وصلت سيارة الأسعاف في وقت قصير ، و حُمل "شهاب" علي السرير النقال من غرفته إلي العربة ..
بينما إنضم "عاصم" إلي سيارة " زين" و إنطلقا بسرعة ليلحقا بسيارة الإسعاف المتجهة إلي المشفي العام بقلب المدينة ...علي الطرف الأخر ..
ترجل "توفيق" من سيارة الأجرة التي أوصلته أمام قصر "عاصم الصباغ" ..
دفع الأجرة للسائق ، ثم إتجه صوب البوابة المفتوحة ، فإعترضا طريقه رجلان ضخمان الجثة ، و سأله أحدهم:
-علي فين يا استاذ انت ؟؟
رد "توفيق" بخشونة:
-عايز اقابل الاستاذ عاصم الصباغ.
أجابه الحارس الثاني:
-الباشا مش موجود ، خرج.
تجهم "توفيق" فصاح بهما محتدا بصوته الجهوري:
-يعني ايه خرج ! انا مش ماشي من هنا الا اما اقابله.
هتف الحارس في لطف حازم:
-يافندم بقول لحضرتك خرج ، لسا خارج حالا راح المستشفي ورا شهاب بيه اخوه عشان تعب فجأة.
أجفل "توفيق" غير مصدق أقوالهم ، لكنه إستدار علي عقبيه ليغادر ..
فأستوقفه صوت الحارس قائلا:
-لما يرجع الباشا .. اقوله مين سأل عليه يافندم ؟؟
وقف "توفيق" ثم أدار جانب وجهه الأيمن قائلا من فوق كتفه:
-انا هبقي اجيله تاني.
و غادر "توفيق" و نيران الغضب تتأجج بداخله ...***************
إقتحمت سيارة الإسعاف فناء المشفي العام ، ثم توقفت بالساحة الرئيسية أمام بوابة الدخول الأمامية ..
بينما أسرع "عاصم" في أعقابه "زين" نحو "شهاب" المحمول علي السرير النقال ..
رافقاه حتي ولج إلي حجرة الكشف مع طبيب الإستقبال الجالس متأهبا للحالات الطارئة ..
هتف الطبيب الثلاثيني منفعلا بالممرضة التي إنضمت إليه لتساعده و هو يكمل فحصه لحدقة عين "شهاب" المسجي فوق الفراش الطبي:
-قيسيلي ضغط الدم بسرعة.
و بينما شرعت الممرضة في تنفيذ الأوامر .. كان "عاصم" يقف أمام باب حجرة الكشف و عضلات وجهه منقبضة بقوة ، فيما عيناه تلمعان بنزف حارق خائفا من أن يتجرع مرارة الفقد مرة أخري ..
و في تلك اللحظة ، إنطلقت بغتة الذكريات داخل رأسه و قد حالت دون إهتمام بما يحدث ..
أبيه يوم أن شب الحريق بمصنعه فإنتهي بموته متفحما .. تشوه جزء من معالم وجهه .. تشرده هو و أمه و أخيه الرضيع .. نضوجه المبكر .. تصميمه علي إعادة المجد له و لعائلته الصغيرة و لإسم والده أيضا .. جمعه الأموال الطائلة أولا بهدف تحقيق الإنتقام الذي عاش ينشده ، و ثانيا لتأمين حياة الرغد و الترف إلي شقيقه الذي رأي فيه نفسه .. شقيقه !!
عاد إلي أرض الواقع مجددا ، فأنتفض مذعورا لفكرة خسارته ..
فإن خسارة شقيقه الوحيد تعني نهاية المطاف بالنسبة له ، قد تتبدد آماله ، و تخبو أحلامه التي حُرم من تحقيقها إذا رحل "شهاب" ..
قد ينتهي كل شيء ..
قد يغدو الكد و الإجتهاد و الجهد الذي بذله بالحياة العملية بلا منفعة ..
الأن تلك الإمبراطورية الضخمة التي بناها مهددة بالإنهيار ..
إندفع "عاصم" صوب باب حجرة الكشف دون أن يتوقف إنفعاله لهنيهة و هو يبحث عن شقيقه بعينيه من خلال الزجاج الدائري الصغير المرفق بالباب المعدني ..
إقترب "زين" منه ، و مد يده و ربت علي كتفه بلطف مواسيا إياه بقوله:
-ماتقلفش يا عاصم .. ان شاء الله سليمة ، ماتخافش هيبقي كويس.
تجعدت قسمات وجه "عاصم" بألم عصبي و هو يحاول أن يري ما يجري بالداخل دون فائدة ، فتحرك في مكانه كالنمر الحبيس وضرب الحائط بقبضته مغمغما:
-غبي .. ليه بيعمل فيا كده لييييه ؟ نقصه ايه ؟ انا قصرت معاه في ايه ؟؟
وضع "زين" يديه علي كتفي "عاصم" و هو يقول مشفقا علي حالته:
-اهدا يا عاصم مش كده.
أغمض "عاصم" عينيه بقوة ، ثم أطلق تنهيدة حارة و قال بصوت متحشرج من فرط إنفعاله:
-ليه اخويا بيعمل فيا كده يا زين ؟ ليه ؟ .. ده هو مستقبلي .. هو احلامي و هو طموحي .. انا عملت كل ده عشانه .. من صغري و انا ماسبتش شغلانة متعبة و لا مهينة الا و اشتغلتها عشان اقدر اقف علي رجلي و احقق الثروة دي .. كل اللي معايا بتاعه و ملكه .. يبقي ليه بيعمل في نفسه كده ؟ ليه عايز يحرمني منه ؟؟!!
قطب "زين" متأثرا بكلمات صديقه ، و مط شفتيه متأسفا علي ذلك الوضع الصعب ..
خرج الطبيب أخيرا من حجرة الكشف و هو يتنفس الصعداء ، فأقترب منه "عاصم" متسائلا بصوته الخشن:
-اخويا عامل ايه يا دكتور ؟ جراله حاجة ؟؟
منحه الطبيب إبتسامة بسيطة ، و قال يطمئنه:
-الحمدلله بقي كويس.
زفر "عاصم" بإرتياح مستندا إلي الجدار البارد من خلفه ، بينما تابع الطبيب كلامه بجدية:
-لو كنتوا اتأخرتوا شوية كان وصل هنا متوفي ، لكن الحمدلله انكوا جبتوه بسرعة ، ظبطنا معدل ضغط الدم لكن للأسف في خراريج و إلتهابات في الكبد لو ماتعلجوش صمامات القلب هي كمان هتلتهب و هنا الخطر هيبقي اقوي.
فغر "عاصم" ثغره و قد تلقي صدمة أعنف هذه المرة ، بينما أضاف الطبيب متنحنحا:
-التحاليل كشفت انه اتعاطي جرعة هيروين مفرطة كانت كفيلة انها تموته في الحال .. بس واضح انه مش بيتعاطي من فترة طويلة اوي لان نسبة الهيروين في جسمه مش عالية بدرجة كبيرة ، و ده يبين انه بيزود الجرعة في كل مرة عشان يوصل لدرجة النشوة اللي حققها في اول مرة اتعاطي فيها .. انا انصحكوا انكوا تودوه مركز اعادة تأهيل للمدمنين ، هناك هيقدموله العلاج الصحيح و العلاج النفسي كمان هيبدأوا معاه من الاول خالص بس اهم حاجة دلوقتي اننا نعالجله الأعضاء المتضررة.
-اعمل اللازم يا دكتور .. و انا هاتصرف في الباقي.
قال "عاصم" هذه الجملة واجما ، بينما أومأ الطبيب رأسه موافقا ، ثم إستأذن منهما ليرحل ..
شكره "عاصم" قبل رحيله ، فيما نظر إليه "زين" و سأله بإهتمام:
-ناوي علي ايه يا عاصم ؟؟
أجاب "عاصم" بفم متقلص و ملامح ثائرة:
-شهاب هيرجع البيت و هيكمل علاجه بجد المرة دي .. و طقم الحراسة كله هيتغير بس بعد ما اعرف شغلي معاهم واح واحد و اعرفهم ان الغلطة معايا بفورة خصوصا لو كانت حاجة تخص اخويا.
ثم تابع بشراسة:
-اما الواد صاحبه ده اللي جاله انهاردة انا هاجيبه و هاوريه هو غلط مع مين.
-عمرك ما كنت مؤذي كده يا عاصم !
قالها "زين" ممتعضا ، فرمقه "عاصم" بنظرة ثاقبة و هو يهتف بقوة:
-ده اخويا يا زين .. اخويا اللي ماليش غيره.
و أضاف يتحدث بشراسة إلي "زين" أو ربما إلي نفسه:
-و يا ويله اللي يقرب منه او يمسه بالشر .. يا ويله.***************
أمام قسم الشرطة ..
وقفت "هنا" تستجدي أمها بإسلوب إنفعالي قائلة:
-يا ماما احب علي راسك يلا بينا نرجع البيت ، احنا مالناش فيه ما تتحبس و لا تولع بجاز احنا مالنا !!
نهرتها "قوت القلوب" بقسوة قائلة:
-اخرسي يا بت انتي ، احترمي نفسك بقي و اياكي اسمع منك كلمة زيادة ، انا اصلا ماكنتش عايزاكي تيجي معايا انتي اللي شبطي فيا.
ردت "هنا" في سخط إستنكاري:
-كنتي عايزة تدخلي القسم لوحدك ؟؟!
-و ايه يعني ياختي هايكلوني و لا هايكلوني ! و بعدين اتهدي و اسكتي خليني ادخل اطمن عالبت ، ده انا اللي ربيتها من يوم ما امها اتوفت الله يرحمها و من كتر حبي فيها سميتك اسم مقارب لأسمها في الاول ماكنتش بعرف انطق اسم هانيا ده ، و الله ما كان هيغمدلي جفن لو ما كنتش عرفت فين اراضيها لولا اتصلت بعمها الاستاذ توفيق ماكنتش هعرف انها محجوزة هنا.
و نظرت إلي بوابة القسم الحديدية ، و هي تبتهل قائلة:
-منه لله اللي كان السبب.
ثم خطت إلي الداخل تتبعها "هنا" علي مضض ..
توجهت نحو أقرب مكتب بالرواق الأقل إزدحاما في تلك الساعة ، حيث غربت شمس النهار ليحل محلها الليل الحالك ..
ثم سألت بتلقائية ذلك الضابط صاحب رتبة - أمين الشرطة - :
-لو سمحت يابني ، في واحدة محجوزة عندكوا هنا من الصبح اسمها هانيا مصطفي علام .. اعمل معروف دخلها الاكل ده احسن دي ياعيني علي لحم بطنها من ساعة ماجبتوها هنا.
و رفعت سلة الطعام الصغيرة ، ثم وضعتها فوق سطح المكتب قائلة:
-و لو انها تقالة لو قدرت تخليني اشوفها و اطمن عليها يبقي كتر خيرك.
باغتها الأخير في عنف و هو يلوح بيده بقوة:
-شيلي الحاجات دي من قدامي يا ولية انتي ، انتي فاكرة نفسك فين !!
عند ذلك ، تدخلت "هنا" قائلة و قد إرتفعت نبرة صوتها بقدر جذب الإنتباه نحوها:
-ولية مين يا حتة نطع انت ؟ انشالله يولولو عليك ، ما تحترم نفسك و اتكلم بأدب.
إكتست ملامح الضابط بذهول إستحال إلي غضب متقد و هو يقول مستنكرا:
-انتي اتجننتي يا بت انتي ؟ بتكلمي مين كده ؟؟
إهتاجت "هنا" و هي تصب سبابها فوق رأسه:
-بت في عينك يا قليل الادب ، لم نفـ ...
كممت "قوت القلوب" فم إبنتها قبل أن تكمل عبارتها و هي تقول محاولة التمويه عن رعونة إسلوب "هنا" الدفاعي:
-معلش يابني سامحها هي ماتقصدش و الله.
حاولت "هنا" تخليص فمها من كف أمها المطبق عليه لتكمل سيل لعناتها دون فائدة ، بينما نظرت إليها "قوت القلوب" و زجرتها بغضب قائلة:
-اتأسفي للباشا يا هنا.
و بقوة أزاحت "هنا" يد أمها عن فمها قائلة بعصبية:
-مين اللي يتأسف لمين ؟ ده انا ممكن اعملله محضر دلوقتي و انزله من عالمكتب اللي فرحان بالقاعدة فوقيه ده.
إبتسم الضابط في تهكم ، و إسترخي فوق مقعده ، ثم صمت لثوان قبل أن يقول بهدوء خبيث:
-بمناسبة المحاضر .. انا عندي هنا في درج المكتب شريطين برشام محتار اوديهم فين ! .. تاخدي واحد ؟؟
شهقت أمها و همست لها متوسلة:
-يابنتي بالله عليكي انكتمي ليلبسك تهمة بجد و انتي واقفة.
إلتمعت عينا "هنا" بالغضب و هي تحدق بذلك البغيض عاجزة عن الرد عليه ، حتي شنف سمعها من خلفها صوت رجولي يقول:
-ايه الدوشة دي ؟ ايه اللي بيحصل هنا ؟؟يتبع ...