كانت في عينيه قتامة غامضة جعلت من المستحيل رؤية أفكاره الحقيقية ..
فسحب سلاحه من غمده ، ثم مد لها يده و هو يقول بلهجة جادة تماما:
-خدي .. خدي يا هانيا ، خدي المسدس .. اقتليني و خدي بتارك.
كان وجهه جادا علي نحو مفزع و هو يحملق بثبات و بأس في عينيها ، بينما كانت "هانيا" ذاهلة .. مشوشة ..
تحاول أن تستوعب كلماته دون فائدة ..
إذ لم تكن تتخيل أن يصدر عنه كلاما كهذا .. فالرجل الذي عرفته ، و الذي عاشت معه تحت سقف واحد لأشهر ، لا يمكنه أن يتفوه بهذه العبارات المهزومة !
-خدي يا هانيا.
ردها صوته الحاد إلي الواقع مجددا ، فتطلعت إليه في مزيج من الشك و الريبة ، ليستطرد هو بهدوء:
-ماتخافيش .. محدش هيتعرضلك ، انا مشيت كل الخدم و الحرس اللي في القصر .. يلا امسكي يا هانيا ، انا عارف انك بتتمتي اللحظة من يوم ما شوفتيني ، و اديني بقدمهالك دلوقتي .. و زي ما قلتلك قبل كده انا هبقي مبسوط اوي لو مت علي ايدك.
و مد يده بالسلاح مرة أخري منتظر قبولها عرضه السخي و هو متأكد أنها لن تتردد أبدا في قتله بسبب كل الآلام التي سببها لها ..
فيما راحت تحدجه في حذر للحظات ، حتي حسمت أمرها ..
فمدت يدها و بحركة خاطفة .. أخذت السلاح من يده ..
عدلت من وضعيته مصوبة فوهته تجاه "عاصم" الذي وقف بثبات و هو يمنحها أخر إبتساماته الهادئة ..
و لكنها ظلت واقفة قبالته بلا حراك و لا زال السلاح بين يديها في وجهه ..
لوهلة .. كادت علي وشك تبديل رأيها في أمر قتله ، و بالفعل .. رفعت إصبعها عن الزناد ..
لكن مرت فجأة أمام عينها صورة والدها و هو ملقي فوق أرضية مكتبه مخضبا بدمه ..
فتصاعدت الدماء إلي وجهها و أحكمت قبضتيها علي السلاح مرة أخري في حركة إستعدادية للإطلاق ..
و لكن بدون أن تدرك أو تعي مدي صحة ذلك .. سمعت صوت طلق ناري فوق رأسها كاد يصم آذنيها ....................................................................
شقت "هانيا" بصرختها المدوية الأجواء الساكنة من حولها ...
-هانيا .. هانيا ، في ايه ؟ .. اصحي !
أفاقت "هانيا" علي هذا الصوت ، و بغتة .. تلاشي الكابوس ، ففتحت عينيها علي وسعهما ..
لتجد نور الصباح يملأ الغرفة كلها ، و "عاصم" الذي بدا أنه إستيقظ لتوه يطل عليها بوجه قلق .. و عاد يسألها:
-في ايه ؟ .. مالك ؟؟
أجابته بصوت متقطع و هي تفرك بعينها:
-انا .. انا اسفة .. كنت .. كـ كنت ، كنت بحلم بكابوس !
و سألت:
-الساعة كام دلوقتي ؟؟
أدار "عاصم" رأسه و ألقي نظرة علي ساعة الحائط الكبيرة ، ثم أجابها:
-الساعة عشرة و ربع .. قوليلي الاول بس ، كنتي بتحلمي بإيه ؟؟
راحت ترنو إليه بعينين صامتتين ... ثم أغمضتهما بقوة ، أطلقت تنهيدة فاترة و هي تدفعه عنها و تقول:
-اهو كابوس مزعج و خلاص !
ثم نهضت من مخدعها متجهة صوب الحمام ..***********************************
-امك دوشاني عليك .. كل شوية تتصل تسأل هترجع البيت امتي ؟؟
قالها "توفيق" بتآفف يخاطب إبنه الممدد أمامه فوق الفراش الطبي الصغير ..
بينما ضحك "مروان" بخفة و قال:
-هو انا بحبها من شوية ؟ .. طول عمرها مدلعاني ، ربنا يخليهالي.
و واصل كلامه بمحبة زائدة:
-و يخليك ليا انت كمان يا بابا.
منحه "توفيق" إبتسامة هادئة ، أعقبها برده المرح:
-بس انت عملت شغل عالي اوي قدام الظابط في التحقيق .. عارف ؟ صدقت .. و الله صدقتك.
و ضحك بنفس المرح ، فبُــهت "مروان" و تقلصت قسمات وجهه بآلم ..
توقف "توفيق" عن الضحك ، و سأله بقلق:
-مالك يا مروان ؟ .. حاسس بحاجة ؟؟
هز "مروان" رأسه نفيا ، و قال:
-انا كويس يا بابا .. بس عايزك تعرف ان الكلام ده ماكنش سهل عليا انطقه .. انا عملت اللي حضرتك قلت عليه كله عشان ارضيك .. انما انا مش هسيب حق حنة يا بابا .. اخرج من هنا بس و اشوف الكلاب اللي دبحوها قصاد عيني ، اشوفهم بس و هخليهم يتمنوا الموت.
نهاه "توفيق" بحده:
-لأ يا مروان ..انت وعدتني انك هتشيل الموضوع ده من دماغك ، هما كده كده خلاص رايحين فيها .. هيتحبسوا و الحكم هيبقي مشدد ، الاستاذ شركس المحامي اكدلي ده بنفسه ... مروان .. مافيش مشاكل تاني هتقع فيها ، سامعني ؟؟
تفجرت الدموع من عينيه و هو يقول:
-يعني اسيب حقها ؟ .. دي مابتبطلش تزورتي في احلامي .. مابتبطلش تستنجد بيا و انا .. انا ببقي واقف متكتف مش عارف اعملها حاجة !
و تآوه بآلم و هو يبكي بحرقة .. هز "توفيق" رأسه آسفا علي حال إبنه ، ثم رد بهدوء:
-يابني لازم تنسي .. لازم تكمل حياتك و تحاول تتخطي الازمة دي ، انا مقدر مشاعرك و وجعك .. بس كل ده مايمنعش انك غلطان من الاول .. احنا ممكن نعتبر اللي حصل ده كله كان عقاب من ربنا ، و كمان لازم تعرف ان ربنا بيحبك يا مروان.
حدجه "مروان" في صمت ذاهل ، فأومأ "توفيق" قائلا:
-ايوه يابني ربنا بيحبك .. لو ماكنش بيحبك ماكنش ادالك فرصة تانية في الحياة .. انت كنت ميت فعلا يا مروان ، بس هو حياك من تاني عشان تحاول تصحح اخطائك ، عشان تتوب و تمشي عدل.
تنهيدة آلم حارة أطلقها "مروان" إمتزجت بنبرته الثابتة التي حرك بها شفاهه قائلا:
-الموت كان اهون من حياتي و حنة مش فيها يا بابا.
رماه "توفيق" بتظرة إشفاق و هو يري الدموع تنثال علي خديه ببطء ..
بينما رفع "مروان" يده و كفكف دموعه في بأس ، ثم صوب نظرات قوية إلي عيني أبيه ، و سأله بإهتمام:
-صحيح يا بابا .. هانيا اخبارها ايه ؟؟
إبتسم "توفيق" هازئا ، و رد بمرارة:
-و بتفكرني بيها ليه بس ؟ .. انا مش قادر افكر فيها خالص بعد ما خذلتها و اتخليت عنها.
قطب "مروان" في إستغراب جم و هو يتابع سؤاله:
-ايه اللي حصل ؟؟
صمت "توفيق" مطرقا للحظات .. ثم أخذ يقص عليه التفاصيل كلها و هو لا يزال منكسا رأسه في خزي ... :
-ابن الـ***
صاح "مروان" بغضب عنيف جدا ، و لم يعد يسيطر علي إنفعاله ، فأردف بصوت تردد صداه بقوة عبر أركان الغرفة الأربعة:
-انـت ازااي تسيبهـا عنده كل ده ؟ .. ازااي تسيبهاله اصلا ؟؟ .. ازاي الحيوان ده قدر ياخدها منك ؟ .. و ازاي ماقدرتش ترجعها ؟ .. مافكرتش ممكن يكون عمل فيها ايه ؟؟؟
أحس "توفيق" بالخجل و لم يرد ، فصاح "مروان" مجددا و قد تورم وجهه و عنقه من شدة الغيظ و الهيجان:
-خرجني من هنا دلوقتي حالا .. انا هروحله ابن الـ*** ده و يا انا يا هو ، و اذا كان فعلا آذاها و لا مس منها شعرة شمس اليوم التاني مش هتطلع علي واحد فينا .. خرجني من هنـــا !
و كاد ينهض من السرير حقا ، فهب "توفيق" نحوه و أبقاه حيث هو قاىلا بهدوء متوتر:
-يابني اهدا .. حاضر هخرجك من هنا و اوعدك هنروح نجيبها سوا ، خلاص بقي اهدا.
سكن جسده ، و لكنه لم يهدأ .. بل ظل يتآجج في غيظ و غضب و هو يردد:
-يابن الـ*** ... يابن الـ*************************************
أما و قد إلتزمت بوعود محددة مع "عاصم" إضافة إلي رباط الزواج الذي يربطهما الآن ، لم يعد أمام "هانيا" أي مجال للتراجع ..
و كأنها علي متن سفينة عملاقة لا تملك دفتها ، يسير بها هو نحو المجهول بدون أن تستطع منعه أو حتي التفكير في المصير الذي ستؤول إليه في النهاية ..
بعد أن تركته وحيدا في الفراش منذ قليل ، قررت أن تستحم .. لعل الماء الدافيء ينعشها في هذا الجو البارد و يبعد عنها الأفكار المتضاربة التي تضج في رأسها ..
وضعت كمية من صابون الإستحمام الوردي اللون ، ثم إنزلقت في المغطس حتي وصلت الرغوة و الفقاقيع إلي عنقها ..
و ها هي تحاول أن تريح جسدها و أعصابها ، لكن أفكارها لم تتركها .. ظلت تلح علي ذهنها بلا رحمة ..
كانت ترتجف في كل أنحاء جسدها و هي تفكر في المشاعر المجنونة التي تفاعلت داخلها ..
كانت مضطربة حتي أعمق أعماقها ، حاولت أن تقاوم نفسها بقوة القدر ، و لكنها فشلت ..
إنها تحب هذا الرجل الذي كانت تعتقد طوال المدة الفائتة أنها تكرهه !
هذا الرجل الذي تسبب في موت والدها .. أجل تحبه !!
بعد كل ما فعله بها تحبه ..
ما زالت "هانيا" تحفظ في أذنيها وقع كلماته الناعمة التي راح يهمس بها قرب عنقها و خدها ليحاول إستمالتها بصورة يائسة في تلك الليلة التي أمضياها كزوجين ..
أطلقت زفرة نائحة ، و شدت يدها علي جبينها ، ثم تساءلت ..
كيف أحبته ؟ .. متي أحبته ؟ .. أنها لكارثة ، لا يمكن أن يحدث ، لا يمكن أن تفعل .. مستحيل ..
في الآونة الأخيرة .. أدركت فجأة أنها لم تعد ترغبه عدوا ، أدركت أيضا أنها لم تعد تريد الهرب منه .. و لكنها لم تصارح نفسها بهذا الكلام أبدا ..
تحققت "هانيا" أنها تحبه بعمق .. كما إكتشفت بذعر أنها منذ اللقاء الأول ، شعرت تجاهه ببعض الإنجذاب الذي أخذ يكبر و ينمو تحت غطاء العدائية الواضحة و كان يكفي فقط أن يتعرض أحدهما لخطر حقيقي حتي تعي حقيقة مشاعرها نحوه ..
هذا الإكتشاف المباغت هز حواسها هزا عنيفا .. ما زالت لا تدري متي حصل ذلك الحب القوي ؟
ربما كان موجودا طوال الوقت يصارع من أجل البقاء و الإعلان عن نفسه ..
آه من تلك الكراهية التي أقنعت نفسها بإنها تشكل شعورها الوحيد تجاهه ، كان يجب أن تدرك في لحظات معينة أن العواطف التي تستشعرها معه لا يمكن أن يكون أساسها الكره فقط ..
ربما كانت أساسها الغضب .. الغضب من عدم قدرتها علي الإعتراف بذلك الأمر لنفسها ..
أصابها الهلع من دفق أفكارها المجنونة ، فإنتصبت واقفة و تركت المغطس ..
جالت في قاعة الحمام كالتائهة .. أخذت المنشفة و لفت بها جسدها و هي تقرر بصرامة ..
ستعود إلي شرنقتها ، عليها أن تمحي هذا الجنون من رأسها و فورا ..
إذ لا يجوز ، لا يجوز أن تحبه .. فلو فعلت ، ستكون خائنة لذكري أبيها ...هزت "هانيا" رأسها بعنف لتنفض تلك الأفكار عنها ..
ثم أخذت نفسا عميقا و زفرته علي مهل و هي تحاول أن تستحضر شخصيتها العدائية مجددا .. و قد نجحت في ذلك بالفعل ....**********************************
علي النقيض ..
كان "إياد" ممسكا بهاتفهه بيد مرتجفة و هو متردد أن يقدم علي تلك الخطوة ..
إنما حثه "وليد" قائلا:
-يلا يا اياد .. مستني ايه ؟ .. الدكاتره مش راضيين يبدأوا شغلهم الا اما تيجي والدتها و تتعرف عليها !
إزدرد "إياد" ريقه بصعوبة بالغة .. و عبثا عجزت عيناه عن ذرف الدموع ، فقد جفت تماما لكثرة ما سفحه منذ ليلة أمس و حتي الآن ..
و لكنه فعلها فجأة ..
ضغط زر الإتصال ، و بقي في إنتظار الرد ...يتبــع ...