65

2.4K 57 5
                                    


بعد أن إغتسلت و إرتدت ثيابا أكثر حشمة عن ذي قبل .. جمعت خصلات شعرها كلها و رفعتها للأعلي بربطة حريرية ..
ألقت نظرة علي "عاصم" فوجدته ما زال يغط في نوم عميق ، تركته نائما و نزلت للإسفل حتي تعد له الطعام ..
كانت لديها خلفية عن فنون الطبخ ، و من حسن حظه أنها كانت لا تزال تحفظ طريقة تحضير الطبق المفضل لحالات الحمي و نزلات البرد القاسية ، فقد كانت تطبخها خصيصا لأبيها حين كان يمرض ..
أحضرت "هانيا" المكونات ، و بدأت في إعداد حساء زعانف أسماك السالمون المكون من قطع السمك المرقط ، و الخضار ، و الثوم ، و البصل ، و زيت الزيتون ، و الخوخ المجفف ، و عصير الليمون الطازج ..
إستغرقت "هانيا" ثلث ساعة حتي أنهت تحضير الصحن ، فأخذته فوق صينيه متوسطة ، و صعدت به للغرفة مرة أخري ..
وضعت الطعام جانبا فوق السرير ، و جلست مكانها بجواره .. مدت يدها و هزته بلطف و هي تهتف به ليفيق:
-انـت .. قـووم .. اصحي يلا جبتلك الاكل !
فتح "عاصم" عيناه بتثاقل و نظر إليها .. عاينها للحظات و هي في الثوب الجديد بنظرات إعجاب ، ثم سألها بصوت خامل:
-في ايه يا هانيا ؟؟
أجابته عابسة:
-قوم .. عشان تاكل.
بدون نقاش أو إعتراض ، إنصاع "عاصم" لها .. فقد بدأ يشعر بالجوع .. حاول أن يعتدل جالسا ، و لكنه لم يقدر .. فقد كان جسده هامدا متراخيا بصورة كلية ..
تأففت "هانيا" بضجر ، إذ لم تجد بدا من مساعدته ..
إقتربت منه .. وضعت يدا خلف ظهره ، و اليد الأخري أحاطت يها عنقه ..
ناضلت كي ترفعه قليلا و تسند ظهره إلي حائط الفراش و هي تقول بإنفاس متلاحقة للجهد العظيم الذي تبذله:
-آاه .. ايه ده ؟ .. انت تقيل اوي كده ليه ؟ ... آاه ، ساعدني شوية من فضلك.
لم يكن ينصت لها ، بل كان يستغل فرصة إقترابها منه بهذا الشكل ..
فراح يمرغ وجهه في ثنايا عنقها و صدرها و يشتم رائحتها الطيبة الزكية ليملأ صدره بها ..
و أخيرا .. إستطاعت "هانيا" أن تجلسه نصف جلسة ، و تسند ظهره بالوسائد إلي حائط الفراش ..
زفرت بضيق ، و عدلت ثيابها المتجعدة ، ثم قربت صينية الطعام قليلا .. أخذت طبق الحساء لتناوله إياه و هي تقول:
-خد .. امسك يلا طبق الشوربة ده.
لمعت برأسه فكرة ، فتصنع عدم القدرة علي الإمساك بالطبق ، و قال بنبرة متكلفة:
-مش قادر يا هانيا !
سألته مقطبة:
-مش قادر ايه بالظبط ؟؟!
بإستكانة و ضعف مصطنع أجابها:
-مش قادر امسك بإيدي اي حاجة !
حدجته بغيظ ، و تقريبا فهمت لعبته ، لكنها لم تجد بديلا للأمر ..
فأمسكت بالطبق جيدا ، و شرعت في إطعامه ، لكنه سألها بفضول أولا:
-هي ايه الشوربة الغريبة دي ؟؟
بشيء من الحماسة ، ردت:
-دي شوربة مشهورة جدا في إيطاليا .. بيقولوا القائد موسوليني كان متعود يشربها كل ما يحس بتوعك.
ثم رفعت الملعقة إلي فمه ، و أخذت تطعمه بها كمن يطعم الطفل في سنواته الأولي ..
كان هو ينظر إليها و يبتسم ، فتتحاشي هي نظراته و تنشغل بأشياء أخري ..
ثم فجأة ، رأت وجهه يتقلص بجزع ، فقال:
-ايه ده ؟ .. انتي حطة ايه في الشوربة ؟ دي طعمها وحش اووي .. لا تكوني حطالي فيها سم يا جميلتي !!
ضحكت رغما عنها ، و قالت:
-لا ماتقلقش مش حطالك سم و لا حاجة .. و بعدين مش وحشة ، دوقها و حس بطعمها كويس و هي هتعجبك.
-احس بإيه بس ؟ .. دي ايه مكوناتها دي ؟؟
حدقت "هانيا" في الفراغ عاقدة حاجبيها و هي تجيبه:
-زعانف سمك السالمون مكونة من قطع لحم سمك السالمون ، و خضار ، توم ، بصل ، خوخ مجفف ، زيت زيتون .. و بس.
إزدرد "عاصم" ريقه واهنا و هو يشعر بالغثيان خاصة بعد كلامها ، بينما رفعت إلي فمه ملعقة أخري فأبي بشدة ، لكنها أجبرته علي الطعام ..
غصبا و قهرا .. أكل "عاصم" الطعام الذي أعدته كله ..
إنتهت "هانيا" من إطعامه ، فأرجعت الصحن إلي الصينية و هي تشعر بتعب شديد يغزو جسدها بصورة مفاجئة بدءً من رأسها و حتي قدمها ..
لاحظ "عاصم" شحوب وجهها المفاجئ ، فسألها بقلق:
-ايه ؟ مالك ؟ .. حاسة انك تعبانة ؟؟
هزت رأسها نفيا دون أن تنظر إليه ، فتململ قائلا بلوم:
-قلتلك روحي اقعدي في الاوضة التانية لحد ما اخف .. اديكي اتعديتي مني.
و هنا ، نظرت إليه و قالت بحزم:
-انا مش حاسة بسخونة في جسمي و لا برودة .. يعني ماخدتش منك العدوي.
-اومال مالك ؟؟!
أمسكت "هانيا" برأسها و هي ترد:
-مش عارفة .. دايخة بس و .. و آاا ..
-انتي كلتي حاجة انهاردة ؟؟
سألها بإهتمام ، فتركت الفراش في تلك اللحظة و هي تحارب موجات الدوار التي داهمتها ، ثم قالت:
-للـ لأ مـ مأكلتش حاجة !
نطقت ذلك و تهاوت علي الأرض مغشيا عليها ..
-هـانيـــاااا !
هدر "عاصم" بإسمها و هو يقفز من مكانه ، و يندفع صوبها ...

***********************************

-يا مصيبتي !!
هتفت بها السيدة "هويدا" و هي تضرب صدرها بكفها ملتاعة ، ثم تهب واقفة و تكمل حديثها عبر هاتفهها الخلوي:
-ازاي تسكتي طول النهار كده يا قوت ؟ .. ازاي ماتكلمنيش و تقوليلي هو انا مش عمتها ؟ .. ماشي يا قوت لينا كلام تاني اما البت ترجع بالسلامة .. انا هلبس و جيالك حالا .. سلام.
و أغلقت "هويدا" الخط ... فسألتها "سمية" التي أخفت سرورها و فرحتها بأعجوبة:
-في ايه يا ماما ؟ .. هنا مالها ؟؟
-البت خرجت مالصبح و لسا مارجعتش !
قالتها "هويدا" و هي تركض تجاه غرفتها ، تبعتها "سمية و هي تقول بخبث:
-و مالك قلقانة كده ليه يا امي ؟ .. تلاقيها خرجت مع خطيبها و لا حاجة و مارضيتش تقول لأمها.
نظرت "هويدا " لإبنتها شزرا و هي تصيح:
-بت يا سمية .. اخرسي خالص دلوقتي ، بقولك البت خرجت و مارجعتش البيت مالصبح و خطيبها ذات نفسه داير يدور عليها في الشوارع زي المجنون.
لوت فمها بإبتسامة شيطانية و هي تمني نفسها برؤية نظرة الإنكسار في عيني "هنا" .. فهي الوحيدة التي تعلم ما حل بها الآن ...
إنتهت "هويدا" من إرتداء عباءتها القاتمة .. ثم إرتدت حجابها علي أعتاب باب شقتها ، وقالت لإبنتها و هي تهبط درجات السلم:
-اقفلي الباب علي نفسك كويس يا سمية ، احتمال اغيب عند قوت لو لا قدر الله البت مارجعتش الليلة .. و ادعيلها يا بنتي ربنا ينجيها و يجيب العواقب سليمة.
إبتسمت "سمية" في إستهزاء ، و رددت بخفوت:
-ادعيلها ؟ هه !
و أغلقت باب الشقة بقوة ، ثم هرولت إلي هاتفهها .. سارعت بالإتصال بـ"إسلام" و هي تتحرق شوقا للإطلاع علي كافة التفاصيل ..

.............................................................

إنتهوا الرجال جميعا من إرتداء ملابسهم عندما نهض أخر فرد عن "هنا" الغائبة تماما عن الدنيا و ما فيها ..
جلجلت فجأة ضحكة "إسلام" المقززة و ملأت المكان من حوله و هو يقول:
-جرالك ايه يا عم حسين ؟ .. للدرجة دي المزة عجباك و مش قادر تسيبها ؟ .. خلاص بقي حــِلها يا اخي حرام عليك البت خلصت خاالص و انت اكتر واحد خلصت عليها هعهعهعهعهع.
تجاهل المدعو "حسين" مزاح صديقه الثقيل و إبتعد عن "هنا" أخيرا .. بدأ يرتدي ملابسه هو الأخر عندما صدح صوت هاتف "إسلام" .. فمد الأخير يده ، و سحبه من جيب بنطاله ، و رد:
-سـوومـا .. بونسوار يا قلبي ، ازيك ؟؟
باغتته "سمية" بلهفة:
-طمني يا اسلام .. ايه الاخبار ؟؟
-كله تمام يا روح اسلام .. كل اللي انتي عايزاه حصل يا سمية.
-يعني ماعادتش تنفع تاني ؟؟
-ماعادتش تنفع ببصلة وحياتك ، ده كفاية الواد حسين عليها .. اصلها ناولته بونيه جامدة حبتين.
و عاد يقهقه من جديد .. زجره "حسين" بنظرة غاضبة و هو يكمل غلق أزرار قميصه ، بينما بدا صوتها قريرا و هي تقول:
-ماشي يا اسلام .. شكرا ، انا عمري ما هنسالك اللي عملته عشاني ده.
-عيب عليكي يا سوما ماتقوليش كده احنا اخوات ، و بعدين انا و الرجالة اللي عايزين نشكرك اصلا .. اتبسطنا اوي الصراحة.
-طب هتعملوا فيها ايه دلوقتي ؟؟
هز كتفيه بخفة ، و أجاب:
-و لا حاجة .. هنشيلها هيلا بيلا و نحطها كده في حتة قريبة من اي مستشفي ، اصلها بتنزف كتير اوي لحد دلوقتي .. مسكينة بردو محدش يقدر يستحمل اللي استحملته .. تسعة مرة واحدة !
و ضحك بمرح مجددا ...

***********************************

كان جالسا داخل سيارته ..
مقطب الوجه ، يهز قدمه اليمني بعصبية ..
و عبثا حاول السيطرة علي أعصابه الثائرة .. ظل هكذا يشعر بنيران تتآكله من الداخل ، حتي وجد هاتفهه يرن و يضئ ..
فأجاب مسرعا و بكل ما فيه من إنفعال و غضب:
-الـو !
جاء رد الطرف الأخر سريعا بدوره:
-حددتلك مكان الموبايل يا إياد باشا !!

يـــتبع ...

المظفار والشرسهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن