73

2.5K 66 5
                                    

كانت السماء تجود بكل مطرها علي الأرض .. و كان الليل شديد الحلكة عندما تجاوزت الساعة منتصف الليل بقليل ..
بينما وقف "عاصم" أمام المرآة يعدل هندام ثيابه الفاخرة ، و يرش بسخاء عليها و علي وجهه و عنقه عطره الزكي النفاذ ..
كانت "هانيا" تجلس هناك فوق الآريكة علي مقربة منه ، تطالع إحدي مجلات الأزياء و الموضة الفرنسية التي طلبتها منه لتسليها و أحضرها لها ..
كانت تراقبه أيضا دون أن يلاحظ هو عيناها المتلصصتان عليه .. و كم إغتاظت مما يقوم به ، فدارت بعقلها عشرات الأسئلة ..
لماذا يفعل بنفسه كل ذلك ؟ .. لماذا هو متآنق هكذا ؟ .. لما ينثر عطره الجذاب بغزارة حول وجهه و عنقه ؟؟
أهو مرتبط بموعد ؟ .. و لكن أي موعد ؟؟
فالوقت متآخر جدا الآن .. فضلا عن أن السماء متجهمة و تمطر في الخارج و البرودة تعم الأجواء ..
لا يمكن أن يكون موعد عمل .. إستبعدت هذا الإحتمال الذي غلب علي أفكارها ..
و تشبثت بالإحتمال الأكثر منطقية ..إنه سيذهب لملاقاة شخصية مهمة جدا ..
و لكن تري ما كينونة تلك الشخصية ؟ .. أهي إمرأة أم رجل ؟؟
بالتأكيد إمرأة .. و إلا فلماذا يهتم بمظهره الكامل بهذه الدقة ؟؟!!
إستشاط عقلها غيظا من شدة تدفق الأفكار و صوتها الداخلي العالي ..
فتحفزت في إتكاءتها المخملية ، و هي ترفع صوتها ليسمع و تقول بلهجة جافة دون أن تبارح مكانها:
-يا تري رايح فين بالشكل ده الساعة دي و الدنيا بتشتي برا ؟؟!
إستدار إليها و هو يعدل ياقة قميصه الكحلي الضيق ، ثم سألها بنبرته الهادئة:
-بتقولي حاجة ؟؟!
تآففت ضجرة ، و كررت سؤالها مرة أخري بتكبر و عنفوان:
--كنت بقول هتخرج تروح فين بالشكل ده و الدنيا بتشتي برا ؟!
إلتوي طرف فمه في إبتسامة خبيثة و هو يرفع حاجبه قائلا:
-و انتي عايزة تعرفي ليه ؟ .. اقصد من امتي بتهتمي يعني ؟؟!!
لم ترد عليه .. فقط حملقت فيه صامتة ، فإتخذ الخطي نحوها حتي جلس بجوارها علي طرف الآريكة ..
ثم مال صوبها قليلا ، و سألها مداعبا:
-لا تكوني بتغيري عليا مثلا !
بإسلوبها القديم المتغطرس ردت:
-هه ! .. انا اغير عليك انت ؟؟!!
إبتسم بهدوء و هو يمد يده إلي شعرها ، و يلتقط إحدي خصيلاتها الشقراء ، و يلفها حول إصبعه ، ثم يتمتم بخفوت مثير:
-عموما انا مش رايح اخونك في حتة و لا انا مواعد فتاة ليل انزل اقابلها تسدلي حاجتي بدالك .. انا رايح مشوار مهم اوي ماينفعش آجله اكتر من كده.
تجاهلت أخر كلماته ، و ردت بلباقة وقحة:
-انت سافل و قليل الادب !
ضحك بمرح من قلبه ، ثم قال:
-شكرا.
ثم نظر إلي المجلة في يديها ، و لمسها بطرف إصبعه و هو يقول بسخرية هادئة:
-قولتيلي اجيبلك مجلات فرنسية تقريها ، قلت و ماله ما انتي نصك فرنساوي و اكيد ثقافتك فرنساوي بردو .. لكن بصراحة ماكنتش اعرف ان الفرنسيين بيكتبوا بالشقلوب !
إنتبهت "هانيا" لوضعية المجلة بين يديها ، فوجدتها مقلوبة بالفعل ..
نظرت إليه و شفتيها ترتجف من الإرتباك ، فكتم ضحكة أخري كادت تفلت من بين شفاهه ، لتقذف بالمجلة في وجهه مغتاظة و تنهض متجهة نحو الشرفة ..
فتحت بابها علي مصراعيه ، ليصطدم جسدها بالعاصفة الهوائية الباردة ..
أقشعر بدنها من الصقيع الأشيب الذي إخترق جلدها و لحمها حتي بلغ عظامها ، و لكنها عاندت شعور البرد هذا و بقيت راسخة بمكانها .. تنظر إلي السماء التي غطاها الليل بظلمته و لا يشع فيها سوي بعض النجوم ..
آتي "عاصم" من خلفها في هذه اللحظة ، و أمسك بكتفيها صائحا:
-بتعملي ايه يا مجنونة ؟ .. ادخلي جوا هتاخدي برد كده.
حاولت أن تبعد عنه دون فائدة ، فتملصت منه و هي تغمغم بصوت مخنوق:
-اوعي كده .. انت مالك اصلا ؟ .. سيبني.
-ايه انا مالي دي ؟ .. لأ مالي و نص يا جميلتي.
و طوق خصرها بذراعيه من الخلف ، ثم رفعها عن الأرض بخفة و سحبها إلي الداخل ..
حاولت "هانيا" أن تقاوم و تشد بثقلها علي ساعديه لتغرز قدميها بالأرض ، أو تمسك بأي شيء في طريقها ..
و لكن لا فائدة .. فقد كان قويا كالوحش ، و لم ينزلها إلا أمام المدفأة ، ثم تركها ليغلق باب الشرفة ..
عاد إليها بسرعة .. فتوقعت كلام فولاذي منه كعادته ، و لكنه فاجئها بقوله:
-بطلي تآذي نفسك.
قالها "عاصم" بجدية صارمة و لا مجال للمزاح في نبرة صوته ..
إقترب منها أكثر و هو يكررها:
-بطلي تآذي نفسك.
كان قد وقف أمامها مباشرة و يشعر بأنفاسها المتسارعة ، و دقات قلبها غير المنتظمة .. ليواصل ببحة مؤثرة:
-انا استحالة اقدر اتحمل اشوفك تعبانة او فيكي اي حاجة .. ماعنديش استعداد اخسرك ابدا ، ابدا .. ارجوكي حافظي علي نفسك .. بالله عليكي.
تجمع الدم في خدودها الحمراء مسبقا ليزيدها حمرة ..
بينما إبتسم في شيء من الحزن و هو ينظر لها بعيونه البندقية اللامعة و كأنها أجمل شيء رآه علي الإطلاق ، و هي حقا كذلك بالنسبة له .. :
-جميلة جدا و الله !
همس .. و كأنه يحدث نفسه ، ثم إمتدت يداه ، و أحاط وجهها بكفيه ..
ثم طبع برفق قبلة خفيفة جدا علي شفتيها الورديتين و كأنه خائف أن تنكسر منه ..
ثم قال بحب و هو ينظر بعمق في عينيها الزرقاوين:
-انا بحبك .. بحبك.
و طبع قبلة أخري علي جبهتها ، و لكنها كانت قبلة عميقة و مطولة هذه المرة ..
إبتعد عنها أخيرا .. تركها مغمضة العينين ، متقطعة الأنفاس ..
و لما فتحت عينيها ، كان هو أمام الخزانة .. يتناول معطفه الثقيل ، ثم يرتديه و يلتفت إليها قائلا بإبتسامة عذبة:
-مش هتآخر .. ساعتين بالكتير و هكون هنا ، نامي انتي كويس و زي ما قولتلك .. خدي بالك من نفسك.

******************************************

كان يستمع إلي صوتها المرتجف بالبكاء عبر هاتفهه في خليط من الغضب و التآثر و العنف ..
إلي أن إنتهت ، فصاح بها:
-ازاي يفضل حابسك المدة دي كلها ؟ .. و بتقولي ياباكي وافقه ؟ ليه ؟ .. انتي قاصر و لا طفلة ؟ .. و بعدين ازاي يمد ايده عليكي بالهمجية دي ؟؟!!
واصلت بكاءها الحار و هي تقول من بين شهقاتها:
-انا بس كل اللي مضيقني انه سحب مني اي وسيلة اقدر اوصلك بيها .. انا بكلمك دلوقتي من تليفون البيت و انا مرعوبة يا شهاب ، و اللي مخوفني اكتر تهديده .. ده حالف انه لو وصلك هايآذيك ... احنا لازم نبعد عن بعض يا شهاب و الا المشاكل هتكبر و اخويا مش هيسكت انا عارفاه.
إزدادت حدة غضبه و هو يرد:
-بلاش كلام فارغ نسيب بعض ايه ؟ .. و بعدين اخوكي ده مايقدرش يعمل معايا حاجة اصلا ، انتي لسا ماتعرفيش انا مين .. طب خليه يهوب ناحيتي كده بس او ناحيتك انتي كمان من هنا و رايح.
-قصدك ايه ؟؟
تساءلت بتوهان ، فقال بلهجة آمرة:
-اسمعيني كويس عشان هتنفذي كل اللي هقولك عليه.
-ناوي علي ايه يا شهاب ؟ .. صدقني انا المرة دي خايفة عليك انت مش خايفة علي نفسي.
-ماتخافيش قولتلك مايقدرش يعمل معايا حاجة ، و طالما مانعك من الخروج و من كل حاجة انا بقي هعرفه انه ماطلعش اذكي اخواته .. بس المهم تنفذي كلامي كله بالحرف.
سألته في إصغاء و هي تمسح دموعها بظهر يدها:
-عايزني اعمل ايه ؟؟
و لكنها لم تكن تعرف أن هناك من يتنصت علي مكالمتهما منذ البداية ...

........................................................................

كان "جاسر" يجلس هناك داخل حجرة مكتب والده ..
يسند ساقيه الممدودتين فوق طاولة صغيرة منخفضة ، و يدخن سيجارا في منتهي الهدوء و الإسترخاء ، في الوقت ذاته ..
كان يحتجز سماعة الهاتف ما بين كتفه و أذنه ليستمع إلي مكالمة شقيقته و حبيبها ، فقد نصب لها الشرك و قد وقعت فيه دون جهد يذكر ..
أنه الآن يعرف كل شيء عن مخططهم ، و ما عاد بحاجة لسماع المزيد ..
ترك سماعة الهاتف مرفوعة فوق الطاولة ، و إتجه نحو المكتب العاجي الضخم ..
ألقي بثقله فوق الكرسي التويد الوثير ، ثم مد يده بتكاسل و إلتقط ذلك المجلد الورقي ، و الذي قام بقراءته زيادة عن عشرون مرة حتي الآن. .
أطفأ سيجاره بالمنفضة الفخار الأنيقة ، ثم راح يطالع محتوي المجلد بعينين نصف مغمضتين ..
ليردد بنبرة خاملة و هو يقرأ المعلومات بعينيه:
-شهاب طايع الصباغ .. اخو الصباغ الكبير اللي علم عليك يا جاسر يا طحان ، و كمان طلع متجوز الحتة اللي كانت تخصك.
ثم إستطرد بعنف و هو يسحق الكلمات بين أسنانه:
-باعت اخوه لأختي عشان يقفل الـGame ؟ .. طب و رحمة امي لهلاعبه انا بطريقتي و اخليه يتحسر بقية عمره علي المحروس اخوه.

***********************************
يتبع

المظفار والشرسهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن