سكن نسيم المساء قليلا ، و إنسدلت ظلال الليل البنفسجية مثل ستارة مخملية علي حديقة قصر "عاصم الصباغ" ..
كان القصر كله مضيئا بالأنوار المبهجة ، وسط ظلال الأشجار و أحواض الزهور و الورود علي إختلاف أنواعها ، كما أن هناك طاولة مستديرة كبيرة الحجم ، إنتصبت بمنتصف الحديقة تماما ..
يبدو أن "عاصم" يعد لحفلة خاصة ..
في هذا الوقت ، كانت "هانيا" داخل غرفتها ، تجلس في الكرسي المرفق بمنضدة الزينة ، و قد أسلمت نفسها لتلك السيدة المحترفة و المتخصصة في فنون المكياچ و التجميل بمختلف أنواعه ..
بعد أن ساعدت "هانيا" في إتخاذ حماما ساخنا تضمن مجموعة من الكريمات و السوائل التي تضفي للبشرة و الجسد نضارة و نعومة و رائحة عطرة زكية تدوم لأيام ..
بعد ذلك ، أخذتها للخارج لترتدي ثوب الزفاف الذي أرسل "عاصم" خصيصا ليبتاعه لها من الخارج ..
ثم جففت لها شعرها العسلي الطويل ، و صففته .. الخطوة الأخيرة تمثلت في أدوات الزينة ..
كانت السيدة خبيرة و ماهرة في عملها ، بحيث قدرت ما تحتاج إليه بشرة "هانيا" .. فلم تبتذل كثيرا في وجهها ، ألا عندما وصلت إلي مرحلة إنتقاء لون طلاء الشفاه ..
إختارت لها اللون الأحمر الناري ، و قد أحسنت الإختيار ، فقد عزز هذا اللون من إبراز وجهها بشكل واضح ملفت ، و جعل مظهرها ينطق بالجمال في الفستان الأبيض و شعرها الذهبي النادر و عيناها الزرقاوان ..
في تلك اللحظة ، أقبلت الفتاة المساعدة لخبيرة التجميل عليها ، و سلمتها قطعة قماش طويلة من الدانتيل المطرز بالورود البارزة ..
تناولتها السيدة من يد مساعدتها ، ثم وضعت الطرحة علي رأس "هانيا" .. ثبتتها بالدبابيس ، ثم سوت أطرافها فوق خديها النضرين ، و صرخت بإنبهار:
-اووووووه اوووه يا انسة .. بقيتي راااائعة الجمال ، هتصدقيني لو قلتلك انك اجمل عروسة زوقتها بإيدي ؟؟
لم تكن "هانيا" تصغي إليها لتجيبها ، بل كانت في وادٍ أخر سحيق ، بعيدا عن هذا الحاضر المجنون ..
ذلك التماسك الواهي الذي إتخذته درع حماية لها ، سرعان ما أخذ يتلاشى في تلك اللحظات الأخيرة التي تفصلها عن خطوة مصيرية إذا أقدمت عليها ، لن يكون هناك مجال للرجعة عنها ..
شعرت فجأة بالبرودة تسري في أوصالها ، بينما كان عقلها يجري في كل إتجاه هربا من فكرة كونها بالفعل ستصير زوجته ..
بعد قليل ، ستصير زوجته بصورة فعلية ، و سيكون له ملء الحق عليها .. هذا الرجل الذي دمر حياتها بالكامل سيصبح زوجها !!
لم تستطع "هانيا" أن تلوذ بالكتمان طويلا ، فتفجرت الدموع من عينيها عنوة سيلا غزيرا ..
صرخت الخبيرة في تلك اللحظة بذعر ، فقد أفسدت "هانيا" بدموعها أغلب ما قامت الخبيرة بإنجازه علي أكمل وجه ، فأنبتها بحزن كدِر:
-ليه كده يا انسة ؟ .. بوظتي كل اللي عملناه بدموعك.
ثم أحبت أن تسترضيها مجددا ، فقالت مداعبة:
-اكيد دي دموع الفرحة صح ؟ .. ربنا يتمملك علي خير ، شكلك بتحبي عريسك اوي.
تحبه ؟ .. محال ، إنها تمقته .. تكرهه إلي أقصي حد ممكن ، و غير ممكن ..
تابعت الخبيرة كلامها بتشجيع:
-و لا يهمك يا عروسة ، هنصلح كل ده من تاني حالا و هرجعك احلي من الاول كمان.
و بالفعل ، خلال دقائق قليلة ، عادت "هانيا" في صورة أبهي من صورتها السابقة ..
في تلك اللحظة ، سمعت "هانيا" طرقا علي باب الغرفة ، فراح قلبها يخفق بسرعة شديدة ، فسألتها السيدة:
-نفتح الباب يا عروسة ؟؟
إزدردت "هانيا" ريقها بصعوبة ، و قالت بصوت مبحوح:
-شوفي مين الاول لو سمحتي !
إنصاعت الآخيرة لكلامها ، و إتجهت صوب الباب ، و من وراؤه تساءلت:
-مين ؟؟
أتاها الصوت الرجولي القوي في الحال:
-عاصم !
أدارت السيدة رأسها لـ"هانيا" و هي تغمز لها بعينها ، و
تقول بهمس:
-عريسك جه يا عروسة.
ثم إندفعت صوبها مجددا ، و راحت تتمم علي مظهرها و تضع بين يديها باقة الورود البيضاء ، ثم قالت:
-بـــس .. احنا كده جاهزين خالص ، يقدر عريسك يدخل دلوقتي بقي.
و قبل أن تعترض "هانيا" .. إنطلق صوت السيدة سامحا لـ"عاصم" بالدخول ..
حبست "هانيا" أنفاسها حين إنفتح الباب ، و ظهر من خلفه "عاصم" بقامته المديدة المهيبة ..
لم يجذبها شيئا فيه إطلاقا ، و لم تلاحظ فيه أي شيئا مميزا .. بعكسه هو عند رؤيته إياها ..
نظر "عاصم" إلي فستانها الأبيض المبطن بالحرير ، و المغطي بالزهور الصغيرة البارزة ..
كان بدون أكمام ، فأظهر بشرتها المخملية الناعمة ، أما شعرها الأشقر ، فقد كان مرفوعا لأعلي بجدائل علي شكل تاج ذهبي ، و زينته بالزهور البيضاء التي خففت من رصانة تسريحتها ..
إضافة إلي إكليل ، فضي رقيق غُرز بشعرها من الخلف ، و قد تدلت منه الطرحة الكبيرة الهفهافة ..
كان "عاصم" مأخوذا بسحرها .. فقد كانت مبهرة الجمال ، مذهلة ..
تحرك "عاصم" متقدما منها بخطوات متأنية حتي وصل إليها و كاد يلتصق بها .. فتوقف أمامها مباشرة ، و قال بمنتهي الرومانسية ، و هو يحلق بنظراته الولهة علي وجهها:
-مش ممكن .. صحيح انتي جميلة يا جميلتي ، لكن انا دلوقتي مهما قلت و اتكلمت .. مش هقدر اوصف مدي جمالك.
و بحميمية و بطء ، إقترب منها .. و قطف قبلتين عميقتين من خديها ..
ثم أمسك بيدها ، و علقها بذراعه .. إضطرت "هانيا" أن تمنحه إبتسامتها حتي لا تهدم كل مخططاتها بأخر لحظة ..
و عندما ظهرت معه هكذا ، متأبطة ذراعه ، لم يخطر لأحد أنها ستتزوجه قهرا و ليس حبا ..
خرجا العروسان من الغرفة ، و هبطت "هانيا" الدرج و هي تشعر بقدماها ترتجفان ، فلم يكن أمامها سوي أن تظل متمسكة بذراعه بقوة لئلا تقع أو تفقد توازنها ..
كان المنزل هادئا كليا ، و الجو يعبق برائحة زكية .. كل شيء كان مرتب و مبهج و ساكن ..
إلا عندما تناهي إلي سمع "هانيا" همهمات الخادمات اللائي كن يتهامسن و يضحكن بخفوت أسفل الدرج من الخلف ..
إرتعشت رموش "هانيا" بإضطراب مع تقلص المسافة بهم ، حتي وجدت نفسها داخل الصالون الكبير ذا الأضواء الذهبية ، و الديكور العاجي الأنيق ..
كان "شهاب" يقف هناك مع "هاجر" بإحدي الزوايا ، و معه رفيقان جاء بهما ليشهدا علي عقد زواج أخيه ..
كما كان جالسا هناك فوق الآريكة الضخمة ، المأذون بشكله المألوف ..
حيث كان يعتمر الجبة ، و كان يرتدي القفطان ..
إنتبه الجميع لدخول العروسان ، فإعتدلوا جميعا في وقفتهم ، و أطلقوا التحيات و التهنئة الحارة لكليهما ..
كانت تهز "هانيا" رأسها في خجل مصطنع و هي تقترب من المأذون و لا تزال متمسكة بذراع "عاصم" ..
جلس "عاصم" علي شمال المأذون ، بينما هي علي يمينه و قد راحت "هاجر" تساعدها في لملمة فستانها الكبير حتي تستطيع أن تجلس براحة أكثر ..
و للحال .. بدأت مراسم الزواج ، حيث أخذ المأذون يرتل بعض الأدعية ، و بعضا من الآيات القرآنية الخاصة بصدد الزواج ..
ثم حول بصره إلي "عاصم" و قال:
-بطاقتك يا ولدي.
أخرج "عاصم" بطاقته من جيب سترته ، و أعطاها للمأذون الدي أخذها ، و إلتفت إلي "هانيا" ليعيد نفس الطلب:
-بطاقتك يا ابنتي.
نظرت "هانيا" لـ"عاصم" و سألته:
-مش انا ادتهالك الصبح بردو ؟؟!
أومأ "عاصم" رأسه قائلا:
-ايوه ايوه .. اهيه معايا.
و أخرج بطاقتها أيضا من جيب سترته و أعطاها للمأذون ..
إستغرق المأذون عدة ثوان يتفحص فيهم البيانات الشخصية للبطاقتين ، ثم هز رأسه إيجابا ، و قال:
-من وكيلك يا ابنتي ؟؟
ردت"هانيا" بصوت خافت:
-انا بابا متوفي.
جادلها المأذون:
-أليس هناك من ينوب عن الوالد رحمه الله ؟؟
هزت "هانيا" رأسها سلبا ، فهتف المأذون مستغربا:
-كيف إذن يتم عقد القران ؟ .. فالبكر لا تنكح إلا بواليا شرعيا !!
و هنا ، تدخل "عاصم" بصرامة و صلابة ، فقال:
-الانسة هانيا مش قاصر يا مولانا .. هي رشيدة دلوقتي و عدت السن القانوني كمان ، يعني تقدر تجوز نفسها بنفسها.
لم يجد المأذون ثغرة أخري يتحجج بشأنها ، فقال:
-إذن ، فلنبدأ .. توكلنا علي الله.
و فتح دفتره الكبير ، ثم عاد ينظر إلي "هانيا" و يقول:
-يا ابنتي .. إن هذا الرجل الذي يجلس بجواري.
و أشار بيده نحو "عاصم" و تابع:
-يدعي عاصم طايع الصباغ .. جاء اليوم بملء إرادته ، طالبا إياكي زوجةً له .. فهل تقبلين به زوجا ؟؟
أحدث السؤال جوا من الصمت في المكان ، بدا لـ"هانيا" إن "عاصم" يصغي و ينتظر جوابها بكل جوارحه ..
و لكن الأن كيف تستطيع الإجابة ؟ .. فقد شعرت بثقل عظيم بلسانها .. حيث لم تعد قادرة أبدا علي النطق ...يتبع ...