سمع "توفيق" طرقات علي باب حجرته ، فسارع بفتحه ليجد "رشدي" يلج إليه و هو يحمل بين يديه صحن صغير يتصاعد منه البخار ، و قال:
-نزلت الصبح زي المسروع لا فطرت معايا و لا اتغديت ، قلت اجبلك طبق شوربة سخن يدفيك في التلج ده.
فشل "توفيق" حتي في رسم إبتسامة مجاملة علي فمه ، فإستدار علي عقبيه و إتجه نحو أقرب مقعد بالحجرة و جلس فوقه متهالكا ..
قطب "رشدي" مستغربا مزاج صديقه السئ ، فلحق به و جلس إلي مقعد بجواره ، و وضع الصحن فوق طاولة صغيرة فصلت بين مقعديهما ، ثم حدجه بإهتمام متسائلا:
-ايه يا توفيق ؟ مالك في ايه ؟ و ايه اللي نزلك فجأة بدري انهاردة و منغير ما تقولي ! كنت فين ؟ قلقتني عليك !!
بدا "توفيق" متعبا و هو يقول في تخاذل:
-بنت اخويا واقعة في مشكلة كبيرة اوي يا رشدي ، كارثة لو ماقدرتش انقذها منها هتضيع.
صاح "رشدي" بقلق:
-كفا الله الشر ! مالها يا توفيق ؟ ايه الحكاية ؟؟
تنهد "توفيق" بأسي ، ثم رمقه بنظرة مطولة ، و راح يقص عليه كل ما حدث .. :
-لا حول و لا قوة الا بالله !
هتف "رشدي" بإنفعال و هو يضرب كفيه ببعضهما ، ثم تابع بغضب:
-اما الصباغ ده و لا ماعرفش اسمه ايه بني ادم و اطي و ابن *** .. انت متأكد ان هو اللي لبسها التهمة دي ؟؟
هز "توفيق" رأسه قائلا و هو يشعر بصدره يضيق بقوة:
-مافيش حد غيره يقدر يعمل كده.
تقلص وجه "رشدي" بحنق مزدر و هو يتساءل:
-طب هو بيعمل كده ليه ؟؟
-ما انا قلتلك .. بينتقم لأبوه.
-ايوه بس بنت اخوك ذنبها ايه ؟؟!
هز "توفيق" كتفيه و هو يقول في مرارة:
-افتري يا رشدي .. بس انا مش هسامح نفسي ابدا لو هانيا جرالها حاجة .. المفروض اني احميها بما اني عمها و اخر حد باقيلها في الدنيا .. انما انا لأول مرة و بعد كل اللي حصلي احس بعجزي .. انا عاجز عن حماية بنت اخويا يا رشدي.
ثم وضع وجهه بين كفيه و قد إستولي عليه الهوان ، فمد "رشدي" يده و ربت علي كتفه قائلا بصوته الأجش:
-بس يا توفيق .. وحد الله .. ان شاء الله سليمة و بنت اخوك هتطلع من المحنة دي بسرعة و علي خير .. و ربنا يجازي اللي كان السبب.
-يا رب !
ردد "توفيق" مكتئبا و هو يفكر في قلق بمصير إبنة شقيقه .. و تساءل للمرة العاشرة ..
تري كيف حالها الأن ؟؟!****************
شعرت "حنة" برعشات متتالية تسري بأوصالها نتيجة البرد الذي إشتدت حدته في تلك الساعة المتأخرة من الليل ، و بينما كانت تعد فراشها إستعدادا للنوم بعد أن سبقوها جميع سكان المنزل و لاذوا بالدفء تحت الأغطية السمكية ..
أتي "مروان" خلسة من خلفها ، و قبض علي خصرها .. شهقت "حنة" فزعة جراء المفاجأة غير المتوقعة ، و إلتفتت وراءها لتصطدم بوجهه المتصلب ..
و من خلال ضوء الغرفة الخافت ، إستطاعت أن تر الغضب يفترش محياه ، كانت عيناه الرماديتين تبعثان الشرر ، فيما إمتدت يده الأخري تمسك بذراعها ، ثم أدارها نحوه بعنف و دفعه بها للإمام حتي إجتازا الردهة الكبيرة ، و صعدا الدرج ، و من ثم إلي غرفته الخاصة ..
أغلق الباب وراءهما بركلة من قدمه و هو لا يزال ممسكا بذراعها و قد غرز أصابعه في عظامها إلا أن الألم الجسماني لم يكن هو الذي بعث فيها رجفة الخوف ، بل الطريقة الخشنة العنيفة التي إستعملها معها هي التي أقلقتها ..
بينما أوقفها "مروان" بمنتصف الغرفة و هو يمسك كتفيها بكلتا يديه مصوبا نظراته الثاقبة إلي عينيها ، ثم زأر من بين أسنانه قائلا:
-الحمل اللي نزل ده .. نزل ازاي و ليه ؟؟
صوته المهزوز بإنفعال ، و إرتجاف عضلات صدغيه شيئان أثارا خوفها إلي أقصي حد ، فشعرت بعدم قدرتها علي الكلام و لم تنبس ببنت شفة ..
إرتجف جسده من الغضب ، فهزها بعنف مغمغما بشراسة:
-انطقي ! اتكلمي نزلتي الحمل ازاي و ليه ؟؟
هنا أخذت الدموع التي كانت تحبسها "حنة" طوال الأيام الماضية تتجمع بسرعة و تحجب عنها الرؤية ، فأغمضت عينيها بقوة لتطيح دموعها فوق خديها بغزارة ، فيما نطقت أخيرا أذ قالت بصوت ضعيف مرتعش:
-اول ما عرفت اني حامل .. خوفت يكون اللي في بطني ده من عبيد .. انت عارف اني مابحبوش و اني لا يمكن اخلف منه عشان كده روحت نزلت الحمل امبارح.
إحتقن وجه "مروان" و هو يسألها بخشونة:
-و جبتي الفلوس منين ؟ عملية زي دي بتتكلف فلوس كتير.
عضت "حنة" علي شفتها السفلي واهنة ، ثم أجابته:
-الفلوس اللي كنت دايما بتديهالي كل فترة كنت بشيلها ، ماصرفتش منها و لا مليم.
ضغط علي شفتيه بقوة محاولا كبح جماح غضبه ، و عاد يسألها:
-و افرضي كان اللي في بطنك ده ابني انا ! قتلتي ابني يا حنة ؟؟
بصوت أبح ردت عليه:
-ماكنتش اعرف ده من مين فيكوا ! و بعدين انت عايز تفهمني انك زعلان علي العيل اللي كان في بطني ؟ ده انا قلت انت هتتبسط مني لما تعرف اني عملت كده.
و لم تستطع مواجهة نظراته القاسية أكثر ، و أحنت رأسها ، فإستقرت عيناها علي حذاءه اللامع ..
حاولت "حنة" أن تواجهه بشجاعة مؤكدة له أنها قامت بالأمر الصائب ، و أنها أنقذته من طفل الخطيئة ، لكنها شعرت في تلك اللحظة و كأنها حشرة صغيرة لا فائدة منها ..
و للأسف لم يعد هناك مجال للمغالطة و التصليح ، فقد سلكت طريق الذهاب بلا رجعة ..
أفاقت من أفكارها المتضاربة و رفعت وجهها الغارق بالدموع إليه ، ثم قالت في إنكسار:
-انا عملت كل ده عشان بحبك .. ماقدرش اعمل اي حاجة تضايقك فتبعد عني .. انا اسفة.
و قبل أن تتم عبارتها خفضت رأسها لتنظر إلي الأرض ..
إنتظرت أن يرفض "مروان" إعتذارها ، و أن يلقي به في وجهها قائلا لها أن فرصة إصلاح ما فسد قد ولت ..
و بدلا من أن يفعل ذلك ، إمتدت يده إلي وجهها و راح يمسح دموعها بكفه الغليظ ، ثم رفع ذقنها بإبهامه حتي إضطرت "حنة" للنظر إلي وجهه ..
كان يبتسم تلك الإبتسامة الهادئة الساحرة التي يحتفظ بها دائما لها ، فحبست أنفاسها من قوة سحر جاذبيته ، بينما قال بخفوت أقرب إلي الهمس:
-انا ماقدرش ابعد عنك يا حنة .. انا بحبك و انتي عارفة كده كويس .. ماعرفش انا حبيتك ازاي و ليه ! لكن اهو بقي اللي حصل ، انا عمري ما برتاح الا و انامعاكي ، انتي الوحيدة اللي بتفهميني منغير ما اتكلم .. حبك ليا و حنيتك و خوفك عليا دول حاجات مخليا حبك يزيد في قلبي كل يوم عن اليوم اللي قبله.
هدأت ثورتها تحت تأثير سحر كلامه و إبتسامته التي لا تقاوم ، و تألقت عينيها بإبتسامة رقيقة نابعة من أعماق أعماقها ، فوضعت يديها علي صدره و هي تقول بعذوبة:
-انا كمان بحبك اوي اوي و الله .. ماقدرش استغني عنك ابدا.
أمسك إحدي يديها المسنودتين فوق صدره ، و رفعها إلي فمه مقبلا أياها بحرارة ..
لكنه عاد يقول بصرامة و قد إختفت البسمة من علي وجهه:
-بس مش معني كده انك ماغلطيش .. كان لازم تقوليلي انك حامل .. عرضتي حياتك للخطر و قتلتي الطفل ! مش ممكن كنت اوفق انك تخليه !!
-قلتلك ماكنتش اعرف اذا كان الطفل ده منك و لا لأ ، و بعدين انا خدمتك يا مروان بيه .. طلعت و لا نزلت هفضل حتة خدامة في بيتك .. مش معقول خيالي يشطح بيا اوي و اتخيل يعني ان يبقي ليا ولاد منك رغم ان دي امنية حياتي ، اني انا اللي اجبلك ولادك.
شد "مروان" علي يدها بقوة ألمتها و هو يقول بحدة:
-اولا 100 مرة قلتلك لما نكون لوحدنا اسمي مروان بس منغير بيه ، ثانيا ماتقوليش خدامة تاني مش عايز اسمعك بتقولي الكلمة دي تاني ابدا فاهمة ؟؟
لم تستطع أن تمنع رجفة الفرح التي إعترتها علي إثر كلماته ، و مع هذا قالت بشيء من الحزن:
-هي دي الحقيقة .. انا خدمتك ، عشان اقدر اكون جمبك طول عمري لازم ابقي خدامة.
قال "مروان" بغضب مزمجرا:
-قلتلك ماتقوليش الكلمة دي !
إبتسمت "حنة" بخفة و قالت:
-حاضر .. مش هقولها.
و ساد الصمت المكهرب للحظات ، ذلك الصمت الذي أثار مشاعرهما و رغبتهما في الحب ..
فقام "مروان" بالمبادرة و إقترب منها و طبع قبلة حارة علي وجنتها ، ثم تعددت القبل و توزعت حول وجهها و ما بين عنقها و صدرها إلي شفتيها ..
كانت "حنة" تتلوي شبقا مثل أفعي جائعة تنتظر فريستها ، فإستجاب "مروان" لطلبها دون أن يسمعه و حملها إلي فراشه ليتلطخا معا بطين الرذيلة ...***************
في صباح اليوم التالي ..
أضاءت الشمس الأرض بنورها ، و حتي تلك الغرفة الصغيرة في قسم الشرطة التي توسدت "هانيا" بلاطها الأسمنتي البارد طوال و هي نائمة ..
إستيقظت "هانيا" علي إثر ضوء الشمس الذي تسلل عبر النافذة الصغيرة للغرفة ..
فتحت عينيها تدريجيا متأوهة ، فقد كانت كل عضلة بجسدها تئن من الآلم نتيجة موجة الإنهاك الجارفة التي غمرتها منذ صباح اليوم الماضي ..
إستوت "هانيا" جالسة فوق الأرض و هي تري ضوء الشمس من النافذة يستمر في التسلل ، و بدخوله جاء العسكري هذه المرة ليصطحبها إلي مكتب "وكيل النيابة" ..
رافقته "هانيا" في صمت و هدوء و هي تشعر بتصلب حاد في عمودها الفقري ، مما جعل علامات الآلم ترتسم علي وجهها شيئا فشئ .. رغم ذلك إستطاعت أن تحفز جميع حواسها إستعدادا لملاقاة الضابط المحقق ..
تركها العسكري تلج وحدها إلي المكتب ، فتجاوزت عتبته بقامتها المتوسطة ، بينما حياها الضابط الجالس وراء مكتبه ببشاشة قائلا:
-صباح الخير يا انسة هانيا.
ردت التحية بهدوء واجم:
-صباح الخير يا حضرة الظابط.
-عندك زيارة يا انسة .. في حد مهم اوي جه مخصوص عشان يشوفك.
قطبت "هانيا" مستغربة و هي تردد:
-حد مهم جاي يشوفني انا ! مين ده ؟؟
-أنا يا أنسة هانيا.
و هنا شعرت بأصابع جليدية تعتصر أحشاءها ، إذ تلك النبرة ليست بغريبة علي سمعها !
فإستدارت مسرعة نحو مصدر الصوت لتصطدم بالوحش ..
تراجعت خطوة إلي الوراء كالمصعوقة ، و إنتفضت كل ذرة من كيانها في عنف ..
فقد كان ذلك الواقف أمامها هو ألد أعداءها ..
كان "عاصم" .. "عاصم الصباغ" شخصيا ... !!!*****************
علي الطرف الأخر ..
إستيقظت "دينار" باكرا كعادتها و أعدت مائدة الأفطار في إنتظار إنضمام "رضوي" و "مروان" إليها ..
إلا أن "رضوي" فقط هي التي وافتها إلي حجرة الطعام ، فتساءلت بحيرة:
-الله ! اومال مروان مانزلش ليه عشان يفطر ؟!
-تلاقيه لسا نايم.
قالتها "رضوي" في لامبالاة و هي تسحب لنفسها كرسي و تجلس فوقه ثم تبدأ في تناول طعامها غير آبهة لقلق أمها علي شقيقها المدلل ..
بينما هزت "دينار" رأسها قائلة:
-لأ ، ده اول مرة يتأخر في النوم كده ! الساعة تسعة و نص .. و كمان ده اتأخر اوي عالشركة.
ثم هتفت بحماسة عفوية:
-انا هطلع اصحيه.
و صعدت "دينار" إلي غرفة إبنها ..
أدارت مقبض الباب .. و ولجت إلي الداخل .. لتتسع حدقيتها في صدمة بالغة و لتتجمد بمكانها ذاهلة ، لا تستطيع أن تصدق ما تراه الأن بأم عينيها !
إبنها .. و الخادمة .. في سرير واحد عاريان !
يطوقها "مروان" بذراعا قوية و لا يسترهما شيئا سوي ملاءة الفراش البيضاء .... !!!!يتبع