54

2.3K 67 2
                                    


لم تري "هانيا" أمامها في وجوه الحاضرين سوي نظرة مستنكرة لصمتها تناقلوها جميعهم بين الدهشة و الإستغراب ..
و لكن كان "عاصم" بعكسهم تماما .. صحيح أنه ينتظر ردها بصبر نافذ ، إلا أنه ظل في الظاهر مترقبا في هدوء و برود أعصاب ..
بينما إنفرجت شفتاها إستعدادا للكلام لكي توقف هذا الزواج و تنقذ بقايا كبريائها بأي وسيلة ..
و لكن بدلا من ذلك ، وجدت نفسها تقول بصوت صارم:
-ايوه .. اقبل !
عند ذلك ، شرع المأذون في إتمام باقية المراسم بقوله:
-إذن ، رددي من بعدي.
و تابع بصوت قوي مسموع:
-اني استخرت الله العظيم.
برأس منحن ، و جفنين مسدلين ، رددت "هانيا":
-اني استخرت الله العظيم.
-فأزوجك نفسي.
-فأزوجك نفسي !
-انا هانيا مصطفي علام.
-انا هانيا مصطفى علام.
-البكر الرشيد.
-البكر الرشيد !
-علي كتاب الله و سنة رسوله.
-علي كتاب الله و سنة رسوله.
-و علي الصداق المسمي بيننا.
-و علي الصداق المسمي بيننا !
طوال هذه المدة كانت عينا "عاصم" تتابعان تحركات شفتيها المضطربة ، و هي تعاهده بخشوع علي الحب و الإخلاص كزوجة ..
ثم بعد ذلك ، جاء دوره هو ليعلن قبوله للزواج ، فأحست صوته الرنان يتماوج في داخلها و هو يردد خلف المأذون الذي قال:
-قل يا ولدي .. و انا قبلت زواجك علي ذلك.
-و انا قبلت زواجك علي ذلك !
عند نطقه تلك الجملة الأخيرة ، رفعت "هانيا" رأسها لتنظر إلي وجهه ..
لم تكن قد وجهت إليه نظرة واحدة منذ تلك اللحظة التي وعت فيها أن لا أمل لها بالفرار منه ، و أن الوقت قد فات ..
لكنها نظرت إليه الأن ، فكان وجهه ذا تعبير جدي و مشوب بشيء من الحذر ..
و هنا جاء صوت المأذون يختتم المراسم ، و كأنه يتكلم عبر مسافة شاسعة:
-بالرفاء و البنين .. زواج مبارك بإذن الله.
أسدلت "هانيا" أهدابها في تلك اللحظة لتغمض عينيها بشدة ، إذ كان الآلم داخلها حادا جدا و إلي درجة لم تستطع معها أن تتحمل رؤية بسمة النصر التي لابد أن تكون مرتسمة علي وجه "عاصم" الآن و هو يرنو إليها بغبطة شديدة ..
لم تشعر "هانيا" بعد ذلك بنفسها إلا و هي بين يدي "عاصم" الذي أمسك بيدها و أوقفها أمامه ليقبل جبينها بحب ، ثم يرفع كفها إلي فمه و يلثمه بعمق مطول ..
أحست "هانيا" أن قبلاته هذه ، لم تكن سوي إعلان صريح أمام الجميع يثبت مليكته الفعلية لها ..
و بحواس متخدرة ، تناهت إليها كلمات التهنئة ، التي كانت توجه إليها و إلي زوجها ..
و لكن لا التهاني و لا الفرحة الغامرة من حولها إستطاعا النفاذ إلي روحها التي خيل إليها أنها أصبحت جثة بلا حراك ..
أحني "عاصم" رأسه هنا ، و همس في أذنها:
-مبروك.
تطلعت "هانيا" إليه فاتحة عينين واسعتبن إندهاشا لما آلت إلبه حياتها ، و قالت:
-الله يبارك فيك !
حدجها "عاصم" بنظرة متسائلة ، و هو يقول:
-محضرلك مفاجأة برا في الجنينة .. تحبي تشوفيها دلوقتي ؟؟
للحظات ، إشتبك نظرها بنظره في إرتباك ، حتي أومأت رأسها و قالت:
-ماشي !
فإبتسم لها بعطف و محبة ، ثم مد ذراعه لتمسك به .. مدت يدها بدورها ، و لمست كم بذلته السوداء في توتر واضح ، و لكنها حاولت جهدها أن تبدو نشيطة واثقة ..
في اللحظة التالية ، كانت تتوجه معه نحو باب المنزل ، حيث خرج الجميع قبلهما لينتظروا قدومهما ..
و ما أن إجتازا العتبة ، حتي سمعا أصواتهم الحماسية ، و صيحاتهم المرحة ..
لقد أبلي "شهاب" حسنا ، إذ خطط بأن يأتي بمجموعة إضافية من أصدقائه ، ليفاجئ شقيقه و يجامله ..
إقترب "شهاب" من "عاصم" بوجهه الضاحك ، و صافحه ثم عانقه بقوة قائلا:
-مبرووووك يا عاصم .. و يا رب تكون مبسوط من المفاجأة بتاعتي ، انا قلت يعني بدل ما الفرح يبقي كئيب كده و مافهوش ناس ، اجيب العيال صحابي احسن .. اهو يعملوا منظر حتي.
حدجه "عاصم" بإبتسامة هادئة ، و قال بلطف:
-المفاجأة حلوه يا سيدي متشكرين.
ثم أضاف محذرا:
-بس بعد كده متبقاش تتصرف من دماغك ، او تعمل حاجة بدون ما ترجعلي.
بحركة مسرحية ، قال "شهاب":
-تمام يافندم.
ضحك "عاصم" من قلبه علي آداء شقيقه ، و علي كل ما يدور من حوله ..
فقدت بدت الآجواء ساحرة دافئة للغاية ..
و حين نظر إلي "هانيا" وجدها و قد تمكنت من الإبتسام بثقة كبيرة أدهشته كليا ، فيما إلتفتت إليه و سألته مصطنعة التشوق:
-هي فين المفاجأة ؟؟
قادها "عاصم " إلي الوجهة الخلفية للقصر ، حيث الحديقة الخضراء الشاسعة .. كان المشهد الذي واجهها هناك ذا جمال خرافي عنيف و مبهج ..
إذ وضعت المشاعل حول دائرة واسعة ، وسطها طاولة كبيرة بيضاوية الشكل ، فخمة .. و قد إصطف عليها أثمن الآواني الفضية و الزجاجية ، كما أنارتها أغلي الثريات الأثرية الرائعة ..
إضافة إلي كافة ما لذ و طاب ، من الكلاء و الشراب ..
تبادلت "هانيا" النظرات مع "عاصم"في صمت لمدة دقيقة .. حتي إنطلق صوته أخيرا يسألها:
-ايه رأيك ؟؟
تنفست بعمق و هي لا تزال محتفظة بإبتسامتها الرقيقة ، ثم أجابت:
-حلوه اوي.
إرتسم الإمتنان علي وجه "عاصم" و قد بدا أنه يحبس أنفاسه في تلك اللحظة و هو يتأمل جمالها في الفستان الأبيض ، و رأسها الملكي المكلل بشعرها الذهبي ..
بعد ذلك ، دعا "عاصم" الجميع للتوجه نحو المائدة المكتظة بالأطعمة اللذيذة ، فلبوا دعوته في سعادة و سرور ..
كانت الحركة مستمرة حتي الآن قربهم ، فالتحضير لهذه السهرة بدأ منذ ساعات عديدة ..
أخذ بعض الخدم الرجال ، ينحنون فوق موقد كبير حيث يوقد الحطب يحركون سياجا كبيرة تشوي من خلالها شرائح كاملة من اللحم الطازج ..
أما الخادمات النساء اللواتي لمعت عيونهن إثارة و حماسة ، فقد جلبن باقي الطعام الساخن الشهي إلي الطاولة الفاخرة ..
و بين كل هذا .. كانت "هانيا" تتآمل ما يدور حولها في شيء من التهكم و السخرية ..
إذ لماذا و لمن كل ذلك ؟ .. أصناف عديدة من الطعام ، أهرامات من الفاكهة و الخضار المنوعة .. و تلك القناديل المعلقة تحت الأشجار تضيء أوراق الشجر السميكة اللماعة ..
تساءلت مرة أخري .. هل صدق نفسه حقا ؟ .. هل آمن بصدق العلاقة بينهما ؟ .. أم أنه تغافل عن الحقبقة بمحض إرادته ؟؟
و لكن أيا كان الأمر ، فكلاهما سواء بالنسبة لها .. و ها هي تجلس هادئة ، رزينة ، متقبلة واقعها بشجاعة و صدر رحب ، و لن يحرك دهائه المزعوم ، أو قوته المخيفة مثقال ذرة من إرادتها في التحرر منه و القضاء عليه ..
علي الطرف الأخر .. كان الجميع جائعين ، و للحال شرعوا بتقطيع اللحوم ، ففاحت رائحة ذكية ، رائحة اللحم المشوي و قد عبق الجو بها ..

************************************

ثمة شيء سحبه من آوج نومه ، فأستيقظ حين شعر بحركة قرب فراشه الوثير الدافئ ..
فتح عينيه بتثاقل ، ثم راح يتلفت حوله بحثا عن مصدر الصوت .. لكنه لم يجد شيئا !
فنظر إلي جواره ليطمئن عليها ، و لكنه أيضا لم يجد لها أثر ..
أين ذهبت ؟ أين هي ؟ .. قال محدثا نفسه و هو يحاول أن يدفع جسده المنهك لينهض من السرير و يبحث عنها ، لكنه رآها فجأة علي أعتاب باب الغرفة تلتقط بكفيها عبرات فرت من جفنها المحموم ..
فنادي عليها .. لم تلتفت .. كرر النداء ، فإنصرفت إلي الخارج ..
غضب ، و قفز من مخدعه ليلحق بها كي يعنفها علي ذاك التجاهل ..
إلا أنه وجد خارج الغرفة ما أخمد عزيمته .. إذ كان هناك فوق الأرض آثار دماء ممتدة بداية من باب الغرفة ، و حتي بعد الردهة الطويلة المؤدية للصالون ..
خطي متبعا آثار الدماء بقلب واجف ، إلي أن وصل عند نقطة النهاية ..
لم يجد شيئا ، و لم يجدها .. إلي حدا ما إرتاح باله و قلبه ..
و لكن لم يطل الأمر .. فقد سمع صوت حشرجة قاسية آتية من خلفه .. إلتفت بسرعة ، فأرتفعت نبضات قلبه ..
أراد أن يتحرك و يندفع نحوها ، فلم تسعفه قدماه .. حاول أن يصرخ ، لكن لسانه قد عقد و ثقل ..
إنسابت الدموع الحارة من عينيه و هو غير قادر علي إنقاذ حبيبته التي همد جسدها فوق الأرض ، و قد سالت الدماء غزيرة من عنقها المجروح ..
و جل ما كانت قادرة عليه .. هو أن مدت يدها المرتعشة ، و أطلقت صوتا متحشرجا متقطعا لتستنجد به:
-مـ .. مر .. و ا .. ن .. الـ حـ .. قـ نـ .. ي !

.....................................................

علي أرض الواقع ..
هناك داخل غرفة الرعاية المركزة ، أفاق "مروان" من غيبوبته و هو يشق ظلمة الليل و الأجواء الساكنة بصرخة مدوية إجتمع علي إثرها جميع أفراد طاقم التمريض الخاص بالطابق داخل غرفة الرعاية ..
كان في حالة إنهيار شديد ، و لم يحس أو لم يعبأ بالآلم الجسيم الذي لابد و أن شعر به في تلك اللحظة بالأماكن التي أصيب فيها بالجروح العميقة ..
إذ ظل يصرخ دون إنقطاع ، و أكثر من مرة حاول أن يترك السرير الطبي ، و لكن عبثا ذهبت محاولاته ..
فقد أمسك به الممرضون جيدا ، فيما راحت تتعالي صيحاته و هو يهدر بإهتياج:
-اوعووووووا ، سيبووووني .. فين حــنة ؟ أنا عايز حنــــة .. هاتوهاااالي هناااا ، انا عايزهاااا.
في تلك اللحظة ، آتي "توفيق" إلي الغرفة ، و لكن دون زوجته أو إبنته .. فقد أصر عليهما أن يبقيا بالمنزل لحين عودة "مروان" إلي وعيه ..
و ها قد عاد "مروان" .. و ظل أبيه يحدق فيه بنطرات تراوحت بين الصدمة و الإشفاق و القلق ..
توجهت نحو "توفيق" إحدي الممرضات ، و طلبت منه أن يخرج من الغرفة .. فإنصاع إليها و خرج حزينا مهموما ..
بينما وصل الطبيب المشرف علي حالة "مروان" .. و عندما رأي ما يعانيه من إنهيار عصبي حاد ، قرر أن يحقنه بمخدر لئلا يلحق ضررا أبلغ بنفسه ..
و بالفعل ، قام بحقن المحلول المعلق فوق رأسه بمادة مخدرة ، سرعان ما سرت بعروقه ، و ذهبت به إلي عالم الظلمات مرة أخري ..
حيث هدأت حركته ، و إنقشع صراخه ، و خبت صيحاته تدريجيا ، حتي عاد الهدوء يعم المكان مجددا و كأن شيئا لم يكن ...

***********************************
يتبع

المظفار والشرسهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن