عند إنتصاف النهار ..
خطي " توفيق علام " بقدمه علي أرض حي ( الغورية ) العتيق ، ثم راح يسير ببطء و عيناه تجولان علي جدران المنازل ، يبحث عن رقم منزل صديقه القديم الذي إنقطعت صلته به منذ أكثر من خمسة عشر عاماً ، و لكن عبثاً ، فقد تآكلت معظم اللوائح النحاسية المُعلقة علي أبواب المنازل بفعل الصدأ أثر مرور السنين ..
تأفف " توفيق " في ضيق و لم يجد بديلاً عن ذلك سوي أن يذهب و يسأل أحد القاطنين بالحي عن صديقه ، و بالفعل إتجه صوب مقهي قديمة الطراز ، و بينما كان يمر بين الزبائن شاب في أواسط العشرينات ، مد " توفيق " يده و أمسك بذراعه في لطف يستوقفه ، فتطلع إليه الأخير بريبة و هو ينقل عينيه بين وجه السيد الغريب و ذراعه النحيل بقبضته ..
إبتسم " توفيق " بخفة ، ثم ترك ذراعه و سأله بنبرة هادئة :
- قولي يابني لو سمحت ، فين بيت رقم 9 ؟؟
- بيت رقم 9 !!
ردد الشاب في وجوم إستنكاري ، بينما أومأ " توفيق " رأسه قائلا :
- ايوه ، بيت رقم 9 اللي ساكن فيه الاستاذ رشدي هلباوي.
عند ذلك ، صاح الشاب بحماسة عفوية :
- اااه ، قصدك عم رشدي مجالات ؟؟
عبس " توفيق " مستغرباً و عاد يقول :
- ايه !رشدي مجالات ايه بس يابني بقولك اسمه رشدي هلبا ..
قاطعه الشاب مسرعاً :
- هو عم رشدي مجالات ، مافيش هنا في المنطقة كلها الا رشدي واحد بس ، عم رشدي مجالات و اهو قاعد هناك اهو.
أشار له نحو طاولة في الوسط داخل المقهي ، ثم صاح عالياً :
- عم رشدي !
- في ايه ياض يا شبورة ؟؟
صدر السؤال عن رجل جلس مولياً ظهره للشاب الذي تابع قائلا و هو يتفحص " توفيق " بعينيه من أعلي إلي أسفل :
- في واحد بيه بيسأل عليك.
ثم مضي يلبي طلبات الزبائن ، بينما نهض السيد "رشدي " متسائلا :
- يا تري مين البيه ده اللي جاي لحد الغورية مخصوص عشان يسأل عن رشدي مجالات ؟؟
ثم إلتفت إلي "توفيق " أخيراً ، كان رجلاً من الصعب تحديد عمره ، فبنيانه بنيان شاب نحيل ، و رشيق أكثر قوة مما تكشف عنه حركاته المتراخية ، شعره أسود متموج خطه الشيب فوق أذنيه ، كما كان وجهه دقيق أيضاً و لكن هناك خطوطاً ظهرت حول عينيه أكدت حقيقة عمره الذي تجاوز الثانية و الخمسين منذ أشهر مثل "توفيق " الذي كان لا يزال واقفاً بمكانه يتأمل الشخص الذي أقبل عليه ببطء و هو ينظر إليه مضيقاً عينيه ، بينما سيكارته البيضاء الرفيعة تميل علي حافة فمه الواسع الصارم ، و عندما وقف أمامه مباشرة ، رمقه مقطباً لبضع لحظات ، ثم صاح فجأة بإبتسامة واسعة :
- مش ممكن ! توفيق علام ؟!
- رشدي هلباوي.
هتف " توفيق " باسماً بدوره ، ثم راحا يتعانقان بقوة ، حتي إبتعد " رشدي " أولاً و قال و قد إنفرجت أساريره :
- يااااه يا توفيق ، و الله زمان يا صاحبي ، يا تري ايه اللي فكرك بيا ؟؟
كاد " توفيق " يتكلم فباغته الأخير بسرعة :
- تعالي نقعد نشرب حاجة الاول.
ثم قاده إلي أقرب طاولة و أجلسه ثم جلس قبالته ، و بعد أن طلب الشاي لكليهما ، إدار وجهه الباسم إليه قائلا :
- تصدق انا كنت فاكرك نسيتني يا توفيق ، بعد ما ربنا فتحها عليك قلت خلاص بقي ، راحت عليها الصداقة القديمة ، اللي بينا ، ماكنتش متخيل اني هشوفك تاني بعد كل السنين اللي فاتت دي !!
أجفل " توفيق " في خجل قائلا :
- انا اسف يا رشدي ، انا فعلا اهملت صداقتنا اللي دامت من ايام المدرسة ، لكن صدقني انا من يوم ما خلفت و ولادي واخدين كل وقتي.
- الا بالحق صحيح ، ولادك عاملين ايه ؟ هما كانوا بنت و ولد علي حسب ما انا فاكر صح ؟؟
أومأ " توفيق " رأسه باسماً و أجابه :
- ايوه يا سيدي ولد و بنت ، مروان الكبير و رضوي الصغيرة.
- ربنا يخليهملك و يباركلك فيهم.
إبتسم "توفيق " في سخرية مريرة و قال :
- ربنا يوفقهم في حياتهم بقي ، انا خلاص بقيت مجرد اسم في شهادات ميلادهم و بطايقهم.
قطب " رشدي " حاجبيه مستغرباً ، ثم سأله :
- ايه اللي بتقوله ده يا توفيق ؟ ليه بتقول كده ؟؟
تنهد "توفيق " بثقل ، و نظر إليه صامتاً لبرهة ، ثم قال بلهجة مفعمة بالآسي :
- هحكيلك يا رشدي.