71

2.7K 71 2
                                    

أشرف الوقت علي منتصف الليل ..
و كانت برودة الجو جميلة في هذا الوقت ، ليست حادة .. كانت بالغة اللطف ..
بينما كانت تجلس "هانيا" أمام منضدة الزينة شاردة بفكرها ..
فلم تشعر به إلا عندما أحست يديه علي شعرها .. أفاقت من شرودها ، و نظرت إلي إنعكاس صورته في المرآة ..
فرأته ممسكا بالمشط ، و يعتزم تمشيط شعرها بنفسه ..
رفعت حاجبيها بدهشة ، و سألته:
-بتعمل ايه ؟؟
إقترب منها أكثر و هو يقول بشغف:
-هسرحلك شعرك !
همست بتعب و هي تسدل أهدابها الكثيفة علي عينيها:
-من فضلك .. ابعد عني دلوقتي.
-اهدي بس .. مافيش حاجة.
قالها بلطف ، ثم راح يمشط خصلات شعرها الذهبية بمنتهي الرقة و العناية و كأنه يتعامل مع شيء ثمين للغاية ..
سمعته يتمتم بإعجاب:
-شعرك جميل جدا .. ناعم اوي و طويل ... و عارفة كمان ؟ .. له ريحة مميزة كده ، بتنعشني كل ما اقرب منك.
وترتها كلماته ، فهبت واقفة .. ثم قالت بصلابة محاولة إخفاء إضطرابها:
-شكرا ليك .. شعري متسرح مش محتاج.
و عندما مرت بمحاذاته لتخلد إلي الفراش ، قبض علي معصمها ، و أعادها لتقف أمامه ..
ثم عقد حاجبيه ، و قال دون أن يحاول الإقتراب منها:
-مالك ؟ .. في ايه ؟؟
أجابته عابسة:
-انا كويسة .. مافيش حاجة.
لم يقتنع بجوابها ، فتنهد بعمق و قال:
-طب تعالي .. تعالي نتكلم شوية.
حاولت أن تسحب يدها من قبضته الحديدية و هي تهتف بصرامة:
-انا عايزة انام .. مش قادرة اتكلم دلوقتي.
قال بنعومة:
-مش هناقشك في حوار طويل يا هانيا .. تعالي بس.
إيجباريا .. سارت معه حتي أجلسها فوق تلك الآريكة الحمراء في وسط الغرفة ..
طالعها مبتسما للحظات .. ثم بدأ حديثه في هدوء:
-حاسك متغيرة من الصبح !
لم ترد عليه .. بل تظاهرت بالبرود و إعتصمت بالصمت ، فواصل كلامه:
-الكابوس اللي شوفتيه الصبح و قمتي تصرخي منه .. انا كنت فيه ؟ .. انا اللي خليتك تصرخي ؟؟
رفعت عينيها الزقاوين إلي وجهه و نظرت إليه بقوة .. بقيت صامتة من المفاجأة ، بينما إبتسم بخفة و هو يحدجها بنظرة عميقة محاولا النفاذ إلي ذهنها و معرفة الجواب بنفسه ..
و للحال فطن لعزمها علي الهرب منه ، و قبل أن تتحرك من مكانها ، إقترب هو بسرعة البرق و إعتقل يديها قائلا بجدية:
-جاوبيني يا هانيا .. انا اللي خليتك تصرخي ؟ .. انتي لسا بتخافي مني ؟؟!
-انا مابخافش من حد !
قالتها بخشونة و هي تضاعف مقاومتها لتحرير يديها من قيضته دون جدوي ..
راقب تعابير وجهها العدائية بإبتسامة هازئة ، ثم قال:
-احيانا مابتعرفيش تكدبي.
قالت بصعوبة بعد أن لاحظت عينيه تتآملان وجهها و كتفيها العاريتين:
-طيب .. انا بكدب ، اللي انت شايفه .. سيبني بقي من فضلك.
رد بتصميم قوي، و لكن بنبرة خافتة هادئة:
-انا مش ناوي اسيبك الليلة دي يا جميلتي !
أشاحت بوجهها عنه و هي تقول بعصبية:
-امور جنانك دي ماتطلعش عليا دلوقتي .. سيبني بقي.
-اسيبك ليه ؟ .. انتي مراتي و حقي.
قالت و فمها يرتجف بشدة:
-انا مش بحبك !
رفع يدها اليمني إلي قلبه ، و ضغطها بقوة هامسا:
-بس ده بيحبك.
تآملت "هانيا" وجهه في تلك اللحظة .. و من جديد ، لمحت معاناة الوحدة علي ملامحه ..
و بغتة ، وقعت عيناها علي اليد التي ضمها إلي قلبه .. فلمحت الخاتم الذهبي الذي يؤكد حقوقه عليها ..
و لكنها إنتفضت في تمرد ، و صاحت بعناد:
-مستحيل .. انا بكرهك ، مش ممكن هحبك ابدا.
-بصراحة .. مابقتش اهتم ، كفاية انا بحبك و باخد بالي منك.
و نهض ثم رفعها بين ذراعيه بخفة و حملها كطفلة صغيرة متجها إلي الفراش ..
بينما كانت تلهث و تلبط الهواء بقدميها ، و لما عجزت عن الفكاك منه إلتجأت إلي الإهانات ، فهتفت و لا من مجيب:
-انت حيوان .. حيوان و غبي و متخلف .. بكرهك يا عاصم يا صباغ .. بكرهـــــك.
كان قد وضعها في الفراش و هو لا يزال يآسرها بين ذراعيه ..
ظلت ذراعاه حولها تطوقانها بشدة .. حتي تحولت الرغبة في المقاومة إلي الرغبة في المشاركة و الحب و الحنان ..
و للحظة عابرة .. أرادت "هانيا" أن تقاوم ذلك الإعتداء العاطفي علي حواسها ..
لكن لهفة حبه القوية و المقنعة سرعان ما محت أي إعتبار شخصي ..
ما عادت قادرة علي كتمان عاطفتها دقيقة أخري ، فبادلته مشاعره بطواعية و سكنت بين ذراعيه ..
و بعد فترة قصيرة .. همست بإنهزام لأول مرة تستلذه:
-حلمت اني قتلتك !
فغمغم بمرح ساخر و فمه لاصق بخدها:
-كنت فاكر ان انا اللي آذيتك في الحلم !


" سبب الوفاة - هبوط حاد في الدورة الدموية - " ..
هكذا صرح التقرير الطبي المبدئي لمستشفي المدينة المركزية ..
أن الفتاة أصيبت بنزف حاد بجدار الرحم أفضي بها إلي الموت خلال خمسة و ثلاثون دقيقة من بدء النزف ..
طالع "إياد" هذا التقرير بتركيز واجم ، أدرك كل حرف فيه جيدا .. ثم ألقي به فوق المكتب ..
إلتفت إلي طاقم الأطباء و قال متجهما بصلابة:
-تقريركوا مبدئي يا دكاتره .. ماينفعنيش الكلام ده ، انا عايز اعرف ايه اللي حصلها بالظبط.
تكلم الطبيب المسن حديثا و الذي يتصدرهم:
-بصورة تلقائية يا حضرة الظابط المستشفي استدعت انهاردة الصبح لجنة مكونة من اعضاء هيئة الطب الشرعي ، هما هيتحققوا من التفاصيل بدقة اكتر و هيسلموا حضرتك تقرير مفصل و شامل بكل التفاصيل اللي ممكن تحتاجها.
آتي "وليد" في هذه اللحظة مهرولا ، و قال:
-إياد باشا .. عايزك في موضوع مهم.
إستأذن "إياد" من الأطباء ، و مشي صوبه .. سأله عابسا:
-في ايه يا وليد ؟؟
إقترب منه "وليد" خطوة و هو يقول في خفوت حذر:
-من شوية كلموني في القسم و قالولي انهم لقيوا حاجة مهمة اوي في الاوضة اللي في البانسيون.
توسعت عينا "إياد" بلهفة ممتزجة بالآمل ، فسأله:
-لقيوا ايه ؟؟؟
-لقيوا موبايل واقع في الاوضة .. احتمال كبير يبقي يخص القضية ، لو كده اكيد هيفيدنا و يوصلنا لحاجة !
-محدش عرف عنه حاجة ؟؟
-لا يا باشا ، انا قلتلهم محدش يفتحه و لا يجي جمبه الا اما حضرتك تيجي.
توهجت عيناه و هو يتنفس بصوت مسموع كمتوحش ، ثم يقول بخشونة ضارية:
-اكيد هيوصلنا لحاجات مش حاجة واحدة بس .. يلا بينا !

...........................................................................

ذهب عقلها ..
منذ قالوا لها الخبر المفجع .. آبت أن تصدق ، واجهتهم جميعا بالرفض القاطع ..
و من وقتها و هي لم تعود إلي منزلها .. بل راحت تجوب الطرقات بحثا عن إبنتها ..
لم تترك شارع و لا زقاق إلا و بحثت فيه ..فتشت عنها في كل مكان ..
و لا زالت حتي الآن تبحث في يآس .. علي آمل أن تجدها ..
فها هي "قوت القلوب" .. تجر خطاها التعبة الثقيلة تحت آشعة الشمس الحارقة ..
تناجي إبنتها بلوعة و نبرة معذبة وسط المارة .. :
-هنــــــــااا .... بــت يـا هنـــااا .. مابترديش علي امك ليه يا بت ؟
ردي عليا .. يـا هنـــااا ...... يا حبيبة امك ياختي ... سيياني كده ليه يا ضنايا ؟
تعــالي شوفي امك بقي حالها ازاااي يا حبيبتي ؟ .... يــاااا هنـــــــااااا
هكدا راحت تهتف و لا من مجيب ، و بذلك النواح الحار .. إجتذبت "قوت القلوب" نظرات جميع من حولها و قلوبهم ..
و تابعت سيرها علي الحالة ذاتها ، فبقيت محط الأنظار أينما حلت ...

***********************************
يتبع

المظفار والشرسهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن