68

2.5K 69 13
                                    

بعد سكون و صمت إمتدا لدقيقة كاملة ..
تحرك "جاسر" أخيرا .. فقطع المسافة بينه و بين شقيقته بخطوات واسعة ، غاضبة ..
شد ذراعها النحيلة بعنف صائحا:
-ازاااي تسمحي لواحد كلب زي ده ييوسك و يحضنك ؟ .. انطقي !
و هوي بكفه علي وجهها .. أطلقت "هاجر" صرخة مدوية و هي تشعر و كأن عظام وجهها قد تهشمت ، و لولا أن أخاها كان لا يزال ممسكا بذراعها لكانت سقطت أرضا من شدة الصفعة ..
بينما زمجر "جاسر" و عيناه تشتعلان نارا حارقة:
-ازاااي يا بنت الاكابر يا متربية ؟ .. ازاي اخلاقك سمحتلك تعملي كده ؟ و مش بعيد يكون حصل اكتر من كده كمان.
و سدد لها صفعة أخري بظهر يده الطليقة أطاحت بها في الهواء ..
لم تر "هاجر" في حياتها شقيقها يتصرف بهذا العنف !
فقد أصبح كالوحش الكاسر و هو يجذبها من شعرها ، و يجرجرها علي أرض الغرفة ، ثم يركلها لتصطدم بالأثاث ..
كانت تحاول أن تدفعه عنها ، و حاولت التعلق بأرچل المقاعد دون جدوي ..
فإنحني هو إلي مستواها ، و غمغم ضاغطا علي أسنانه و هو يستشيط غضبا:
-هقتلك بإيديا يا هاجر .. بس مش قبل ما أجيبه تحت رجلي و اخلص عليه هو الاول .. سامعة ؟ .. هخلص عليكوا انتوا الاتنين.
لم تستطع "هاجر" أن تتظر إليه بسبب الضرب المبرح الذي تعرضت له علي يديه ، فقد كانت تشعر بدوار شديد ..
و لكنها لم تعد تبكي أو تحاول الفرار حتي .. فقد إعتادت الضرب ، و لم يعد مؤلما بقدر كلماته ..
أحست صوته يآتي من مسافة بعيدة جدا .. خالت أنها علي وشك الإصابة بالصمم .. تمايلت الصورة أمام ناظريها و تشوشت ..
لكنها قبل أن تغلق عينيها ، إستطاعت أن تلمح طيف والدها الذي آتي مهرولا و علي وجهه بدت إمارات الذعر ..
أفاقت "هاجر" بعد مدة قصيرة في فراشها ، كانت الضوضلء من حولها عنيفة ..
أخذت وقت لتستعيد وعيها كاملا ، و كم شعرت بالفرح و الأمان لأن ذراع أبيها يسندها و يحيطها بدفء ..
أزاحت جفنيها الثقيلين عن عينيها ببطء ، و زاغت ببصرها قليلا حتي إستقرت أنظارها علي كلا من "جاسر" و "كمال" ..
فسمعت والدها يصدح بكل غضب و إنفعال:
-يا كلب يا حيـواان .. ازاي تمد ايدك بالطريقة دي علي اختك ؟ انت اتجننت يا متخلف ؟؟!
سمعت أيضا صوت "جاسر" الجهوري العنيف يقول:
-انت ماسمعتش و لا مافهمتش اللي قولتهولك ؟ .. بقولك راجعة في عربية راجل غريب و سمحتله يقرب منها .. باسها و حضنها في العربية ، انا شوفتهم بعيني !
رد "كمال الطحان" بصوت آجش و كلماته تندفع من فمه كالحمم:
-مهما كان اللي عملته .. ده مايدلكش الحق تعمل فيها كده ، انا لسا مامتش .. دي بنتي انا .. و انا بس ، انا لوحدي اللي من حقي احاسبها ، انت مالكش دخل.
إكتسب وجه"جاسر" بريقا شريرا جعله تماما كهيئة وحش مخيف و هو يتمتم بخشونة:
-الهانم دي عيارها فلت خلاص .. و كله بسببك ، لكن انا مش هسكت .. سامع ؟ مش هسكت.
و أسلفه ظهره الغاضب و إندفع للخارج كما العاصفة الهوجاء ..
فأسرع "كمال" بمساعدة إبنته ، فربت علي وجنتها المتورمة و هو يقول بلطف:
-هاجر .. هاجر يا حبيبتي انتي سامعاني ؟؟
رغم أنها وجدت صعوبة في النطق ، لكنها قالت بصوت خفيضا ضعيفا لتطمئنه:
-اطمن يا بابي .. انا كويسة.
زفر "كمال" في إرتياح ، إلا أنه عبس فجأة ، و سألها بإقتضاب:
-ايه الكلام اللي قاله اخوكي ده يا هاجر ؟ .. صحيح انتي سمحتي للشاب ده يحضنك و يبوسك ؟؟
إزدردت "هاجر" ريقها في توتر ... و تنامي الصمت بينهما قليلا قبل أن تجيبه بصوت مبحوح:
-يا بابي جايز اكون غلطت .. بس و الله دي كانت اول مرة تحصل ، شهاب بيحبني و انا كمان بحبه .. لكن اكيد عمري ما كنت هسمحله يتمادي معايا ، جاسر فهم غلط.
حاول "كمال" أن يخاطبها بهدوء رغم نيران غضبه المتآججة بصدره ، فقال:
-طب تفتكري يا هاجر اللي بيحب حد بيآذيه ؟؟
تطلعت إليه ذاهلة و تمتمت:
-شهاب عمره ما آذاني يا بابي !
-لا يا هاجر آذاكي .. لما يسمح لنفسه يلمسك مجرد اللمس البسيط بس يبقي آذاكي ، انما هو عمل الادهي من كده .. حضنك و باسك .. قوليلي بقي ، هل ده تصرف واحد بيخاف علي واحدة بيحبها ؟؟
إنكست "هاچر" رأسها في خزي ، فسمعته يتنهد ثم يقول بصوته العميق:
-عموما انتهي النقاش لحد هنا الليلة .. بكرة لينا كلام تاني مع بعض ، انتي استريحي دلوقتي و انا هصحي داده امينة تسهر عليكي طول الليل و تاخد بالها منك.
ثم جذب رأسها برفق و طبع قبلة آبوية خاطفة أعلي جبينها .. ثم نهض و ترك غرفتها في هدوء ..
بينما هطلت دموعها الحارة بغزارة ، و لكن في صمت تام ...

************************************

في صباح اليوم التالي ..
داخل تلك الحجرة الصغيرة بالمشفي العام الخصوصية .. "إياد" ممدا فوق السرير الطبي الأبيض ..
و بغتة ، دوت في أركان ذاكرته اللاواعية جملة واحدة ..
"البقاء لله " ..
تلك الجملة التي سمعها مرات عديدة في حياته ، و كانت المرة الأخيرة ليلة أمس ..
كانت هذه الجملة أول ما قفز إلي مسامعه الباطنية .. فإسترد علي إثرها أحداث اليوم الماضي كله ... إزداد حزنه و بؤسه مع إزدياد وضوح الذكري صوتا و صورة في ذهنه ، فهب من الفراش و هو يهتف بإسمها بأعلي صوته:
-هنــــــــــااااااا !
إنتفض زميله "وليد" في مكانه ، حيث كان يجلس علي أحد المقاعد بجوار سريره ، فنهض مسرعا و أمسك بذراع "إياد" و قال يهدئه:
-اياد .. اهدا يا اياد اهدا .. ماتقلقش انت كويس.
تلفت "إياد" برأسه بجنون باحثا عنها في كل مكان و هو يردد بلهجة مرتجفة:
-فين هنا ؟ .. راحت فين ؟ .. كانت لسا هنا معايا .. راحت فييييين ؟؟؟
-ايـااد باشـا .. يا صاحبي اهدا مش كده .. امسك نفسك شوية .. علي الاقل عشانها ، عشان تقدر تجيبلها حقها.
رفع "إياد" نحو زميله عينين دامعتين و هو يقول بوهن و قهر:
-اجيبلها حقها ؟ حقها عندي انا يا وليد .. انا ماقدرتش احميها ، رغم ان دي وظيفتي .. حميت شخصيات مهمة ، انقذتهم من الموت كتير و عجزت عن حمايتها هي .. راحت مني و انا السبب ، انا السبب.
و فتح في البكاء .. تآثر "وليد" لرؤيته هكذا ، فربت علي كتفه قائلا:
-انت مالكش ذنب يا اياد .. ده قدر و عمرها ، محدش بيقدر يمنع المكتوب ، لكن بإيدينا ندور علي حقها و نجيبه ، و ده اللي هنعمله يا اياد.
إستمر "إياد" يبكي كالطفل ، فتركه "وليد" يبكي كما يشاء ، عله يهدأ قليلا ..
و بعد مدة ، عاد "إياد" يتطلع إلي "وليد" .. فسأله بصوت جاف متحشرج:
-هي فين ؟؟
-في المشرحة هنا.
-فـين ؟؟
هدر "إياد" بعنف ، و إستطرد يإنفعال جنوني:
-لأ .. هنا مش هتدخل المشرحة ، مستحيل.
-يا اياد اهدا ارجوك .. لازم تدخل المشرحة عشان تقرير الطب الشرعي ، لازم نعرف اللي حصلها بالتفصيل عشان نمشي صح في القضية.
إبتسم "إياد" في مرارة قائلا:
-و هو اللي حصلها صعب يتعرف ؟؟
-معلش .. دي اجراءات ضرورية يا اياد.
ثم تابع و هو يتناول هاتفا من الطاولة المجاورة للسرير:
-موبايلك من امبارح عمال يرن .. انا مارضيتش ارد ، خوفت يكون حد من اهلها هو اللي بيتصل و انا مش هبقي عارف اقول ايه !
وضع "إياد" رأسه بين كفيه و هو يقول بتعب و إرهاق شديدين:
-دي اكيد مامتها .. انا مش عارف هقولها ازاي !!!

***********************************
يتبع

المظفار والشرسهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن