119 وطن

3.8K 257 939
                                    

جيني

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

جيني

أخذ سموّ الأمير نفساً طويلاً أدخل خلاله أكبر قدر من الهواء إلى صدرهِ، أطبق على نفسهِ بضع ثواني، ثمّ زفرهُ حتّى أفرغ جوفهُ تماماً. كرّر ذلك عدّة مرّات مُتشبّثاً جيّداً بسور متن السفينة. الظلام دامس والبحر هادئ بسطح أملس، سلام مُخيف لن يتواجد إلّا هُنا عند منتصف المسافة بين القارّتيْن. لقد لاحظتُ على سموِّه حُبّ تعزيز حواسهِ في غمرة توتّرهِ، يلتمس انسياب الهواء والماء والأصوات إلى دواخلهِ في عمليّة تكاد تكون صلاةً. فيركن، ويهدأ، وينغمس في حزن قريب من أن يكون استسلاماً. لقد قرّرنا مُتابعة الغوص في ذكرياتهِ في طريقنا إلى المملكة كي لا نُضيّع الوقت، وواظب سموّهُ على ذلك كلّ ليلة فأضناه ذلك وأوهنه. ليس ذلك بالغريب، من يستطيع احتمال رؤية نفسهِ يُقتل يومياً؟

تمتم: "سحقاً.. من السخف ألّا أستطيع احتمال مُجرّد ذكريات"

"لا تقسو على نفسك، عليك أن تستوعب بأنّك تُجبر نفسك على فتح جراح لا تعلم سببها"

اقترب منّي حتّى ثبّت جبهتهُ بجبهتي، قائلاً بصوت يُشبه الهمس: "واسيني إذن.. أنتِ تعلمين كيف تفعلين ذلك"

تخطّيتهُ قبل أن يُفكّر بالقبض عليّ مُشيرة إلى المُحيط: "جولة مع الحيتان؟"

ارتفع صوت قهقهتهِ، "هيّا بِنا إذن!"، حملني بكلّ سهولة، ثمّ اتّكأ على السور يُراقب الظلام أسفلنا. أنا في حالة حيرة فنحنُ بحاجة إلى قارب حتّى نستدعي حيتانه، مُراقبة المُحيط لن تفعل شيئاً فالأجواء هادئة. ولكنّ سموّه قد تخطّى توقّعاتي، كالعادة، وقفز مُباشرة إلى الأسفل. اعتقدت بأنّني قد غرقت ومتُّ بالفعل، ولكن لدهشتي لم أكن مُبلّلة بقطرة واحدة حتّى.

"سموّ الأمير.. ما الذي.. أتمشي على الماء؟!"

"ما رأيكِ؟ إنّني أغيّر من تركيبة الماء أسفلنا للتصلّب عند موضع قدمي فقط!"

"من أين واتتك هذهِ الفكرة؟"

"تعلّمتُ ذلك من كهنة يامابوشي، تدريبهم يُمكّنهم من فِعل أمور جنونيّة ولن أستغرب يوماً إن تمكّنوا من الطيران"

سرّع سموّهُ من خطواتهِ بل وجعل الأمواج تحملنا تراقصاً في انحناءاتها. قد تكون هذهِ حفلتنا الراقصة الأولى. وصلنا أخيراً إلى النقطة حيث لا شيء يُشعّ حولنا سِوى النّجوم أعلانا. وفي بِضع لحظات هيّأت فيها نفسي جيّداً لأيّة مُفاجأة، نفثت مجموعة حيتان المياه حوّلنا مُشكّلة نوافيراً عظيمة. ارتفعنا من فوق سطح المُحيط ما إن حملنا حوت ضخم، فأخذ سموهُ مقعداً، حرص جيّداً على لمّ ردائي الإمبراطوري الأبيض في حضنهِ كي لا يتبلّل، وضمّني عميقاً في صدرهِ. أرخيتُ ذراعيّ حول رقبتهِ نزولاً إلى ساعديْهِ، واسترخيت. شدّني إلى داخل صدرهِ: "غنّي.. أرجوكِ.. أريحيني بصوتكِ.. خلّصيني من كلّ الدماء في عقلي". سكنت جميع الحيتان من حولنا. تراءى لي سماع نغماتها الحادّة والمُمتدّة من أسفل المياه صعوداً إلى السطح هزّات صوتيّة مُتتالية، فاستنشقتُ الهواء مُحاكيةً تنفس سموّهِ العميق قبل قليل، وغنّيت. أستطيع الشعور بنفسهِ يتباطأ، وبقلبهِ يقرّ، وبجفنيْهِ يهويان في سبات يسمح لأذنيهِ بامتصاص الذبذبات الموسيقيّة منّي، من الحيتان، من الفضاء المنعزل الذي لا يملؤهُ سِوى الغناء.

المفقودحيث تعيش القصص. اكتشف الآن