كان منزلا جميلا بحجارته الرمادية البارزة و نوافذه الواسعة و رواقه ذي الأعمدة الرخامية ، بينما صعدت " هانيا " عدة درجات تؤدي إلي الباب ، حيث ظلام خفيف يغطي المدخل المسقوف ، و بعد أن ضغطت زر الجرس عدة مرات ، فتحت لها الخادمة الشابة ذات الوجه البشوش ، ثم قطبت حاجبيها متسائلة :
- افندم ! اي خدمة ؟!!
منحتها " هانيا " نصف إبتسامة و هي ترمقها من خلال عينيها النصف مغمضتين ، ثم قالت مُعرفة نفسها :
- انا هانيا علام .. الاستاذ توفيق علام يبقي عمي.
عند ذلك صاحت الفتاة مرحبة :
- اهلا اهلا بحضرتك يا هانم .. معلش انا اسفة سامحيني ، بس ماتشرفتش بحضرتك قبل كده.
ثم أفسحت لها الطريق و دعتها للدخول قائلة :
- اتفضلي يا هانم ادخلي.
وقفت " هانيا " تتنهد في بطء ، ثم دلفت أخيراً إلي الداخل بخطوات ثابتة واثقة ، حتي وصلت إلي منتصف البهو الواسع ، فيما إنتبهت إلي صوت منبعث من خلفها ، فإستدارت علي عقيبتها و إذا بها تري " مروان " يهبط الدرج الخشبي بعد أن غادر العُلية الأولي الخاصة بالغرف ، بينما إتسعت إبتسامته الخبيثة بشدة حين وقع بصره عليها ، فأسرع الخطي نحوها ،فيما رمقته بإبتسامة باهتة هازئة و هي تتآمله في صمت ..
كان أنيق الملبس كعادته ، وسيم الطلة أيضاً يخطو بخفة و تفاخر تماماً كالطاووس المتغطرس ، فهو لديه كل المؤهلات الكفيلة بجذب أجمل إمرأة إليه ، إبتداء من حذاءه اللامع الثمين ، حتي نظارته الشمسية الداكنة و التي تحمل أسم أشهر الماركات العالمية بالإضافة إلي وسامته الطاغية .. :
- اهلا اهلا.
صاح " مروان " في ترحيب زائف عند وصوله إلي " هانيا " ، ثم تابع و البسمة الخبيثة لا تزال تملأ وجهه :
- اهلا بسليلة الحسب و النسب ، اهلا بيكي يا هانيا ، اهلا يا بنت عمي ازيك ؟؟
وجهت " هانيا " إليه نظرة باردة ، ثم شمخت بذقنها للأعلي في كبرياء قائلة :
- اهلا يا مروان ، انا كويسة اوي الحمدلله.
- بجد ! طب الحمدلله.
إنسكب صوته في أذنيها مرحاً متهكماً ، بينما أضاف فجأة متسائلا :
- بس يا تري اعصابك ازيها دلوقتي بعد ما عرفتي اخيرا ان عمي ، مصطفي بيه علام باع كل حاجة يملكها لرجل الاعمال عاصم الصباغ ؟؟
أصيبت " هانيا " بصدمة قوية لدى تفوهه بتلك الكلمات ، لكنها أخفت مشاعرها بسرعة كي لا تعطيه فرصة الشماتة من دهشتها البالغة ، و عوضاً علي ذلك سألته بلهجة جامدة ثابتة و هي لا تزال تشمخ بذقنها :
- و انت عرفت منين يا مروان ؟ ده انا لسا عارفة الموضوع كله امبارح ، معقول الاخبار لحقت تتسرب بالسرعة دي ؟!!
عاد " مروان " برأسه إلي الخلف ، و قهقه بقوة ثم عاد ينظر إليها مجدداً ، و أجابها بقسوة متعمدة :
- يا حبيبتي انا عارف الاخبار دي من فترة كبيرة قبل ماتعرفيها انتي او تتسرب برا.
لقد نجح " مروان " الأن في زعزعت تحفظها ، فطرفت بشيء من الإضطراب و هي تعي تماماً غطرسة وجهه الوسيم أكثر من أي وقت أخر ، ما أصعب الكلام في تلك اللحظة بالنسبة إليها ، لكنها إستعادت رباطة جأشها من جديد ، ثم إنتفضت في آنفة قائلة :
- حاجة غريبة فعلا انك تكون عارف كل حاجة قبل ما انا اعرف اي حاجة.
ثم ضيقت عينيها و سألته مترقبة :
- يا تري عارف حاجة تانية انا ماعرفهاش يا مروان ؟؟
- هوووه ، عارف حاجات يا حبيبتي.
رفعت حاجبيها متصنعة الدهشة ، ثم سألته :
- بجد ! طب ايه اللي تعرفه ؟؟
تنهد بثقل ، ثم إبتسم معبراً عن سروره بحالتها المزرية التي حاولت إخفاؤها خلف قناع الشموخ و الكبرياء ، ثم أجابها متشدقاً :
- اعرف مثلا ان ابوكي اتغدر بيه ، مابعش حاجة بمزاجه ، و لو هتسأليني مين اللي غدر بيه هقولك بجد ماعرفش ، و اعرف كمان انه كان بينه و بين عاصم الصباغ عداوة قديمة و بردو للأسف ماعرفش اسبابها !
قطبت " هانيا " حاجبيها و هي تفكر ملياً بكلامه ، ثم صاحت متسائلة :
- فين انكل توفيق ؟؟
- ما دي بقي الاخبار القديمة اللي المفروض تكوني عرفتيها.
- قصدك ايه مش فاهمة ؟!!
- افهمك يا ستي .. انا ، رفعت قضية حجر علي عمك.
أصيبت " هانيا " بصدمة أكثر قوة هذه المرة ، بينما إستطرد " مروان " غير مكترث بتعبيرها المصدوم :
- هو بقي زعل و ساب البيت و مشي.
ثم أضاف بتهكم مزدر :
- عارفة انا عملت كده ليه ؟ عشان ابويا بطيبة قلبه كان عايز يساعد ابوكي في المطب اللي وقع فيه و جابه الارض ، ابوكي اللي يوم ما اغتني فجأة بقدرة قادر مافكرش يمد ايده بالمساعدة لأخوه ، فتفتكري بقي دلوقتي اني كنت هسمح لأبويا يدي مليم واحد لأبوكي !!
لم تستطع إخفاء غضبها بعد سماعها كلامه الفظ ، بينما إستمر يتأمل محياها الغاضب و شفتيها الرتجفتين إنفعالا ، ثم إنطلق يقول بنبرة خبيثة خافتة :
- بس علي اي حال انا مستعد اساعدك يا هني ، شقتنا القديمة اللي في المهندسين فاضية ، ايه رأيك تقعدي فيها و ابقي اجي اقضي معاكي يومين كده كل فترة !
إشتعلت زرقة عينيها بغضب حارق ، فإندفعت إليه رافعة كفها الصغير لتصفعه علي وجهه .. :
- يا حيوان ..
و لم تستطع أن تكمل ، إذ أمسكها و جمدها دون جهد يُذكر ، ثم نظر إليها متفحصاً بجرأة قائلا بأسلوبه الوقح :
- ايه يا هني ! اهدي مالك بس يا حبيبتي ؟ انا بس صعبان عليا الجمال ده كله يتمرمط و يتبهدل في الشوارع و عالأرصفة ، يعني انا اولي يا حبيبتي فكري كويس و انتي معايا مش هتتبهدلي و هتبقي بكرامتك ، و بعدين مش بيقولوا جحا اولي بلحم توره
نزعت يدها من قبضته بشراسة قائلة :
- القذارة حاجة مش جديدة عليك يا مروان.
إبتسم " مروان " و كأنها أمتدحته بأطراء ، ثم أجفل يشكرها :
- الله يحفظك يا حبيبتي شكرا.
رمقته في إزدراء من أعلي إلي أسفل ، و همت بالرحيل إلا أن صوت السيدة " دينار " الناعم إستوقفها :
- معقول ! هانيا عندنا ؟؟
إلتفتت " هانيا " مرة أخرى لتواجه السيدة بإعتداد بالنفس ، بينما تابعت " دينار " برقتها المعهودة :
- اهلا يا حبيبتي ، عاملة ايه ؟ اسفة ماقدرتش اجي اعزي في المرحوم اصل في مشاكل عندنا هنا ، مشاكل كبيرة مالهاش حل.
- و لا يهمك يا انطي.
قالتها " هانيا " بصلابة ناعمة ، ثم أردفت :
- انا كنت جاية لأنكل توفيق بس اكتشفت انه مش موجود.
- لو عايزاه ضروري اتصلي بيه ، هو مابيردش عليا ، بس اكيد هايرد عليكي انتي.
نطقت أخر كلماتها بفتور ، فأومأت " هانيا " رأسها بإبتسامة مصطنعة ، ثم إستدارت مرة أخرى لترحل ، فإستوقفها " مروان " هذه المرة قائلا بتراخ :
- استني يا هانيا انا خارج هوصلك في سكتي.
إدارت " هانيا " رأسها إليه قائلة بحدة :
- سكتتا مش واحدة يا مروان.
ثم غادرت منزل عمها ، يتآكلها الغضب و الهوان ، بعد أن قابلها " مروان " بوقاحة و فظاظة و أهانها بقسوة كما توقعت ..
حاولت أن تتناسي ما حدث منذ قليل و ركزت علي أشياء أخرى ، عندما تصل إلي منزل مربيتها الخاصة بحي ( الوراق ) ستتصل بعمها ، فيجب أن يتقابلا بأسرع وقت ..
كان من السهل الوصول إلي المنطقة المنشودة ، و ذلك بإتباع خطوط وسائل النقل و المواصلات ، لكنها أسرعت الخطى لأن الليل كان قد بدأ يخيم برغم الشمس الغاربة التي كانت تعزز جمال السماء و الأرض ، و التي جعلتها تخف سيرها بالرغم منها لتفكر ملياً بمشكلاتها ...