بعد أن أخذ حماما ساخنا يستعيد به نشاطه و حيويته .. وقف يتأمل نفسه و ملابسه أمام المرآة .. لم يكن يرتدي بذلة أنيقة و ربطة عنق كالعادة ..
بل قميصا أسود بسيطا و سروال أسود أظهر تفصيلته الرياضة الرشيقة و طول ساقيه ، و فوقهما إرتدي سترة كحلية مفتوحة فلم يفقد هيبته المعتادة ، أو وقاره ، بل إزداد شبابا و رجولة ..
سمع طرق علي باب غرفته ، فإنطلق صوته الصارم يسمح بالدخول للطارق ، فدلفت إحدي الخادمات متوسطات العمر و قالت بخفوت:
-عاصم بيه .. الاستاذ زين جه تحت حضرتك.
تجهم وجه "عاصم" للحظات ، قبل أن يقول بجمود:
-طيب .. قوليله نازل حالا.
إنحنت الخادمة لسيدها بتهذيب ، ثم إنسحبت في هدوء ..
بينما إلتقط "عاصم" قنينة عطره ، و نثر منها بغزارة فوق ملابسه و حول عنقه ، ثم وضعها بمكانها و غادر الغرفة إلي الطابق الأرضي ..
كان "زين" يجلس هناك بقاعة الجلوس المضاءة بالثريات اللامعة و التي بعثت نورا ذهبيا خافتا ، أضفي علي المكان جوا من الدفء و الألفة الحميمية ..
وقف "عاصم" أمام "زين" صامتا .. تبادلا نظرة متوترة ، و ظل لسان كل منهما مترددا في الكلام ..
إلي أن قطع "زين" الصمت عندما نهض و تقدم من "عاصم" قائلا في عتاب بصوته الخفيض:
-تعرف ان زعلك وحش اوي ؟ .. يعني عشان اختلفنا علي حاجة انا و انت و لأول مرة تقاطعني اسبوع بحاله ؟؟!
تنهد "عاصم" بعمق ، ثم منحه إبتسامة بسيطة و قال:
-ماقدرش اقاطعك .. انت اخويا يالا مش صاحبي و شريكي بس.
ثم عانقه بعاطفة أخوية و ربت علي كتفه قائلا:
-عمري ما اقدر ازعل منك اصلا.
إبتسم له "زين" بخفة و قال:
-و انا ماقدرش اضايقك يا عاصم .. شوف انت عايز تعمل ايه و انا معاك فيه.
تصاعد رنين هاتف "عاصم" في تلك اللحظة ، فأخرجه من جيب سترته و نظر إلي الشاشة ليري هوية المتصل .. ثم نظر صديقه قائلا:
-هرد علي المكالمة دي و راجعلك.
أومأ "زين" رأسه ، فتواري "عاصم" عن ناظريه داخل غرفة مكتبه ..
و بينما كان يعاود "زين" الجلوس مجددا ، لمح "هانيا" تهبط الدرج بخفة و هي تصوب نحوه نظرة متسائلة ..
نهض "زين" مجددا ، و مد يده عندما إقتربت منه ليصافحها ..
تجاهلت "هانيا" يده الممدودة و حدجته بنظرة متعالية ، فإبتسم "زين" برقة و قال بهدوء:
-اعرفك بنفسي .. انا زين الرويعي .. الصديق الصدوق لعاصم الصباغ و بير اسراره و دراعه اليمين كمان.
قفز الإزدراء بملامحها في لمح البصر ، فقهقه "زين" بخفة و قال:
-انتي بقي مش محتاجة تعرفيني علي نفسك .. لاني عرفك كويس .. انتي هانيا مصطفي علام .. الضحية الجميلة في قصة الانتقام اللي تنفع تتعمل مسرحية او فيلم سينيمائي.
إستشاطت غضبا من مزاحه الثقيل ، فإستدارت و همت بالرحيل ، إلا أنه قبض علي رسغها و أعادها إلي مكانها قائلا:
-انا عارف انك هنا غصب عنك .. و صدقيني انا عايز اساعدك.
و تلفت حوله في توجس يتأكد من عدم وجود "عاصم" بالقاعة ، ثم إقترب منها قليلا و قال بخفوت أقرب إلي الهمس:
-انا مستعد امشيكي من هنا .. ممكن اهربك !تلفت حوله في توجس يتأكد من عدم وجود "عاصم" بالقاعة ، ثم إقترب منها قليلا و قال بخفوت أقرب إلي الهمس:
-انا مستعد امشيكي من هنا .. ممكن اهربك !
إرتجفت "هانيا" فجأة بشكل لا إرادي و حدقت به في غضب ..
أخذت موجات الإستياء تجتاحها ، إذ طرأت علي الفور بذهنها فكرة إنتمائه الخالص لـ"عاصم" .. فعلي حسب ما قاله لها منذ لحظات ..
أنه صديقه المقرب ، و مستودع أسراره ، و رجله المخلص .. إذن فكيف يجرؤ علي تجاهله و مساعدتها ؟ لا شك أن تلك لعبة منهما معا للإقاع بها ..
كان الإحتقار يفوح من ملامح "هانيا" .. إحتقار الغرور و الإعتداد بالنفس ، و قد توصلت بإستنتاجها إلي أن الرجل الواقف أمامها يحدثها و علي وجهه إبتسامة متحمسة ، لم يكن يمثل فقط دور المتعاطف معها ، بل أنه أيضا وجدها فرصة سانحة للتمتع بمنظر إمرأة تخضع لظرف قاهر غصبا عنها ..
و هنا إرتسمت صورة "عاصم" في مخيلتها بوجهه الأسمر و ندبته الخشنة ، و بكل سطوته و قوة رجولته ..
و فجأة .. سرت في جسمها قشعريرة غريبة ، فكادت تنفجر غيظا ، إلا إنها ردت بهدوء ناقض تلك الشرارات الثائرة في عينيها:
-ممكن تهربني ! .. يا تري دي لعبة جديدة متفق عليها انت و صاحبك ؟ عايزين تعملوا فيا ايه تاني ؟ اصلا لسا في حاجة ماعملتوهاش ؟؟!
نظر "زين" إليها بدهشة ، ثم هز رأسه بنفي قائلا:
-انتي فاهمة غلط .. انا بجد عايز اساعدك و الله انا مش بكدب عليكي .. انا عارف ان ليكي حق تقلقي مني و تشكي في كلامي ، بس برغم ان انا و عاصم صحاب من زمان و زي الاخوات و يمكن اكتر كمان ، الا ان الوضع اللي انتي فيه مايرضيش حد ، و انا اخلاقي ماتسمحليش اشوف حاجة زي دي و اغفل عنها حتي لو اتصرفت عكس رغبة عاصم ، انا هكون بحميه اولا من اي ضرر ممكن يوقع نفسه فيه منغير مايحس ، و ثانيا هكون طلعتك انتي من حفرة مش بالساهل تخرجي منها .. و فكري كويس .. فرصتك الوحيدة و الاخيرة معايا .. لو عايزة تخرجي من هنا ، محدش غيري يقدر يخرجك من هنا.
قطبت حاجبيها و هي تنظر إليه بتشكك .. فقد كان في نبرته الهادئة و المنفعلة شيء كاد يجعلها تصدقه ، و لكنها لم تكن متأكدة من نواياه !
فإستدارت علي عقبيها و إتجهت إلي الدرج قاصدة غرفتها ..
بينما عاد "عاصم" في تلك اللحظة و هو يتابع خطواتها المبتعدة ، ثم نقل بصره إلي صديقه و رمقه في تساؤل ..
أجفل "زين" بتوتر و قد أربكته نظرات "عاصم" المباشرة له ، لكنه إستطاع أن يقول بثبات:
-كانت نازلة تدور عليك علي ما اعتقد ، لكن اول ما شافتني طلعت تاني.
و بإهتمام زائف تساءل مغيرا مجري الحديث:
-خير مين كان بيكلمك دلوقتي ؟؟
هز "عاصم" كتفيه قائلا و هو يتجه نحو أحد المقاعد بقاعة الجلوس:
-ده الدكتور اللي بيشرف علي حالة شهاب .. قالي انه بقي كويس و يقدر يقضي فترة النقاهة هنا في البيت.
إنفرجت أسارير "زين" ثم قال مبتسما و هو يجلس بمقعد قبالته:
-حلو ، ده خبر كويس جدا .. شفت مش قلتلك انه هيتحسن في المستشفي اسرع من هنا.
أجاب "عاصم" و هو يشعل تلك السيكارة الرفيعة بين أسنانه:
-بردو لو كان كمل علاجه هنا كان هيتحسن و يبقي كويس.
هز "زين" رأسه ضاحكا لعناد صديقه صعب المراس ، ثم نهض واقفا و قال:
-طيب انا همشي بقي ، عايز مني حاجة ؟؟
-خليك قاعد معايا شوية !
-معلش مرة تانية .. اصلي هسافر بكرة البلد اشقر علي ابويا و امي ، فلازم اروح احضر شنطتي و انام بدري.
سأله "عاصم" بإهتمام:
-هتتأخر هناك ؟؟
هز "زين" رأسه نفيا و أجابه:
-يومين تلاتة بالكتير و هرجع .. يلا تصبح علي خير.
أومأ "عاصم" مرددا بخفوت:
-و انت من اهله.
و رحل "زين" .. بينما سحب "عاصم" نفسا عميقا من سيكارته ، ثم إنحني و هو ينفث الدخان و أطفأها بالقداحة الرابضة فوق الطاولة أمامه ..
إبتسم "عاصم" فجأة حين لاحت صورة "هانيا" أمام عينيه ..
لقد رآها منذ قليل في ثوب قمحي اللون أبرز لون شعرها الذهبي و لون بشرتها الناصعة النضرة ..
إزدادت إبتسامته إتساعا و هو يفكر أنها بدأت تنفذ آوامره بطواعية حتي و أن كانت تنفذ بدافع الخوف .. هذا يروقه ..
نهض "عاصم" من مجلسه و عبر قاعة الجلوس ، ثم الردهة المؤدية إلي حجرة الطعام حيث كان الخدم يضعوا اللمسات الأخيرة للمائدة ..
وقف "عاصم" يتأمل التحضيرات برضي ، ثم تقدم من أفراد الخدم متسائلا:
-خلاص العشا جاهز ؟؟
إلتفتت إليه كبيرة الخدم ، و كانت إمرأة طويلة و بدينة قليلا ، و قالت:
-تمام يا عاصم بيه .. كله تمام.
أومأ "عاصم" رأسه بإستحسان ، ثم قال آمرا:
-طيب اتفضلوا انتوا علي اوضكوا .. و مش عايز اشوف حد الليلة دي خالص.
إنصاع الجميع لأمره ، بينما خرج هو من الحجرةو صعد الدرج ، و إتجه إلي غرفة "هانيا" ..
طرق بابها مرة ، إثنان ، ثلاث .. و لم يتلق ردا علي طرقه ، فأدار المقبض و ولج ..
جاب أنحاء الغرفة ببصره بحثا عنها حتي وجدها تقف بالنافذة و قد إنحنت خارجها بطريقة غريبة ..
تقدم منها "عاصم" دون أن تسمع له وقع أقدام بفضل السجادة السميكة التي إفترشت الغرفة ، بينما فاجأها بصوته الناعم الماكر:
-بتعملي ايه يا جميلتي ؟؟
إستدارت "هانيا" بسرعة و قد تلاحقت أنفاسها بغضب ..
نظرت إليه بحدة و رفعت وجهها تريد حماية نفسها من هجومه الوشيك ..
ظلا للحظات ثقيلة صامتين في مواجهة بعضهما البعض ، حتي قطع "عاصم" الصمت بينهما عندما قال برقة ساخرة:
-ايه ! .. كنتي بتختبري المسافة من الشباك للجنينة تحت ؟ اوعي تكوني بتفكري في حلول الافلام الابيض و اسود .. انك تجمعي ملايات السرير و تربطيها في بعض و تعملي منها حبل طويل تربطيه في الشباك و تنزلي عليه !!
عاد "عاصم" برأسه للخلف و قهقه بمرح ، ثم نظر إليها قائلا بتسلية:
-لأ يا جميلتي .. اوعي تعملي كده ، الطريقة دي خطر و ممكن الملايات تتفك عن بعضها و انتي في النص فتقعي علي الارض و تتكسر رجلك او ايدك .. لأ ماتعمليش كده .. انا مش هستحمل يجرالك حاجة و بعدين كده كده هتلاقي نفسك هنا في اوضتك تاني.
إبتسم بخبث معبرا عن سروره و سخريته و هو يتخيل "هانيا" تعاني و تجاهد كثيرا كي تخرج من القصر دون جدوي ..
بينما تآججت نيران الغيظ و الغضب بصدرها ، فضمت قبضتيها بقوة و هي تسمعه يطلق ضحكة أخري هادئة ، ثم يتقدم منهت أكثر و يمسك كتفيها بكلتا يديه و يقول مبتسما:
-ماتحاوليش تهربي مني يا هانيا .. انا لا يمكن اسيبك تبعدي عني ، مش هتعرفي تهربي اصلا .. هتلاقيني بمسكك في كل مرة قبل ما رجلك تخطي حدود القصر و هرجعك .. ارجوكي اقبلي نصيحتي و ماتتعبيش نفسك علي الفاضي.
بهذه الكلمات .. أطفأ "عاصم" شعلة الأمل في عيني "هانيا" التي حسبت أنها علي قيد شعرة من النجاح ، و لكنه أحبطها و إنتصر عليها كالعادة ..
غير أنه محق ، فحتي لو نجحت محاولتها الركيكة تلك ، فلم تكن لتنجح في تخطي حدود القصر دون أن يدري بها و يمسكها كما قال ..
نظر "عاصم" بساعة يده و أعلن بهدوء:
-الساعة 8 و العشا جاهز تحت .. يلا بقي ننزل قبل ما الاكل يبرد.***************************
يتبع