كولِن
تساقطت قطرات دموع ساي على خطوط وجه جدّهِ، لا يئنّ، لا يشهق، هي مُجرّد قطرات، فلن يعلم أحدهم كما نعلم نحن بأنّهُ يُجهش في البُكاء الآن.
"لقد عُدت يا جدي.."
ما يزال العجوز يمُرّر يدهُ على تضاريس وجههِ، يستكشف بنفسهِ إن كان الطفل الباكي أمامهُ هو حُفيده حقّاً أم مجرّد هلوسة أخرى صنعها ظلام الكهف. أجفانهُ ثقيلة، أنفاسهُ مرهقة، جسدهُ واهن نحيل، ولكن في عينيهِ شيء من بريق الحياة، من عنادها وصلادتها، من قوّة بأس من لن يقبل موتاً لا شرف فيهِ. أغلق عينيهِ بهدوء بعد لحظات من الصمت، فرفع داي حاجبهُ يطلب منّي سحب ساي قليلاً ليتسنّى لهم إنهاء علاجهِ الطارئ. إلّا أنّ أخينا ذو الحواس اليقظة، وضع يد جدّهِ على الأرض وتراجع إلى الوراء طواعية ليجلس برسميّة من في حضرة سيّد. وبينما كانوا يُعيدون تنظيم ضربات قلب الجد وتثبيت علاماتهِ الحيوية بما يكفي كي نحمله، جلست أنا بجانب أخي صامتاً. رفعت يدي إلى أعلى ظهرهِ، مسّدتهُ، وقرّبت أكتفانا مُقتحماً مساحته الخاصة. هو ليس مثلي، ليس مثل أيّ شخص آخر والكلمات لن تؤثّر فيهِ مثلما ستفعل أفعالنا الآن، وهذا أقصى ما يُمكنني منحه إيّاه عندما يرى جدّه جلداً على عظم. أيمكنك الإحساس بذلك؟ أنت لا تمتلك شبحاً بداخلك كي أُنصت إليهِ، ولكنّني أؤكد لك بأنّني لن أدعك تشعر بالوحدة أو الخوف أو حتّى العجز وأنت هُنا تُجابه ماضيك وجهاً لوجه كما حدث لي في القصر. إنّني أعلم هذا الخوف، أعلم ألم كبته، لربما الجميع أيضاً ونحن في انتظار مُجابهة كلّ ما حاولنا الهرب منهُ. ولقاؤك بجدّك رماديّ فلا أحد يعلم إن كان ما يحدث لك الآن حُلماً جميلاً أم كابوساً.
تناهت أصداء أنفاس قوّية في الكهف، ابتسم ماتيو، ابتسمت رين، وأومأ لنا داي بأنّ كلّ شيء على ما يرام وما عادت حياة الجدّ في خطر.
ارتجفت شفتيّ ساي، طأطأ من رأسهِ، ثمّ بالكاد همس: "شكراً.. لكم.."
اتّسع ثُغر ماتيو أكثر مِمّا كان عليهِ: "جدّك أصبح جدّنا الآن، سيحيا رغم أنف أحقاد كِنشن"
أجهش في البُكاء مُجدّداً.
ساي
اطمأن قلبي ما إن أخذنا خطواتنا الأولى في الهواء الطلق. أشعر بأنّ حياة جدّي لم تعد في خطر ما إن تحرّر من الكهف كما لو أنّ شبح كِنشن كان يقبض على رقبتهِ في الداخل. إنّنا الآن في طريقنا إلى القرية، جيادنا بطيئة، أنفاسنا طويلة، وجدّي في حُضن ماتيو ساكن في نوم عميق. إنّها المرّة الأولى التي أراهُ فيها مُستغرقاً في الراحة هكذا، فتغزوني التساؤلات مُتتبعاً طريقنا المخفي بين ازدحام جذوع الأشجار العظيمة فوق الجبل، أكان جدّي مُطمئناً في لحظة ما في حياتهِ؟ ما الذي كانت عليهِ حياتهُ؟ ما الذي أعلمهُ عنه أساساً..؟ عرفتهُ رجلاً صامتاً وقاسياً على نفسهِ، ولم أتساءل علانية حوله أبداً. إنّهُ يفعل الصواب، لا داعي لطرح الأسئلة واللّغو في المُسلّمات. التدريب، التسلّل، إنهاء المهمّة ثمّ العودة إلى التدريب.. كلّ ما كان يُشكّل حياته هو العمل.
أنت تقرأ
المفقود
Historical Fictionالمفقود حكاية عن ذلك الفتى الصغير الذي لطالما آمن بوجود دفء عائلتهِ إذا ما بحث عنه جيداً، إلّا أنّ الحياة تعلّمه أنّ الفرق بين الآمال والواقع قد يؤدي إلى هلاكهِ. فتبدأ حكايته وحكايات العديد من الشخصيات التي سترى النور بوجودهِ، لكن هل هو بالفعل لا يم...