في صباح اليوم التالي ..
إستيقظت " هانيا " من نومها القلق باكراً ، ثم إنتصبت نصف جالسة علي الفراش الصغير ذا الليونة القاسية و هي تشعر بوخز آليم بعمود ظهرها الفقري نتيجة لنومها بفراش غير مريح إطلاقاً ، مقارنة بفراشها العريض الوثير ذا الوسائد و الألحفة الناعمة ..
تركت " هانيا " الفراش متأوهة لشعورها بآلم متفرقة بجميع أنحاء جسدها ، ثم إتجهت نحو نافذة الحجرة و مدت يديها و فتحتها علي مصراعيها ، فغمر ضوء الشمس الحجرة الصغيرة ذات الأثاث القديم المتآكل ، بينما راحت " هانيا " تتآمل المكان من موضعها ..
نظرت بإزدراء إلي تلك الأبنية العشوائية المكونة من طابقين أو ثلاثة طوابق علي الأكثر ، ثم إلي هؤلاء الباعة من الناس الذين أفترشوا الأرض لبيع و عرض سلعهم لكسب رزقهم اليومي ، أثار إشمئزازها أن ترى الطعام و الخضروات معرضة لذلك الجو الملوث ، كما أثار غثيانها مرآى القاذورات منتشرة في كل مكان ، بالكاد محجوبة أسفل مجموعات من ذباب ..
شعرت أنها علي وشك التقيؤ ، فأغلقت النافذة بسرعة و إستندت إليها بظهرها ، ثم راحت تنظم سرعة أنفاسها حتي إنتظمت شيئا فشئ ، حاولت جاهدة أن تتناسي تلك المناظر الغير مألوفة بالنسبة لها ، فإتجهت نحو حقيبة ملابسها الكبيرة الموضوعة فوق آريكة بمؤخرة الحجرة ، و فتحتها ، ثم إنتقت ملابس لها كما أخرجت منشفة نظيفة ، و خرجت من الحجرة قاصدة طريق الحمام ..
و بينما كانت تعدو الطرقة الصغيرة الضيقة ، قابلتها السيدة " قوت القلوب " فإبتسمت لها بود قائلة :
- صباح الورد يا حبيبتي ، ها يا ست البنات ! نمتي كويس ؟؟
أهدتها " هانيا " الإبتسامة عينها ، ثم ردت لها تحية الصباح في هدوء :
- صباح النور يا داده ، اه الحمدلله نمت كويس و داخلة اخد دوش عشان اروح المشوار اللي قلتلك عليه.
- ماشي يا حبيبتي ، علي ما تخلصي حموم الفطار هيكون جاهز.
عندما دلفت " هانيا " إلي الحمام المتواضع ذا القاعة شديدة الضيق و التي بالكاد تتسع لفرد واحد ، لم يخطر لها أبداً أن يأتي اليوم و تتحسر علي الحمام الضخم المترف الذي خلفته وراءها ..
حمامها ذي الأرضية الرخامية بلون الفيروز ، و المغطس العاجي ذي الحنفيتين المصممتين علي شكل ثعبان و اللتين يتدفق منهما الماء الدافئ بلا إنقطاع ، و الرفوف المكتظة بسوائل الإستحمام الفاخرة و الكريمات المرطبة و الكثير من أدوات التجميل باهظة الثمن ، و السجادة السميكة الحمراء كوهج الشمس التي كانت تغوص فيها حتي كاحليها ..
كل تلك أشياء تحسرت عليها في تلك اللحظة ، و حقدت علي من ينعم و يهنأ الأن بثروتها ، لكنها أقسمت بأغلظ الإيمان أنها سوف تكتشف دهاليز الحكاية حتي تصل إليه و تثأر منه ...***************
كانت " رضوى " تنظر للمرة المئة إلي محتويات ذلك الطرد الذي وصلها منذ ليلة أمس ..
تلك السلسلة الفضية التي تدلي منها قرص معدني علي شكل قلب صغير ، و ذلك الفستان الليلي الحالم باللون الأسود الذي إرتدته يوم زفافها ، و أيضاً ذلك الخاتم الذهبي الذي حُفر بداخله إسم حبيبها و زوجها السابق !
تساءلت بقلب واجف و أطراف باردة ، هل عاد ؟ و إذا عاد ، ما الذي يريده منها بعد أن إنفصلا عن بعضهما ؟ بعد زواج دام حوالي ثلاثة أعوام و بعد قصة حب دامت لخمسة أعوام !
لماذا قد يرسل إليها هدياه القديمة التي أعادتها إليه كي تتخلص من ذكراه إلي الأبد ، بعد أن طلب منها دون خجل أن تعمل علي مجارية أحد رؤسائه بالعمل ، عندها شعرت بصدمة شديدة ، كانت تود لو لم تصدق كلامه ، و لكنه أبدى جديته بوقاحة جعلتها تصفعه بقوة ، بينما لم يكتفي هو برد الصفعة لها ، بل أنه إنهال عليها بالضرب المبرح حتي أدمى جسدها ..
أغمضت " رضوى " عينيها بشدة في محاولة لمنع ذكرياتها من الإسترسال بعقلها ، ثم عضت علي شفتها السفلى بقوة و هي تغالب نشيجاً حاراً أوشك علي الإنفجار ، ثم تنفست بعمق لتهدئ ثورة مشاعرها المتضاربة ، فهي تحبه و تكرهه بنفس الدرجة في آن ..
تذكرت أول لقاء لهما ، فتنها منذ البداية ، كانت فتاة في التاسعة عشر من عمرها ، يافعة في سن المراهقة ، إستطاع أن يجذبها إليه بسهولة ، بتصرفاته و لباقته الزائفة ..
كانت تشعر بالإرتباك كلما تراه ، كما كانت لا تستطيع ضبط أنفاسها ، أو السيطرة علي آلم معدتها مما كشف لها مدى سرعة وقوعها في غرامه ، بينما راح يتودد إليها شيئاً فشئ ، حتي أوهمها أنه مفتون بجمالها و جاذبيتها ، كما أنه يحبها و يريد أن يتخذها زوجة له لينعما بالسعادة و الهناء ، و بالفعل ، تزوجا بعد مدة قصيرة ، و ما لبثت " رضوى " إكتشفت خباياه و نواياه ، فبعد مرور أشهر قليلة من زوجهما إعتادت منه صفات و آفات جديدة لم تعهدها فيه من قبل ..
فقد كان كثيراً ما يعود من صالات القومار إلي المنزل في ساعة متأخرة من الليل ، كما أن شراب الكحول كان شئ مقدس يقوم به مساء كل يوم ، غير قائمة النساء التي إكتشفتها مع مرور الوقت ..
أحياناً كانت تتذرع بالصبر لأنها تحبه ، و أحياناً أخرى تستعمل معه طريقة الصمت الغاضب إلي أن يأتيها ببقات الأزهار التي تحبها كثيراً ، فيستعيدها إليه من جديد دون عناء ، يمنحها نظرات مشحونة بالحب و العاطفة فتذوب برقته و عذوبته و كلماته المعسولة ..
و لكن سريعاً ما مزقت حقيقته فؤادها حين بدا لها أنه شخص وضيع لا يضيره أو يعيبه إذا دنس شرفه بيده ..
تنهدت " رضوى " بثقل ، ثم همست واهنة :
- فينك يا بابا ، اجيبك منين دلوقتي ؟؟