علي الطرف الأخر ..
أخيرا ، ظهر أحد من خلف حجرة الرعاية المركزة ، حيث يرقد هناك "مروان" ما بين الحياة و الموت ..
هرول "توفيق" طائرا علي جناح اللهفة صوب الطبيب ، الذي أقبل عليه بوجهه البشوش ، و سأله متوجسا:
-قولي يا دكتور .. طمني من فضلك ، مروان عامل ايه ؟؟
و هنا ، وصلت "دينار" التي كانت تستند إلي إبنتها ، و وقفت إلي جانب زوجها تصغي بكل حواسها إلي الطبيب الذي تحدث أخيرا بلطف يطمئنهم:
-الحمدلله حالته في بداية طريق الاستقرار ، جهاز المناعة عنده قوي ، و صحته كويسة اوي ما شاء الله و ده شيء مساعده جدا.
زفر "توفيق" بإرتياح ، فيما تهللت أسارير كلا من "دينار" و "رضوي" .. حتي أردف الطبيب في إستثناء:
-لكن ده مش معناه ان الخطر زال .. لازم يقضي كام يوم في غرفة العناية لحد ما جراحه تلم نوعا ما علي الاقل ، و العمليات اللي عملنهاله نتأكد من نسبة نجاحها .. بعد كده نقدر نقول انه في طريقه للشفا ان شاء الله.
ثم أضاف محذرا:
-اهم حاجة لما يفوق مش لازم ينفعل بأي شكل من الاشكال ، يعني محدش يقوله خبر يزعله او حتي خبر يفرحه ، الانفعالات بمختلف أنواعها بتفتح الجروح اللي لسا مالمتش في الجسم ، فخلوا بالكوا.
إنطلق صوت "دينا" الملهوف يسأله:
-طيب هو هيفوق امتي يا دكتور ؟؟
نقل الطبيب نظره إليها ، و أجابها:
-ماعرفش الله اعلم .. ممكن يفوق في اي وقت و كذلك ممكن يطول في غيبوبته شوية ، لانه مش تعبان جسديا و بس ، ده كمان اتعرض لموقف اكيد اثر بشكل سلبي علي حالته النفسية .. فعلي حسب ما عقله يرده للواقع هيفوق ان شاء الله .. المهم نطمن علي اعضائه المتضررة الاول.
و بعد أن طمئنهم الطبيب تماما ، إستأذن منهم ليرحل ، فيما إندفع "توفيق" نحو مسجد المشفي ليؤدي صلاة الشكر لله ، في نفس الوقت الذي راحت دينار و إبنتها ترفعان أعينهن إلي السماء بالدموع و الدعاء لـ"مروان" بكامل الشفاء ...***********************************
أرخي الليل سدوله فوق قصر "عاصم الصباغ" ..
بينما كانت تقف "هانيا" في نافذة غرفتها ، تاركة الهواء المنعش يلامس وجهها و هي تراقب عظمة الخالق في خلقه ..
الليل الحالك ، القمر المشع بالنور البهي ، و النجوم المتلآلئة من حوله ..
كانت السماء سعيده بليلها ، علي عكس "هانيا" .. كان ليلها حزين ، بلا قمر ، بلا نجوم ، كان حالك فقط ..
فبعد عدة ساعات قليلة ، ستختبر بنفسها شعور البرئ الذي حكم عليه بالإعدام ..
بإرادتها سيتم زواجها من عدوها اللدود .. ستضع يدها في يده ، و تزوجه نفسها بنفسها ..
لقت قست علي ذاتها كثيرا ، لا .. بل أجرمت في حق نفسها ، الأن فقط ، أدركت "هانيا" أن ما كان عليها أن تخوض هذه المعركة الخاسرة في جميع الأحوال ..
نعم خاسرة .. فماذا ستجني من ورائها سوي القهر و الإذلال ؟ .. ليغفر الله لأبيها ، هو من جعلها تواجه كل هذا من بعده .. هو من زرع الحصرم و هي من تحصد الأن ..
لقد إختصر الأمر لنفسه و وضع حدا لآلامه ، بينما هي تتجرع مرارة الآلم و الخزي ..
ما كان يجب أن تقبل بهذا الزواج أبدا .. أبدا ..
إنسابت دموع الندم من عينيها حارة مدرارة ، و قد شهدت نجوم الليل إنسياب أدمعها ، فيما كفكفتهم "هانيا" و إستسلمت لمداعبات النسيم الرقيقة قبل أن تعاود الدخول إلي غرفتها ..
توقفت "هانيا" أمام المرآة ، و بقوة مسحت بقايا الدموع العالقة بأهدابها ، و محت آثارها تماما ..
فقد عادت إليها أفكارها المزدوجة ، إذ يجب أن تقوم بأدائها علي أكمل وجه .. لقد إنتصر عليها في كل الجولات السابقة ، و لكن هذه الجولة لها ، و ستسعي بكل جوارحها و كيانها من أجل ربحها مهما كلفها الأمر ..
إنتفضت "هانيا" بعنف ، عندما دق باب غرفتها .. و لكنها هتفت بثبات:
-مين ؟؟
و أتاها الصوت القوي في الحال:
-عاصم !
منحت نفسها خمسة ثوان بالضبط لتنظم فيهم أنفاسها ، ثم سمحت له بالدخول ..
أدار "عاصم" مقبض الباب و دفعه .. ثم دلف و قد إعتلت وجهه إبتسامة رقيقة ، بادلته "هانيا" البسمة عينها ..
إلا أن شيئا أخر لفت إنتباهها و جمد تعابير وجهها .. فقد كانت الوصيفة الخاصة بها تسير خلف "عاصم" مباشرة حمراء الوجه ، كثيرة الحماس ، و كانت تحمل بين يديها كيسا قطنيا كبيرا يحوي شيئا ضخم ..
إستطاعت "هانيا" تخمين ما يمكن أن يكون داخل هذا الكيس بسهولة ، و لكنها تساءلت:
-ايه ده ؟؟
أمر "عاصم" الوصيفة دون أن يحيد بنظره عن "هانيا" بأن تضع الكيس فوق الفراش ثم تخرج ، ففعلت الوصيفة ما أمر به في صمت ، ثم إنسحبت في هدوء بعد أن أغلقت الباب من خلفها ..
لا زالت "هانيا" تحدجه في تساؤل، فأجاب "عاصم" الإجابة التي توقعتها تماما:
-ده فستان الفرح.
إزدردت ريقها في شيء من التوتر ، و رددت:
-فستان الفرح ؟ .. هو في فرح اصلا ؟ .. مش هو كتب الكتاب و بس ؟؟!
إبتسم "عاصم" بنعومة ، و قال:
-يعني معقول اتجوزك منغير ما افرحك و لو بالفستان حتي ؟؟!
ثم تقدم منها ببطء حتي وقف أمامها و صار لا يفصله عنها سوي سنتميترات قليلة جدا ، ثم قال بصوت أقرب إلي الهمس:
-انتي غالية عندي اوي يا هانيا .. و الغالي مافيش حاجة في الدنيا بتغلي عليه .. فستانك ده انا بعت جبتهولك مخصوص من اكبر بيت ازياء في العالم ، و في تحت واحدة صاحبة اكبر سنتر تجميل في البلد هتطلع تساعدك و انتي بتجهزي.
إعتقدت "هانيا" في تلك اللحظة أن الأرض إهتزت تحت قدميها ، و أن رجليها تهاوتا تحتها ، و أن دوار عنيف يكاد يفقدها الوعي حالا ..
و لكنها في الحقيقة كانت لا تزال واقفة مكانها .. يبدو أن ساعة الإعدام قد حانت ..
أفتر ثغر "عاصم" عن إبتسامة واسعة أظهرت أسنانه الناصعة المتناسقة .. ثم أمسك بيدها و هو ينظر إلي محيط عينيها الأزرق في نفس الوقت ، ثم يقول:
-هتبقي ملكة الليلة دي في الابيض يا جميلتي.