كانت بنصف وعي ..
تشعر بأشخاص يسندونها ... و تسمع أصواتا ممتزجة دون أن تميز كلماتها أو أصحابها !
تتحرك دون أن تسير ، لا تدري إلي أين ؟ .. تتمني لو يكون كل شيء ليس أكثر من حلم ..
بداية من إقتحام عمها قصر « عاصم الصباغ » وصولا إلي مكوثها ببيته ، ثم تلك الغيبوبة الثقيلة التي خطفتها ..
كان بإمكانها أن تري شريط ذكريات السعادة التي صنعتها مع "عاصم" ..
إستطاعت أن تري كل شيء كما لو أنها داخل قلب الحدث !
وخز آليم ينخر بقلبها .. يزيد عذابها ، و يؤنبها ...
إنها الآن ضائعة في غياهب ملكوت ربها ... لا تعلم ، قد تموت عما قريب و كم تتمني لو كان بجانبها في هذا الوقت لتخبره مدي حبها له ..
لكنها عبثا تبحث عن وعيها التائه و قد بدأت أنفاسها تنسحب بسرعة من جسمها المتقلص ..............................................................
-حمدلله علي سلامتك يا حبيبتي !
سمعت "هانيا" هذا الصوت متهدجا قلقا ... فعاد إليها وعيها علي الفور ..
كانت مستلقية علي ظهرها ، فوق فرشة لينة .. إنما باردة بعض الشيء !
بعد وقت قصير ... حركت رأسها بضعف شديد ، ثم إنتظرت حتي إتضحت الرؤية ، فوجدت نفسها في سرير معدني صغير ، داخل حجرة رمادية اللون إضاءتها بيضاء مشعشعة ..
رأت حولها عمها "توفيق" و زوجته ، و إبنته ..
شعرت بحكة علي ظهر يدها اليسري ، فأرسلت بصرا مستكشفا إليها ، لتري ( كاينولا ) لنقل المحلول المدعم ..
في تلك اللحظة أدركت أنها بالمشفي ، فإنقبض قلبها ، و تذكرت ماهية الآلم الذي شعرت به قبل أن تفقد الوعي ..
تقلصت ملامحها بآلم و هي تنظر إلي عيني عمها في تساؤل !
ففهم هو مقصدها ، ليبتسم لها بدوره ، ثم يقول و هو يمسح علي شعرها بحنو:
-ماتخافيش يا حبيبتي .. انتي كويسة خاالص ، جت سليمة الحمدلله !
قالت "هانيا" بنبرة خاملة متداخلة الأحرف ، من تآثير الآدوية العلاجية التي دخلت إلي جسدها:
-هـ و هو ا يه اللي حصل ؟ ... انا فـ يـن ؟؟!
رد "توفيق" بلطف يطمئنها:
-انتي في المستشفي يا حبيبتي .. اغم عليكي بس فإتخضينا و قلنا نجيبك هنا نطمن ... و الحمدلله كله كويس يا هانيا .. و اللي في بطنك بردو كويس ماجرالوش حاجة.
سمعت "هانيا" عبارته ، و بالأخص جملته الأخيرة ، و أحست كل مقطع منها يقع عليها كما الصدمة ..
رغم أن أحساسها آكد لها مسبقا ، لكن هذا التآكيد الموثق وترها بصورة مفاجئة ..
و هنا .. جاء صوت "دينار" المضطرب يقول:
-آاا طيب .. انا هـ هروح اسأل الدكتور نقدر نخرج بيها امتي يا توفيق !
و سارعت "رضوي" إلي القول بدورها:
-و انا كمان هروح اشوف مروان خرج علي فين !!
إنسحبتا في هدوء .. حتي تبقي "هانيا" علي راحتها و لا تشعر بالحرج في وجودهما ..
بينما جلس "توفيق" علي حافة السرير بجوارها ، ثم تنهد بعمق ، و سألها بنفس الهدوء و التفهم السابق:
-كنتي عارفة يا هانيا ؟ .. كنتي عارفة انك حامل ؟؟!
أجابته بصوت مبحوح ، و عيناها تدمعان:
-كنت حاسة !
لح عليه تساؤل ثقيل .. فقطب و هو يستفسرها في حيرة شديدة:
-ازاي ؟ ... ازاي قدرتي تحبيه للدرجة دي ؟ ازاي قدرتي تتقبليه و تقبلي تكوني حامل منه كمان ؟ .. ازااي يا هانيا ؟؟؟!
كانت ترتجف دون إرادة و قد لمستها كلماته ، فإنهمرت الدموع الغزيرة علي وجنتيها الشاحبتين الناعمتين و هي تقول:
-ماعرفش يا انكل ... ماعرفش .. انا حاولت اهرب منه كذا مرة ، حاولت انتحر كمان عشان اخلص منه .. حتي اني فكرت اقتله مرة قبل كده ... بس ماكنش بيسمحلي بأي حاجة من دول .. لا سمحلي اهرب ، و لا انتحر ... و لا انا جاتلي الشجاعة اني اقتله و اخلص نفسي منه ، و بدل ما اعمل كل ده .. فجأة لاقيت نفسي بحبه ، غصب عني يا انكل .. غصب عني !!
ثم أغمضت عينيها بشدة هربا من عينا عمها الحادتين ..
لكنه ظل قربها ، بل و أمسك بإحدي يديها المرتجفتين بكلتا يديه ، و طفق يردد بصوت رقيق و خفيض:
-طيب يا حبيبتي .. خلاص ، خلاص اهدي ... اهدي عشان خاطري ، كده هتتعبي اكتر !
تطلعت إليه صامتة لبرهة ، ثم توسلته بوهن:
-انكل توفيق .. انا عايزة ارجعله ، ارجوك يا انكل رجعني له .. انا مكاني معاه ، و دلوقتي بقي جوايا حتة منه ... مش هينفع اسيبه يا انكل !
كانت كلماتها ممتزجة بنيشجها المتقطع ، فخاطبها "توفيق" بلين و هو يربت بخفة علي خدها المبلل بدموعها:
-حاضر .. حاضر يا حبيبتي ، هعملك اللي انتي عايزاه .. بس تقومي بالسلامة من هنا ان شاء الله و كل اللي انتي عايزاه انا هعملهولك.
إنفتح باب الحجرة في تلك اللحظة بعد طرقة بسيطة ، و دخل الطبيب بوجهه الباسم ..
أقبل نحوهما قائلا بصوته الهاديء:
-مساء الخير !
ردا له سلامه ، فوقف عند مؤخرة السرير ، و إنتزع دفتر الملاحظات .. طالعه في سرعة و هو يقول:
-انشالله تكوني حاسة بتحسن يا مدام ... احب اطمنك وضعك مستقر خالص و مافيش داعي تقلقي ابدا ، و كمان البيبي بخير .. بس انتي ماكنتيش تعرفي انك حامل و لا ايه ؟؟
أجابته "هانيا" بصوت ضعيف متقطع:
-لأ يا دكتور .. ماكنتش اعرف ، كنت مشغولة اوي طول الفترة اللي فاتت و ماخدتش بالي كويس من نفسي !
أومأ رأسه متفهما ، ثم قال:
-عموما زي ما قلتلك وضعك و وضع جنينك مستقر ماتقلقيش .. و بالمناسبة ، هو عمره تقريبا 4 أسابيع .. فأهم حاجة في الفترة دي هي الراحة التامة ، يعني ماتبذليش اي مجهود من اي نوع ، مفهموم ؟؟
أومأت رأسها إيجابا و هي تمنحه إبتسامة هادئة .. و لا شعوريا ، إرتفعت يدها و تحسست بطنها في تعبير ممتن لسلامة طفلها ...***************************************
تناول "عاصم" من "زين" كأس الماء ، و إرتشف جرعة كبيرة ليزدرد حبة الدواء المسكنة ..ثم أعاده إليه فارغا و هو يهتف بعصبية:
-اديني هديت و اكلت و اخدت العلاج كمان ... ممكن بقي تعمل اللي قولتلك عليه ، اولا طقم الحراسة كله يتغير و تزود العدد .. تانيا كلملي المحامي دلوقتي حالا يلا !
وضع "زين" الكأس الفارغ علي منضدة الطعام التي أمامه ، ثم إلتفت إلي صديقه ثانية ، و بطريقة فاترة طغت علي حركاته و نبرة صوته ردد:
-اسمع يا عاصم .. انا شايف ان من مصلحتك المرة دي تنسي هانيا دي بقي و كفاية اوي اللي حصل ، انت لغاية اخر لحظة كنت محقق كل اللي انت اتمنيته .. خدت حقك و حق ابوك مرتين ، مرة من ابوها و مرة منها ، زائد كمان انا كنت ملاحظ انك عيشتلك معاها يومين حلوين الفترة اللي فاتت ..يتبع