هات حقك يابن الـ***
نزلت جري و مسكت الولد ده فرمتتته لدرجة ان وشه مابقاش فيه اي علامة مميزة ، و طلعت قولتله انا مسكته فرمته و عورته.
صمت مرة أخري لدقيقة كاملة ، ثم عاد يقول بنبرة متهدجة إنفعالا:
-نفس القلم هو هو نزل تاني علي وشي ، و المرة دي قالي ، ادخل اقلع هدومك و استحمي يا كلب و اوعي تنزل الشارع ده تاني
و بالليل ، لاقينا الباب بيخبط .. ابويا فتح ، لاقينا والد صاحبي و ابنه معاه وشه كله ملفوف بالشاش ، ابويا رحب بيه و قاله ، اهلا اهلا يا استاذ اتفضل ..
الراجل دخل و قاله ، انا زعلان و الله ، يرضيك عاصم يعمل في اخوه كده ؟ ابويا قاله لا و الله مايرضنيش .. و إتكرر قدام الراجل و ابنه نفس القلم هو هو لتالت مرة ، بس المرة دي لا عيطت و لا حتي حسيت بآلم اد الصدمة في ابويا ..
و فضلت مقتنع ان ابويا مجننون ، و بقيت اسأل نفسي .. هو عاوز ايه ؟ .. اتخانقت ضربني ، نزلت ضربت اللي ضربني بردو ضربني .. و لما الناس جت بردو ضربني !.اكيد ابويا مش طبيعي.
و هنا إلتفت إليها ، و كانت نيران المدفأة تنعكس علي عينيه الحادتين و صفحة وجهه نصف المشوه ، ثم قال بهدوء هذه المرة:
-بس لما كبرت ، و بعد كل التجارب اللي مريت بيها .. عرفت معني التلت اقلام ..
اول قلم .. اوعي تسيب حقك ، تاني قلم .. اوعي تفتري علي حد ، تالت قلم .. اوعي بسببك حد يجي يقول انك اتسببت في مشكلة قدام حرمة بيتك او قدام حرمة بيوت الناس.
نظرت إليه بمزيج من الدهشة و الإستنكار ، و سألته محتدة:
-و لما انت اتعلمت كل ده .. بتعمل عكسه ليه ؟ .. بتفتري ليه ؟ بتتعدي علي حرمة بيوت الناس ليه ؟؟!
إنفلت عقال غضبه و إنفعاله بغتة ، فصاح بعنف متهور:
-أنا ماشي علي كلام ابويا .. مافيش خطوة خدتها في حياتي مش سليمة ، انا صاحب حق .. و لحد اخر نفس هفضل احارب لحد ما اخد حقي.
باغتته بعدائية:
-و ايه وجه الحق في اللي عملته و اللي بتعمله فيا ؟؟
رأته يعود بالخطي نحوها مرة أخري و هو يبتسم في تهكم مرير .. و لما وصل إليها و جلس قبالتها مجددا ، مد جسده ليكون علي مقربة منها ، ثم قال بتؤدة و ثبات:
-انتي وجه الحق نفسه .. انتي حقي يا هانيا ، حقي اللي مش هتتازل عنه مهما حصل.
و هنا ، تهاوت دموعها الحبيسة منذ إسبوع و أكثر ، و هتفت غاضبة:
-لأ مش حقك .. انت عدوي ، مهما كان اللي بينك و بين ابويا ، او اللي كان بين ابوك و ابويا .. هتفضل عدوي ، كفاية اصلا اللي عملته فيا .. انت دمرتني ، دوست عليا برجليك و سوتني بالأرض .. انا شفت معاك ذل عمر بحاله ، و عمري ما هسامحك.
راحت عيناه ترسلان شرارات خطر و هو يتفحص وجهها المتمرد الحزين ، ليصيح فجأة:
-انا مادمرتكيش و لا دوست عليكي و لا عملت اي حاجة من اللي قولتي عليها .. انا ماجيتش جمبك ، انا ماقربتش منك حتي يا هانيا .. انتي لسا زي مانتي ، انا مالمستكيش !

************************************

وقفت علي باب غرفتها ، تراقب طريق المرور لتتأكد من خلو المكان ..
فلما إطمأنت لذلك ، إندفت تعدو بخطوات خفيفة كالريشة و هي حريصة أشد الحرص علي ألا يصدر عنها أي صوت و لو ضئيل يدل علي تحركات غير طبيعية ، فتلفت الإنتباه لها ..
خرجت من المنزل تماما كاللصوص من خلال باب خلفي ملحق بالمطبخ يستخدمه الخدم ..
و أخيرا وصلت عند البوابة الصغيرة للڤيلا ، و المغلقة بإحكام فلا يحرسها أحد ..
و هناك ، كان يقف "شهاب" خلف القضبان الحديدية المتينة في إنتظارها .. :
-في ايه يا شهاب ؟ .. ممكن افهم ايه سبب الجنان اللي حل عليك فجأة ده ؟؟!
حدجها "شهاب" بنظرة إزدراء جليدي حرجتها للغاية ، ثم قال بجفاف:
-بتتهربي مني ليه ؟ .. انا عملت حاجة ضايقتك ؟ .. في اخر مقابلة لينا ، حصل مني حاجة زعلتك ؟ .. و يا تري مابتجيش الكلية بسببي بردو ؟ ماتتكلمي يا هاجر ، اتكلمي و اوعدك اني همشي فورا و مش هتشوفي وشي تاني ابدا ، بس اعرف الاول ايه سبب هروبك مني !!
لم يتلق منها ردا سوي نظراتها الواهنة الدامعة و هي تضغط شفتيها في بعضهما بمنتهي الآلم و العذاب ..
ما أزاده ذلك إلا إنفعالا ، فهدر بقسوة:
-للدرجة دي مش طايقة تشوفيني و لا تسمعي صوتي حتي ؟ .. مش قادرة تردي عليا و تقوليلي امشي مش عايزة اشوفك تاني ؟؟
و كف عن الكلام للحظات ، ثم عدل من وضعيته ، و هندم ثيابه الفاخرة بحركات متغطرسة ، ثم قال بخشونة و هو يرمقها بنظراته المتعالية:
-عموما انا هريحك مني يا انسة هاجر و همشي . بس قبل ما امشي احب الفت نظرك لحاجة مهمة ، مش انا اللي حاولت اتقرب منك .. مش انا اللي طول الفترة اللي فاتت فضلت العب بمشاعرك و عواطفك .. انتي اللي عملتي كل ده ، و انا لو عايز هدفعك تمن كل اللي عملتيه معايا.
ثم مرر عينيه عليها من أسفل إلي أعلي في تقييم مزدر ، و أضاف:
-بس انتي ماتستهليش اضيع معاكي وقت اكتر من كده.
و أدار لها ظهره ، و خطي بعيدا عنها ..
لم تتمكن "هاجر" من تحمل ظلمه و إتهامه الباطل لها ، فحررت مشاعرها المكبوتة ، و أطلقت صوتها المجروح ، لتقول و دموعها تسيل بغزارة و حرارة علي خديها:
-شهااااب .. استني يا شهاب ، ماتمشيش .. انا بحبك !
تجمد بمكانه لوهلة ، لكنه سرعان ما أفاق من الغفلة التي كادت تزجه بها مرة أخري ، إذ قال دون أن يلتفت إليها:
-مش هسمحلك تلعبي بيا تاني .. حاولي مع حد غيري يا انسة ، و نصيحة مني .. احسنلك ماتهوبيش ناحيتي بعد كده ابدا و الا ماتلوميش الا نفسك.
ثم إنتفض بشموخ ، و عاد من حيث آتي ..
بينما بقيت "هاجر" تحدق في أثره الفارغ و هي تبكي و تهتف إسمه في يأس حارق:
-شهــاب !

***********************************

علي الطرف الأخر ..
تسمرت "هانيا" في تلك اللحظة من هول المفاجأة ، فتطلعت إلي وجهه المطل عليها ، و قالت بما يشبه الهذيان:
-انت .. انت بتقول ايه ؟ .. آاا آا ..
-بقول الحقيقة عشان اريحك من العذاب اللي انتي فيه !
قاطعها من قلب محروق ، إذ كان هو يتعذب مثلها أيضا ..
عجزت "هانيا" عن الكلام أمام نظرته المحترقة ، و عواطفه السافرة ، و لكنها في الوقت ذاته لا زالت لا تصدقه ..
إنما لهجته و نظراته بدتتا تآكدان صدق قوله ، و إن كان يحبها حقا كما قال من قبل ، فلابد أنه كابد الكثير مثلما كابدت هي و ربما أكثر ..
فعذابه مسطر علي وجهه ، بل و محفور في ثناياه المتقلصة ..
غامت عيناها بالحزن ، و مزق الوجع قلبها ، فتوسلته بمقلتيها الزرقاوين اللتين لطالما أبدي إعجابه الشديد بهما ، و همست:
-ارجوك ، من فضلك .. ماتكدبش عليا .. انا يومها شفت بعيني ...
-مش حقيقي !
قاطعها للمرة الثانية بصوت منخفض ، فلاحظت إلتماع عينيه و كأنه علي وشك البكاء ، بينما تنهد "عاصم" بثقل ، و راح يقص عليها الآتي ..

..................................................................

يتبع

المظفار والشرسهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن