64

2.3K 65 2
                                    


عند دقات الثامنة مساءً ..
كان "شهاب" يجلس في حديقة القصر الخلفية ، ينتظر مجئ "هاجر" التي ستصل بعد دقائق قليلة ..
أشعل "شهاب" سيكارة و راح يدخنها بعصبية ، في حين كان يفكر ... لا زال يصر علي رفض ما تختلجه نفسه من مشاعر ناحيتها ..
فهي لا تستحق الشفقة حتي من وجهة نظره ، فتلك الفتاة الصغيرة ما هي إلا ماكرة لعينة إستطاعت الدخول لعقر داره بل و قلبه و التلاعب به ، و لا يعلم ما تخبئه له أيضا !.و لكن لا.. ليس بعد الآن ..
فإذا أحس منها غدرا أخر و لو بسيطا ، عندها ستري منه ما لم تراه أبدا في حياتها ..
أفاق من شروده علي صوت محرك سيارة ، ففطن للحال بصولها ... لم يحرك ساكنا ، فقط ظل جالسا مكانه يدخن سيكارته في برود تام غير مبال ..
بعد لحظات .. إستطاع أن يسمع وقع خطواتها المتباطئة من خلفه فوق الحشائش الخضراء ..
و هنا فقط ، القي بسيكارته بالمنفضة و أطفأها ، ثم إستقام واقفا .. أدار جسده لها ببطء ..
فإستحالت تعابير وجهه بغتة من البرود و الجمود إلي الدهشة و الذهول !
فقد رأي وجهها .. كان شاحبا ذابلا ، كما أحاطت عينيها الهالات الزرقاء القاتمة ..
بعد دقيقة كاملة من الصمت و السكون ... إقترب منها "شهاب" بخطوة واحدة ، و مد يده لياصفحها ... لكنه وجد بريقا إنطفأ قليلا فيها ..
بينما ترفع هي خصلات شعرها لأعلي ، فلم تنساب علي جبينها كعادتها ..
بدت بالفعل كما شعر بها عندما كان يحدثها عبر الهاتف و كذب نفسه .. لم يكن يريد أن يصدق بإنه ظلمها مثلما قالت له مسبقا ، و لكن نظرته تبدلت حين رآها !
سارع "شهاب" و أجلسها مكانه ، ثم جلس بجوارها في هدوء غير إعتيادي .. فدائما ما كانا يتداعبان بمجرد أن يتصافحا ..
حزن لهذه الذكريات ، إنما تركها الآن و أخذ ينظر إليها بتركيز ، كأنه يبحث عن شيء ما ..
كفت هي عن الصمت و تطلعت إليه بعينين دامعتين ... تضاعفت صدمته لمرآي دموعها ، و أصبح يكره نفسه فجأة ..
بينما مدت يدها و أمسكت بيده الملقاة فوق الطاولة أمامها .. رفعتها إلى شفتيها و قبلتها ، لأول مرة في حياتها تقبل يد رجل ، و لم تشعر بأي إنتقاص في شخصها كإمرأة ..
فهي تحبه .. تحبه كثيرا و بعكس الكثيرات لا تري كرامة في الحب ..
أجهشت "هاجر" بالبكاء و هي تهز رأسها قائلة بصوت مهزوز متقطع:
-من فضلك يا شهاب مابتعدش عني تاني .. اوعي تديني ضهرك مرة تانية و تمشي منغير ما تسمعني .. مش من حقك تخرج من حياتي بالسهولة دي ، مش من حقك تظلمني كده.
كان صوتها متهدجا ، بالكاد إستطاع أن يميز كلماتها و يدركها من بين شهاقاتها و دموعها ..
لم يتكلم "شهاب" .. بل إقترب بمقعده منها ، و في صمت و هدوء شديدين ... فرد ذراعيه و ضمها إليه ..
فمالت برأسها علي كتفه و بكت بحرارة .. كانت يده الآن تنتقل بين شعرها و ظهرها محملة بعطف عليها ، و عشق و شوق إليها ..
شعرت براحة غامرة قللت من دموعها تدريجيا ، و لما ضمن أنها هدأت تماما ، إبعدها عنه برفق ..
فإستوت هي في جلستها ، فناولها "شهاب" كوب ماء من فوق الطاولة .. أخذته من يده ، و أطبقت عليه بأصابع مرتجفة ، إرتشفت القليل ، ثم أعادته إليه ..
تمهل "شهاب" قبل أن يتحدث معها بروية و رقة قائلا:
-المفروض كنت اقابلك بشكل تاني خالص .. انما بعد ما شفتك في الحالة دي قلبتيلي دماغي يا هاجر ... توهتيني و حسستيني اني ظلمتك فعلا ، بس لو صحيح ظلمتك زي ما بتقولي .. ازاي و انتي اللي بعدتي الاول منغير سبب و لا مبرر ؟؟!
تنفست بعمق تعبة .. ثم قالت تصارحه بهزل:
-اخويا يا شهاب .. اخويا هو السبب ، شافك لما جيت تاخدني من البيت يوم فرح اخوك .. تاني يوم جه سألني عليك ، كان مصر يعرف ايه اللي بيني و بينك .. اضطريت اقوله علي كل حاجة .. قولتله اني بحبك.
و صمتت قليلا ... ثم أردفت بمرارة:
-بس لما سألني اذا كنت انت بتحبني و لا لأ .. ماعرفتش اجاوبه ، لانك ماحاولتش تقولي او تلمحلي حتي يا شهاب !
تقلص وجهه بشيء من العصبية ، فغمغم من بين أسنانه:
-يعني عشان ماحاولتش اقولك او المحلك تقومي تبعدي عني بالطريقة دي ؟ ماكنتيش قادرة تعملي اي حاجة غير كده ؟؟
ضغطت شفتيها ببعضهما في حسرة و آلم ، ثم تابعت متجاهلة كلامه:
-قالي لازم ابعد عنك .. قالي انك ممكن تكون بتلعب بيا و بتضحك عليا .. انا مابعدتش الا عشان اقربك يا شهاب ، ماكنش قصدي اي حاجة من اللي فهمتها .. انا بحبك .. و الله بحبك.
تسربت الإبتسامة إلي شفتيه ، فوضع كفيه علي خديها ، ثم قرب وجهها من وجهه و هو يهمس:
-هو كان لازم اقولك يا هاجر ؟ .. ماعندكيش احساس يعني ؟ مافيش دم خالص ؟ .. معقول ماحسيتش اني بحبك اكتر ما بتحبيني ؟؟!
وجدت نفسها تضحك بهسترية لا إراديا من مرحه و مداعبته الساحرة .. و بالأخص من إعترافه بحبه لها ..
فإرتمت بأحضانه و عانقته بشدة و كأنها تريد أن تنصهر بداخله ..
عاودتها الدموع مجددا ، و لكنها دموع الحب و الشوق في هذه المرة ..
تذوقت "هاجر" حضنه الدافئ لأول مرة .. فعرفت كيف يكون الدفء بحضن من تحب ..
بينما تنهد "شهاب" بإمتنان و راحة .. فلف ذراعيه حولها أكثر و ضمها بقوة و هو يمسد علي ظهرها و يسند ذقنه علي شعرها ...

المظفار والشرسهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن