صباح يوم الاثنين هو دائماً الصباح المفضّل الذي يتشوّق له، يجلس بعفوية على مائدة الطعام الخشبية ويراقب باب بيتهم بتمعّن شديد. تجاوزت عقارب الساعة الثامنة، هل التأخير هي سمة مطلوبة عند رجال البريد؟ كم كره تحرّك العقرب الكبير للساعة بعيداً عن المواعيد المحددة وتثور ثائرتهُ إذا ما بدأ العقرب الصغير بالتحرك أيضاً. وأخيراً وبعد سبع دقائق طرق رجل البريد باب بيتهم فوثب من كرسيّه وانطلق مهرولاً ليفتح الباب.
"صباح الخير، لديّ طرد للسيّد داي شولياك، هل يمكنك أن تناديه أيّها الفتى؟"
"أنت تحدّثه الآن سيّدي رجل البريد المتأخر"، كان حاجبي داي مرفوعين للأعلى وعينيهِ العسليّة تثقب رجل البريد بنظرات امتعاض مما جعل وجه الرجل ينقبض بغضب.
"عذراً على التأخير ولكن هذا الطرد مرسلٌ من مؤسسة الطب والتشريح في العاصمة، لم أتوقع أنّه مرسل لطفلٍ متعجرفٍ بالعاشرة"، ابتسم داي للرجل ابتسامة تخلو من براءة الأطفال بينما كان يوقع على الأوراق المطلوبة.
هرول داي مسرعاً إلى حديقة بيتهم الخلفيّة ودخل إلى مبنى صغير يحتوي عدة غرف متقابلة حاملاً الطرد المستطيل كريه الرائحة. فتح باب آخر غرفة في الرواق ثمّ فتح نوافذها وتسلّق كرسيّه المرتفع وجلس يفتح الطرد المملوء بالثلج متحمّساً. كانت الرائحة لا تطاق إلّا أنّه لم يهتم كثيراً، فما هو أروع من أن يرى جثّة سنجاب برّي برأسين! كانت عيناه تتفحص الحيوان الميّت بعناية مطلقة، إنّها الخطوة الأولى قبل الشروع بتشريح أيّ شيء. أستلّ قلمه وبدأ بالكتابة على دفترهِ الكبير كلّ ما تراه عينه وتلاحظه، وكل ما يشتمه أنفه وأيضاً كل ما يتوقع قد حدث لهذا السنجاب كما يراه.
كان تركيز داي منصبّاً على السنجاب لدرجة عدم ملاحظتهِ دخول أختهِ التوأم الغرفة نصف ناعسة تشدّ على قميصهِ لينتبه عليها، لم يستجب لها، أكمل الكتابة وكأنه وحيدٌ في الغرفة فزادت قوّة شدّها على قميصهِ.
"ماذا تريدين هالي؟ انني مشغول الآن"، لم يكن ينظر إليها، ثمّ أدرك أنّه لن يعرف ماذا تريد من دون إشاحة نظرهِ عن السنجاب، فالأخارس لا يستطيعون الكلام. نظر إليها فرأى انعكاس عينيهِ العسليّة، وبشرته البرونزية الخفيفة، وشعرهُ البنيّ المموج والطويل لأذنيه فيها، انعكاس اعتاد رؤيته منذ ولادتهِ. متطابقان في الشكل، مختلفان في الصميم والكيان والحظ أيضاً. فهو قد ورث عن والديهِ باحثيْ الأحياء عيناً ثاقبة وسمعاً حاداً يمكّناه من ملاحظة وسماع نبض الكائنات الحيّة من دون لمسها، بينما لم ترث هي شيئاً من ذلك وولدت بلسان معوّق لا يستطيع الكلام وجسدٍ ضعيف كثير الارتجاف لا يستطيع إعانتها على تدبير أمور حياتها بنفسها من دون مساعدة. كانت هالي قد اعتادت الرائحة الكريهة للجثث مما ترك يداها حرّتان ترقصان في الهواء موضّحة لأخيها أنّ والديهما لم يعودا من البلدة بعد، وهي تتضور جوعاً.
أنت تقرأ
المفقود
Ficção Históricaالمفقود حكاية عن ذلك الفتى الصغير الذي لطالما آمن بوجود دفء عائلتهِ إذا ما بحث عنه جيداً، إلّا أنّ الحياة تعلّمه أنّ الفرق بين الآمال والواقع قد يؤدي إلى هلاكهِ. فتبدأ حكايته وحكايات العديد من الشخصيات التي سترى النور بوجودهِ، لكن هل هو بالفعل لا يم...