16

2.4K 96 5
                                    


إصطحب "زين" و أعوانه من رجال الحراسة الجدد الشاب "شادي" صديق "شهاب" من أمام بيته حيث كانوا بإنتظاره إلي قصر "عاصم الصباغ" و من ثم أخذوا يجروه جرا في إتجاه حجرة مكتب "عاصم" فراح يسألهم في قلق و إضطراب:
-انتوا واخدني علي فين ؟ انا ماعملتش حاجة !
فتح "زين" الذي كان يترأسهم باب المكتب و دلف أولا ..
كان "عاصم" واقفا أمام النافذة المطلة علي الساحة الداخلية للقصر و قد عقد يديه خلف ظهره .. إنتبه إلي صياح "شادي" القلِق المذعور ، فإستدار ببطء بقامته المهيبة ، و نظر إليه و كانت تبدو علي وجهه نصف المشوه ملامح الشراسة و التدمير ..
دار حول مكتبه ، ثم أخذ يتقدم نحو "شادي" بخطوات ثابتة .. بينما إبتلع الأخير ريقه بتوتر و هو ينظر إليه بريبة شديدة و قد ثلجت أطرافه للشعور المرعب الذي عصف به في تلك اللحظة ..
وقف "عاصم" أمامه مباشرة ، و راح يحدجه بتلك النظرات الشرسة المتوعدة لبرهة ، ثم هتف بصرامة موجها كلامه لـ"زين" و لباقي أفراد الحراسة دون أن يحيد بنظره عن "شادي":
-اطلعوا برا كلكوا .. و إستنوا قدام الباب.
أطاع الجميع أمره بما فيهم "زين" الذي بدا ممتعضا من تصرفات صديقه الشريرة مؤخرا ..
بينما سكن "عاصم" للحظات قبل أن يرفع يديه فجأة و يجتذب "شادي" من ياقة قميصه بقوة قائلا و هو يسحق الكلمات بغضب بين أسنانه:
-مزقوق علي اخويا من مين ياض ؟ حد زقك عليه و لا انت اللي عملت كده من نفسك ؟؟
إزدرد "شادي" ريقه بخوف قائلا:
-مزقوق ايه بس يا باشا ؟ انا مش فاهم حاجة ! اكيد في سوء تفاهم و بعدين شهاب ده صحبي و انا آا آااااااه ..
قاطعه "عاصم" بتسديد ركله عنيفة بركبته إلي منتصف معدته مباشرة ..
أجبرته الضربة التي تلقاها علي الإنحناء .. لم يمنحه "عاصم" مجالا ليلتقط أنفاسه حتي و رفعه إليه ، ثم ضم قبضته بغضب و سدد له أول لكمة قوية أسفل فكه ، و ظل يكيل له اللكمات دون توقف فإنبثقت الدماء من بين أسنانه ، في حين كان يكافح السقوط علي الأرض مغشيا عليه ..
أمسك "عاصم" بتلابيبه و قربه منه مزمجرا:
-مشكلتي اني مابسيبش حقي .. و مابسامحش و لا برحم حد غلط معايا.
رد "شادي" في وهن متأوها:
-و الله ما عملت حاجة يا باشا .. انا ماليش ذنب ، شهاب هو اللي كان بيطلب مني اجبله البودرة ، انا ماكنتش بجبهاله من نفسي.
تقلص فم "عاصم" بغضب و هو يهتف بصوت كدوي الرعد:
-يعني كمان بتعترف انك انت اللي
حطيت رجله عالطريق الوسخ ده يا كلب.
تلعثم "شادي" و هو يردد بصوت متحشرج:
-لـ لأ لأ يا بـ باشا آا ..
-باشا !!
قاطعه "عاصم" بتهكم لاذع ، ثم أردف بخشونة:
-باشا مين يالا ؟ انا عاصم الصباغ .. مايغركش منظري و البيت اللي انت واقف في ده .. انا اتربيت في شوارع كفر الزيات و سيدي سالم قبل ما ابقي باشا.
قال "شادي" بإعياء مضطرب محاولا تهديده:
-علي فكرة بقي .. انا مش مقطوع من شجرة ، عندي اهل و عزوة و ناس .. يعني لو جرالي اي حاجة اهلي مش هيسكتوا.
لكنه قد أخفق بتهديده المتهور الذي أثار "عاصم" بدل أن يردعه ، إذ إرتسمت علي وجهه ملامح وحشية ..
و إذا بـ"شادي" يطير فجأة عبر الحجرة ليصطدم بالمكتب و يسقط ما عليه بدوي قوي بعد أن لكمه "عاصم" غير قادر علي السيطرة علي غضبه ..
تفجرت الدماء من أنف "شادي" بينما هدر صوت "عاصم" بعنف:
-طب و رحمة ابويا لأخلي اهلك و ناسك دول يتحسروا عليك يابن الـ***
ثم إندفع صوبه و عاجله بلكمة قوية هوت به أرضا .. أتبعها بركلات عنيفة من قدمه تعالي علي إثرها صوت صراخ "شادي" الذي راح ينزف دما غزيرا من وجهه و من بعض أجزاء جسده الهزيل ..
بعد عدة دقائق ، خرج "عاصم" من مكتبه أخيرا مخلفا وراءه جسد "شادي" المطروح فوق أرضية المكتب ، و رغم برودة الجو ، كان العرق قد بدأ يتصبب بغزارة من وجه"عاصم" و جسده ، و كان صدره يعلو و يهبط بسرعة و هو يقول بصوت لاهث خشن:
-تكملوا عالكلب ده.
و إلتفت بوجهه إليه نصف إلتفاتة و قد إكتست ملامحه و صوته و نظراته شراسة مخيفة و هو يضيف بصوت قذف الرعب في قلب "شادي":
-كسروه .. عايزه يرجع لأهله مدغدغ .. مفهوم ؟؟
هتف أحدهم بجدية و كان ضخما أصلع له شاربا و لحية كثان:
-مفهوم ، اوامرك يا باشا !
كان "شادي" يعاني آلاما شديدة في كافة أنحاء جسده جراء الضرب المبرح الذي تعرض له علي أيدي "عاصم" رغم ذلك عصر عينيه من شدة الآلم و جاهد حتي صرخ متوسلا بصوت ضعيف:
-لأ يا عاصم باشا .. كفاية انا اسف سامحني .. سيبني امشي ابوس ايدك.
لكن توسلاته لم تأت بنتيجة ، إذ تواري "عاصم" عن ناظريه بسرعة ، و أقتربوا منه الرجال الأربعة بأجسادهم الضخمة و التي تفوح منها رائحة العنف و الشر ..
شرعوا في التناوب عليه بالضرب العنيف الوحشي ، بينما تكور "شادي" علي نفسه متألما و قد تعالت صيحاته و تأوهاته بصورة مخيفة ..
فيما أغمض "زين" عينيه غير راض عن تلك التصرفات الهمجية التي يراها أمامه ، فغادر المكان بدوره متضايقا ...

**************

أمضت "هانيا" ساعات النهار في أحد الغرف المتهالكة بقسم الشرطة حتي زحف الليل ..
كانت الغرفة خاوية و خالية من أي أثاث ، فقط هناك البرد الذي يكتنفها من كافة الجوانب ..
و بينما كانت تجلس "هانيا" فوق الأسمنت البارد .. تنهدت بسأم و هي تستند برأسها إلي الجدار ، تتابع بعينيها الزرقاوين المروحة المعلقة بمنتصف السقف و التي إستحال بياضها رماديا لتراكم الأتربة فوقها تدور في رتابة ، بينما المصباح الصغير فوق رأسها و المهتزة إضاءته يصدر صوتا كأزيز نحلة لزجة تحوم حول أذنيها في إلحاح ..
و خلال لحظات .. شردت "هانيا" بأفكارها ..
كانت تعلم تماما أنها تواجه موتا محتوما - ما إذا إستطاع عمها إزاحة هذا المصير عنها كما وعدها - ..
و لا شك أنه بحاجة إلي معجزة لكي يستطيع فعل هذا ، فتلك تهمة عقوبتها مشددة ..
ترويج السموم التي تقتل الملايين كل يوم ، ليس هذا أمرا هينا أبدا ، و لكنها بريئة و تلك التهمة نصبت لها ، و لكن من سيصدقها ؟
و من خلال هذا الموقف الذي عاشته حتي الأن ، مع هذا الصراع ، صراع البطل الذي يواجه أمرا لا يمكن تجنبه .. إسترجعت في مخيلتها كل ذكرياتها مع والديها ، و تصورت أيضا ردة فعل عمها عندما تفشل محاولته في إخراجها من تلك المِحنة ..
و عندما يعلم بنبأ موتها .. بالتأكيد سوف يعاني الشعور بالذنب طوال حياته ، فهو المسؤول عنها بصورة مباشرة بعد وفاة والدها بإعتباره أخر من تبقي لها في الحياة كلها ..
حتما لن يفيق من الصدمة .. و السيدة "قوت القلوب" ..
ستحزن حزنا جما عليها ، لن تتوقف عن ذرف الدموع .. فهي من تولت تربيتها منذ أمد طويل ، و قد شهدت علي مراحل نموها بدءاً من الطفولة و حتي الصبا و الشباب ..
أما زوجة عمها و أبنائه ! .. لا تتوقع منهم شيئا ..
أفاقت "هانيا" من شرودها علي إثر أرتجافة قوية سرت بأوصالها نتيجة البرد القارص الذي إشتدت حدته مع حلول الليل .. فإحتضنت ساقيها بشدة و ضمتهما إلي صدرها طالبة الدفء و الأمان ، ثم خبأت وجهها بين ذراعيها و راحت تبكي في صمت و هدوء تاركة العنان لحزنها ..
فقد صبرت كثيرا خلال الآونة الأخيرة و بات حزنها نهرا من الدموع ..
القدر يتلذذ في تدميرها و تفتيت عزمها و أعصابها ..
فحتي الأن جابهت الأمور بشجاعة ، لكنها اليوم تبوح بفشلها ..
و بينما كانت تصارع مخاوفها و شعورها بالبرد .. إنفتح باب الغرفة ليدلف العسكري الشاب و يتقدم نحوها ، و يضع أطباق طعام أمامها ، ثم يخرج في صمت و هدوء كما آتي ..
إشتمت "هانيا" الرائحة الشهية المنبعثة من أطباق الطعام المغطاة بالبلاستيك ، و فورا تعرفت علي مصدرها ..
و إبتسمت حين لاحت أمام عينيها صورة مربيتها ، السيدة الحنون "قوت القلوب" .. فطعام بتلك الرائحة الشهية لابد و أن يكون من صنع يديها ..
و رغم أنها جائعة ، و لم تأكل شيئا منذ الليلة الفائتة ، ألا أنها وضعت الطعام جانبا غير قادرة علي إلتقام و لو القليل منه ..
لم تحسب الوقت الذي قضته قابعة في تلك الزاوية تلملم شظايا روحها قبل ان تستعيد شجاعتها و قوتها و تقف مكافحة ضعفها ، مقررة بأن الوقت ليس مناسبا بالمرة للإنهيار ...

**************

المظفار والشرسهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن