الفصل الثاني والخمسون" الجُزء الأول"

3.6K 196 25
                                    

تائهة في سرايا صفوان
الفصل الثاني والخمسون
"الجُزء الأول"

**********************************
طالعتهُ بامتنان شديد وشكر، وهي تجاورهُ بسيارتهِ بعد أن قضت هذا اليوم بالكامل في الخارج، حتى الساعة الثالثة والنصف ليلًا.
مدت يدها تمسك بكفهِ الذي يضعها على قدمهِ، فطالعها متسألًا، لتهتف بحب:
_شكرًا يا هيما، على اليوم الجميل دا،... حسيت اني طفلة عندي عشر سنين معـ..آآ.... مع بابها....
ابتسم ورفع يدهُ، بعد أن التقط كفها يُقبلهُ، وهو يبطئ من سرعة السيارة، مردفًا بعتاب مازح:
_مفيش شكر بيني وبينك يا قمر، انتِ مراتي يا حبيبتي، يعني واجب عليا أعمل اي حاجه انتِ عيزاه وبتحبيها، انتِ ست عندك اربعة وعشرين سنة، مش طفلة عشر سنين، وأنا جوزك مش ابوكي، عايزك تتعودي عليا كدا، حبي ليكي، عمره ما هيكون أبوي، عشان الأب بيحب بدون مقابل،...انما انا الصراحة طماع وعايز مقابل....
انهى كلماتهُ غامزًا لها، فأشاحت وجهها، قائلة بسخرية زائفة:
_مادي مادي يعني...
ثم أمسكت حقيبتها، وهمت بفتحها وهي تقول بتعالي:
_قول عايز كام، معايا 400 جنيه.... وخداهم منك،..
ارتفع صوت قهقتهُ عاليًا، وكاد أن يُعقب على حديثها، الا انهُ عقد حاجبيهِ مستغربًا، عندما رأى سيارة وليد تنحرف نحو طريق المشفى، الذي يعبر من عندها عندما يذهب لبيتهم.
هتف قائلًا بتعجب:
_وليد، بيعمل ايه الساعة دي هنا..!، دا طريق المستشفى..!
طالعتهُ بقلق مُقترحة:
_معقول سُمية جرالها حاجه..!
تجعدت ملامحهُ بعدم معرفة، ثم سارع من سرعة السيارة خلف وليد مردفًا لقمر:
_مش عارف، هطلع وراه لحسن يكون في حاجه ومحتاجني...
بالفعل، توقفت سيارتهُ، أمام باب المشفى، وهبط منها سريعًا هو وقمر المزهولة وهي ترى وليد يحمل ابنة خالها على ذراعيهِ، وملابسهِ ملوثة بالدماء.
انطلق وليد نحو قسم الطوارئ سريعًا، فركض إبراهيم ممسكًا بكف قمر معهُ، راكضين خلف وليد الذي سارع بوضها على سرير طبي، وهو يقول بصوتٍ عالي غاضب:
_ناادو دكتوور بسرعاااة، مرااتي بتروح منيييي....
تيبست قمر مكانها عندما استمعت لصراخهِ، وساورها القلق نحو زهرة، جذبها إبراهيم وتابع سيرهم، فسارت معهُ.
انتقلت لغرفة الكشف سريعًا، وأتت الطبيبة ليلى لترى ما حدث، وقف وليد بالخارج يزرع الرواق ذهابًا وايابًا بخوف وقلق يكاد يقتل قلبهُ.
اقترب منه إبراهيم بحزن، وسارع من احتضانهِ، فألقى وليد رأسهُ على كتفهِ، مردفًا بحزن وصوتٍ خائف يشعر بالخواء داخلهُ:
_خايف عليها اوي، لو جرالها حاجه هموت وراها يا إبراهيم، دي حياتي كلها...
ربت وليد بيدهُ على ظهر وليد بقوة ومساندة، هاتفًا:
_ هتخرج وتقوم بسلامة، وتكون كويسة ان شاء الله، هي وابنك هيكونوا بخير اطمن، وتفائل في ربك خير....
اقترت قمر باكية، وهي تقول بأمل:
_ هتكون بخير، انا عارفه زهرة قوية رغم كل الظروف...
ابتعد عن إبراهيم، ليسمح لهُ بمساندة قمر أيضًا، فاقترب من قمر مُحتضن اياها يربت على ظهرها وكتفها بحنو.
لحظات مرت على وليد كالسنين، قدمها تسير ذهابًا وايابًا بقلق وخوف، انفتح باب غرفة الكشف فاجأة، وخرجت أحدى الممرضات تهرول، فهم وليد بالحاق بها، لكن خرجت الطبيبة تنوي الذهاب باستعجال، فاوقفها وليد قائلًا بحزم ونبرة قلقة للغاية:
_ايه الـ حصل، زهرة جرالها ايه...!!!
توقفت الطبيبة متنهدة بحزن، قائلة بعملية:
_زهرة هانم حالتها خطرة يا وليد بيه، لازم نطلع بيها على العمليات فورًا، عشان نحاول ننقذها....
ثم سارعت بالذهاب، لتبدأ بتجهيز نفسها للعملية، شهقت قمر بفزع عندما استمعت لما قالتهُ الطبيبة، وبكت، بينما وليد فقد شعر انهُ سيسقط أرضًا، وهناك نغزة قوية، وقبضة تعتضر قلبهُ، لولا إبراهيم لكان تهاوى أرضًا وهو يشعر بقدميهِ رخوة.
سارع إبراهيم بإسنادهِ قبل أن يقع، هاتفًا بمأزرة:
_أثبت يا وليد، هي محتاجلك بعد ما تفوق ان شاء الله، ادعي ربنا وثق في بس، ومتخافش، هتكون بخير صدقني، بس لازم تكون قوي، عشان انت مصدر كل حاجه في حياتها...
شجعتهُ كلمات إبراهيم على الثبات قليلًا، واستجاع قواه، كي ينتظرها بعد أن تفيق، يجب ان تستيقظ تراهُ قوى بجوارها كما اعتادتهُ.
انفتح الباب وخرجت هي تنام على السرير، ويجرهُ ممرضين اثنين، كانت عينها مفتوحتان بوهن، فسارع وليد نحوها يمسك كفها، يُقبلهُ بعمق وقوة، ثم مسد على رأسها، المغطاة بقبعةٍ زرقاء، مردفًا بألم:
_ أنا آسف يا زهرة، أنا آسف يا حبيبتي...
ابتلعت ريقها قائلة بألم، وكأنها تُخرج الكلمات من رحمها:
_أآآ، أنا خايفه...
عاد يُقبل كفها بحب، ثم هتف بنبرة مرتجفة:
_ما تخفيش ها، انتِ انتِ قوية، وهتخرجي زي الفل، هتكوني كويسة صدقيني...
مدت يدها الأخرى نحو بطنها ببطئ، وتعب، ثم هتفت بخوف:
_خايفه،.... يكون.. راح..!
رفع يدهُ نحو يدها المُحيطة ببطنها، يضغط عليها برفق وليد، قائلًا بحزن داخلي، ونبرةٍ أمله:
_حتى لو يا زهرة، ان شاء الله ربنا يرزقنا غيروا،... صح...
ابتلعت ريقها بحزن شديد، وأومأت موافقة، فعاد الممرضين يشحذو السرير نحو غرفة العمليات بالأعلى، ووليد يسير معهم، ممسكًا يد زهرته.
سار إبراهيم وقمر خلفهم ايضًا، وقمر تدعو الله أن يمر كل شيء بسلام وعلى خير.
تم تجهيز غرفة العمليات لها، وتجهيزها ايضًا، تقدمت ليلى من غرفة العمليات فأوقفها وليد قائلًا بحدة:
_أنا أهم حاجه عندي زهرة دلوقتي، عايزها تطلع سليمة بأي شكل...
أغمضت ليلى عينها بهدوء تُطمئنهُ، هاتفه:
_ بإذن الله حياة زهرة هانم هنقدر نسيطر عليها، انما الجنين فالصراحة مقدرش أجزم أنوا ممكن يعيش...
تنهد وليد بألم يقبض عنقهُ، ثم سمح لها بالذهاب، فتحركت ليلى نحو غرفة العمليات، وهي ترفع القناع على وجهها، راسمة للجدية على ملامحها، والأصرار على انقاذ حياتها، وايضًا حياة الجنين....
مرت ساعة كاملة، وليد يقف أمام الغرفة يستند على الحائط بجوار الباب، بحزن جمّ وخوف وقلق غير قادر على استيعاب ما يحدث، لا يعلم هل يغضب منها لأنها قد قصرت في حق نفسها، أن يغضب من نفسهِ لأنه السبب بهذا، وما أصابها.
انفتح الباب، فسارع ثلاثتهم بالأقتراب منها، وهتف وليد بلهفة:
_ها يا دكتور، طمنيني زهرة بخير..!، كويسة..!
أومأت قائلة بسرعة:
_هتكون كويسة، بس ادعولها، دلوقتي محتاجين نقل دم فورًا لأنها نزفت كتير، وفي أمل كبير الجنين يعيش...
تهللت أسارير وجوهم جميعًا، فأحتض وليد وجههُ بسعادة وفرحة، ثم تطالعها قائلًا:
_أنا هتبرع ليها، فصيلة دمي -O...
أومأت قائلة بموافقة:
_اوكي فصيلتك ممكن تتبرع لأي فصيلة بس محتاجين كم كبير...
_خدي مني الـ تعوزيه...
سارع إبراهيم قائلًا:
_هي فصيلتها اي..!
_BA-
أومأ هاتفًا:
_أنا فصيلتي -B ممكن اتبرعلها...
ابتسمت قمر مُجيبة أيضًا:
_وأنا -A برضوا، ممكن اتبرعلها أنا كمان...
تنهدت ليلى بارتياح قائلة:
_تمام كويس اوي كدا، اتفضلوا مع الممرضة وهتاخد منكوا الدم الـ هنحتاجه....
طالعهم وليد بامتنان حقيقي، واختضن ابراهيم مردفًا بشكر:
_مش عارف اشكرك اذاي يا صاحبي...
ضربهُ إبراهيم على كتفهِ برفق، مرفًا بعتاب:
_تشكر ايه يا بني،.. انتَ ناسي ان دمك بيجري في عروقي ولا ايه..!،جه الوقت الـ ارجعهولك عشان ما تزلنيش عليه..
اتجه ثلاثتهم نحو الغرفة التي سيتبرعون بها بالدم، وتقدم وليد وإبراهيم، وقد رفض وليد أن يأخذ من قمر حتى لا تمرض، فعارضت كثيرًا، الا انهُ قال:
_صدقيني احنا هنكفي الغرض، ولو احتاجنا تاني أنا موجود يا قمر، عشان متتعبيش...
كان إبراهيم بالفعل رافضًا بأن تتبرع قمر، لأنهُ يعلم انها مصابة بالأنميا،...ليست حادة!! لكن خاف عليها، ليست أنانية، فهو موجود ولن يعارض على أي كمّ يأخذونهُ منهُ.
انتهت الممرضة من سحب أربعة أكياس، اثنين من وليد واثنين من إبراهيم، ثم اتجهت نحو غرفة العمليات، فوقف وليد ليذهب لزهرة، الا انهُ شعر بوار شديد يعصف بهِ، فسارعت الممرضة الموجودة بالقول معنفة:
_بتعمل ايه يا فندم، غلط كدا، هتدوخ وتقع، واحتمال تحصل مضاعفات،.. لازم تشرب حاجه مسكرة الأول...
ثم مدت يدها لهُ بعلبة عصير، وأعطت واحدها لإبراهيم الذي فتحها وشربها سريعًا، بينما اعترض وليد فهو حقًا، لا يشعر بأي نفس لتناول أي شيء.
وقف إبراهيم براحة، متحدثًا بضيق:
_وليد، لازم تشرب، عشان لا قدر الله ما يحصلش ليك حاجه، وقتها اقسم بالله هخلي الدكتور يديك منوم عشان ترتاح، ومش هتكون مع زهرة لما تفوق،.. انت حر...
بالفعل، زهرة تحتاجهُ الآن يجب عليهِ ان يفعل أي شيء حتى يكن بجوارها، ولا يمرض، اخذ علبة العصير من الممرضة، وفتحها وشربها سريعًا، ثم انتظر لحظات قليلة شعر بها أنهُ أفضل، وانطلق نحو الغرفة التي تجري بها العملية.
مرت ساعة أخرى وقد تأزم الوضع، ولي يشعر وكأنهُ على حافة الأنهيار من الخوف والقلق، قمر تجلس باكية على أحد المقاعد، وإبراهيم يساند قمر مرة، ووليد مرة.
اعتدل في وقفتهِ، ثم هتف بحزن:
_هنزل أعمل حاجه وجاي علطول...
ولم يترك لإبراهيم فرصة السؤال، وانطلق نحو الممر الذي ينتهي بالمصعد، استقلهُ ثم هبط بهِ للأسفل.
خرج من المشفى، ثم دار بعينيهِ في الشارع، حتى وقعت عينها على ما يبحث ماكينة الصرف المالي، اتجه نحو سيارتهُ يسحب الكارت الخاص بهِ، ثم اتجه محو ماكينة الصرف، وأدخلها ثم كتب الرقم السري سريعًا، وسحب مبلغ عشرة ألاف منها.
أخذ المبلغ، ثم عاد نحو السيارة، صعد بها وقادها مُنطلقًا، للطريق الرئيسي.
كان يهبط من السيارة عند أي مسجد بالطريق، يضع بعض الأوراق المالية في صندوق الصدقات بنية شفاءها هي وابنهِ الذي لم يظهر لدنيا بعد، وعودتهم لهُ سالمين.
انتهى من توزيع المال على بعض المساجد والمصليات في المناطق النائية.
لمح في طريقهِ فتاة صغيرة بعمر العاشرة، تجلس وأمامها سلة مليئ ببعض الفواكة الغير طازجة والتي تبدو أنها زابلة أيضًا،.. تصلح طعامًا لدواجن فقط.
هبط من سيارتهِ مقتربًا منها وهو حقًا مستغرب من مكوثها هكذا قرب الفجر، وقف امامها وانحنى لها مردفًا:
_بتعملي ايه في الوقت دا يا حبيبتي، وفين بيتك...
كانت تتثاءب تعشر بنعاسٍا شديد، ولكن حلما وقف وليد أمامها، فتحت جفونها سريعًا وأجابت ببراءة:
_والله يا بيه انا كنت نايمه، بس الواد عبدو اخويا سوخن وامي قالتلي حطي الأصعه بتاعت الفاكه يمكن حد يشتري حاجه، وتطلع تجيب دواء لسخنيه، أصل عليها عشره جنيه لدكتور فضلي، وهي محرجه تجيب شكك، فعشان كدا صاحتني بقى... وبيتنا اهو،.. قاعدين هنا...
ثم أشارت خلفها نحو مدخل تلك البناية المتهالكة، فابتسم وليد رغمًا عنهُ على طفولتها، ثم هتفت تلك الفتاة، وهي تجذب كيسًا بلاستيكٍا رقيق، وهتفت برجاء:
_اعبيلك حاجه يا بيه تاخدها لست هانم مراتك، ولا لعيالك،... دي فاكه طازه يا بيه والله، انتَ مفكرني بكذب،... حتى بص...
ثم جذبت، ثمرة موز بسعادة وقامت بإزالة قشرتها، التي تتجمع بها بقع سوداء كثيرة، تنم على ذبولها حقًا وانها كاذبة، وسرعان ما التهمتها بشراهة شديدة، تتذوق طعم تلك الثمرة التي لا تأكلها الا خلسة من وراء أمها..
_بت يا زاهرة، جاتك ضربة في سنانك يالي تتحش وسطك يا بعيدة....
انتبه وليد أولًا على اسمها الذي دق لهُ قلبهُ، ثم فزع تلك الصغيرة التي تُشابه اسم زوجتهُ، وهي تسعل تحاول بلع ما مضغته من الثمرة، وامها مقبلة عليها تعنفها قائلة بغضب:
_انا مقعداكي عشان تبيعي ولا تطفحي يا بهيمة انتِ...
وقفت زَهرة وطالعت وليد ثم امها ببراءة، مردفه:
_البيه قالي دوقها عشان يتأكد انها كويسة،.. مش صح يا بيه..!
ابتسم وليد على براءتها تلك، ثم لا أراديًا أومأ موافقًا، فالتمعت أعين والدتها بسعادة، وهي تخطف الكيس البلاستيكي من يد زَهرة، قائلة وهي تنحني تجمع الفاكهة من السلة، قائلة:
_بصحيح يا بيه، اعبيلك ايه..!، موز ولا تِفاح ولا بُرتجان،.. في فراولة عندي جوا، اجبلك يا باشا..، كل كيلوا من دا بعشرين جنيه...
رجع وليد للخلف كي يذهب لسيارتهُ، فاعتدلت والدة زَاهرة، قائلة بخوف من أن يذهب دون ان يشتري، مردفه:
_طب خدهم بخمستاشر طيب..!، يا بيه..!!، طب بتلاتشر ومش هنزل اكتر من كدا..!!!
دلف وليد سيارتهُ، يبحث عن أي مال تركهُ، بها، فلم يجد سوى ورقة من فئة المئتين، فأخذها بحزن، ثم هبط من السيارة واقترب منهم، فلمعت عين المرأة بسعادة، وهي تقول:
_ها يا بيه، أعبيلك ايه..!
تقدم وليد، منها، قائلًا:
_عايز كيلوا فراولة بس...
اختفت المرأة في الداخل، فطالعتهُ زَهرة قائلة بأعين متسعة:
_يا لهوي يا بيه لو كنت قولتلها اني كدابة، لكانت بركت عليا وشبحتني ضرب... دي ايدها شبه المرزبة يا بيه والله...
ابتسم وليد عليها، كم هي بريئة وطفولية للغاية، سألها لي أي صف دراسي، فحمحمت مردفه، بضيق:
_مش بروح يا بيه،.. على فكرا بقى انا هقول للأمي انزل ابيع اي حاجه في الأشارة، واقدم في المدرسة، البت صابرين بنت حمادة البقال، كل شويا تمشي من قدام مني وتبصلي وهي متفشخرة بالشنطة ولبس المدرسة...
ضيقت عينها بوعيد مردفه:
_ والـ خلق الخلق، لما تنزل بكرا عشان الجمعة، بالعجلة بتاعتها لمفسيه الكوتش، وهقولها امك بتجيب الهدوم من سوق الجمعة، وقدام صاحبها عشان ما تبصليش كدا تاني...
ابتسم عليها بخفوت، ثم دنى ممسدًا على شعرها الأشعث بحنان قائلًا:
_لاء يا زَهرة، مينفعش نعمل كدا، عشان هتبقى زعلتيها واحرجتيها، قدام صاحبها وممكن ما تعرفش تكلمهم تاني...
_ الله يا بيه..!، مهي بتيجي قدام الفرش وانا قاعده تقعد تلقح بالكلام قدام الزباين، لا يا بيه وعرش ربنا لمفسيه الكوتش بتاعها، وهقولها امك بتجيب الهدوم من سوق الجمعة...
هز رأسهُ بيأس عليها، وأتت هُنا والدتها، تحمل كيس الفراولة، مدتهُ لوليد فأخذهُ منها، ثم مدّ يدهُ بالورقة المالية، فالتمعت عينها بسعادة، لكن عادت تغم حزنًا وهي تقول:
_ لا مؤخذة يا بيه، مش معايا فكة والله...
_مش عايز الباقي يا ام زَهرة، ادعي لزهرة مراتي بس تقوم بسلامة...
قبضت على الورقة بين يديها بسعادة، ثم رفعت كفيها قائلة بفرحة ودعاء:
_روح إلهِ وانتِ جاهي وسامع مُنداتي، يشفي مراتك ويقومهالك بالسلامة، ويرزقك الخلف الصالح، قادر يا كريم...
أومأ مبتسمًا بفتور، ثم ابتعد عنها، ولم يضف كلمة واحدة، اقترب من سيارتهُ، استقلها، ثم بدأ بقيادتها مبتعدًا عن المكان.
فتحت والدة زَهرة كف يدها، لترى المال بينهم، فتنهدت بسعادة وراحة بال، قائلة:
_روح يا بيه ربنا يعلي مراتبك، ويقوملك مراتك بالسلامة....، اما اروح ادفع لدكتور فضلي الفلوس، وينزل يديني الدوا للواد، يا رب بس يرضى يقوملي...
هتفت أخر كلماتها داخل عقلها برجاء، فهذا الوقت المتأخر من الليل، وقد أغلقت الصيدلية، ومن الصعب الأتيان بالدواء في الوقت الحالي.
********************************
يركض في الرواق المؤدي لغرفتها، بعد أن هاتفهُ إبراهيم بأن العملية قد انتهت، دقات قلبهِ تتسارع، وتدق كالطبول.
وقف أمامهم، فسارع إبراهيم نحوهُ، قائلًا بابتسامة واسعة:
_الحمدلله، العملية خلصت، وزهرة وابنك بخير....
احتضن وجههُ بكفيهِ بسعادة جمة، ساحبًا نفس عميق يهدئ بهِ قلبهُ، وأخيرًا شق ثغرهِ ابتسامةٍ سعيدة للغاية، لم يدري بنفسهِ سوى وهو يحتض إبراهيم بشدة وحب، فربت إبراهيم على ظهرهِ مردفًا بسعادةٍ:
_ربنا يقومهالك بسلامة هي وصفوان الصغير...
فُتح الباب، وخرجت ممرضتين يسحبان سرير زهرة وهي عليهِ نائمة، فركض نحوها سريعًا بعد أن أشار لهم أن يتوقفوا.
دنى منها، يُطالع وجهها الشاحب بحزن، ثم قبْل رأسها، هاتفًا بحزن:
_لو قادر الـ فيكِ يجي فيا بس..!
ابتعد أنشاتٍ بسيطة، ثم أردف:
_أنا معاكِ، ومش هتحرك لحد ما تروحي معايا، انتِ عارفه مش بعرف انام من غيرك...
اعتدل بوقفتهِ، ثم هتف للمرضات:
_هتودوها فين..!
أومأت أحدهم مردفه:
_العناية يا باشا، عشان تكوت تحت رعايتنا أكتر، بس هي الحمدلله كويسة، والدكتورة ليلى طلبت تشوفك...
سار معهم حتى نقلوها غرفة العماية لتكن تحت عناية أشد، وبالطبع لأنهُ مالك المشفى، فكل طلباتهُ مُجابه، لهذا أمرهم بوضع مقعد خاص لهُ في الغرفة، ليكن بجوارها حتى تخرج.
اطمئن إبراهيم وقمر عليهم، وقد أصروا أن يظلا هُنا الا أن وليد أرغمهم على الذهاب، حتى يكونوا مستعدين لمجاورة أحمد وماتيلدا في يومهم.
**********************************
صباحًا، ومن كثرة أرهاقهِ، غلبهُ النوم بجوارها على مقعدهُ، بعد ذعب لطبيبة ليلى، وعاد يحلس بجوارها يتحدث معها لساعتين كاملتين.
تجعدت ملامحها بألم، وهي تفتح جفونها، ثم سارعت بأغلاقهم، وهي تتنهد في قناع الأكسجين، حاولت سحب يدها، لتزيل القناع عن وجهها، وهي تأن من ألم المحلول الموصل بيدها.
وأخيرًا بعد عناء، نجحت في إزالتهُ، فتنفست بعمق، ثم طالعت ما حولها، لتستقر عيناها عليهِ يغفو على المقعد بطريقة غير مريحة للغاية.
همست اسمهِ بضعف لعلهُ يسمعها، لكن همستها لم تخرج سوى تحريك شفتيها باسمهِ فقط.
طالعت الكومود، وألقت بصرها على زجاجة الدواء وهي محتارة في أن تُقعها ليستيقظ، أم تتركهُ ولا تُفزعهُ.
استقرت اخيرًا على أن تتركهُ، مدت أصابع يدها ببطئ شديد نحو بطنها من الأسفل بحزن، لا تعلم ماذا حدث لها ولهُ، خشيت فقدانهُ بشدة، فأغمضت عينها باكية بصمت وسكون.
ألمهُ عضلات ظهرهِ بشدة، من تلك الجلسة الغير مريحة أطلاقًا، فتح عينها بخفوت، متنهدًا بألم من جلستهِ.
انتبهت مسامعهِ لصوت، أنينها الخافت، فألقى عليها نظرةً، ليجدها قد استيقظت وتبكي.
وقف مقتربًا منها بلهفة يمسك كف يدها بحنان، هاتفًا:
_زهرة، حبيبتي انتِ كويسة، بتبكي ليه طيب..!، زهرة،.. هنادي الدكتور فورًا...
همست بصوتٍ واهن منخفض، قبل أن يبتعد عنها:
_لـ...اء..
عاد، ودنى مقبلًا جبهتها بعمق، حامدًا ربهُ على سلامتها، ابتعد مطالعًا اياها بحب وحنين، فهمست بألم:
_سـ..قط..!
ابتسم قائلًا، وهو يمسد على بطنها بخفوت:
_لاء الحمدلله،...
مال مُقبلًا بطنها، ثم نظر لها هامسًا:
_انتوا الاتنين بخير...
أغمضت عيناها براحة متنهدة بسعادة،ما لبثت أن انمحت، وحل محلها الحزن حتى بكت وهي تتذكر انها السبب في تهديد حياتها وحياة طفلهم.
اندهش من بكاءها بعد أن سيطرت على ملامحها السعادة، ما بها الآن!، اقترب من رأسها، ماسحًا دموعها برفق، مردفًا:
_بتعيطي ليه طيب..!، موجوعة..!، زهرة..
همست وهي تتظر لهُ، بحزن:
_أنا السبب،... لو... لو كنت خدت البرشام،... مـ..مكنش حصل دا ..كلوا...
_قدر الله ما شاء فعل يا زهرة خلاص،.. انتِ وهو بخير ودا المهم يا حبيبتي...
لم يشأ ان يخبرها أن الدواء لا علاقة لهُ بهذا، حتى تضع أمر دواءها نصب عينها، وانهُ ان اهملتهُ ستصيبها هي وطفلها بسوء، تنهد منذكرًا حديثهُ مع الطبيبة أمس
"عودة بالوقت.."
تابعت قولها بعملية بعد أن طمئنتهُ على صحة زهرة وطفلهُ:
_بص يا وليد بيه، بعد الـ حضرتك قولتوا، تأخرها في دوا دا مقصرش اطلاقًا عليها، انا متأكدة، انها عملت حاجه شاقة عليها جدًا، وممكن ضغط عصبي كمان..!، يعني حضرتك بتقول انها مكنتش تعرف بموضوع مرضها دا، فهي لما عرفت اضايقت جامد اوي بدليل أنها رمت العلاج، بس الغضب دا.. برضوا ميخلاناش نقل انوا كان هيسبب في أجهاضها، هي عملت مجهود كبير، يعمي شالت سجاد تقيل اوي، سيئت او مسحـ..
قاطعها وليد رافضًا:
_زهرة مش بتعمل اي حاجه من دي اطلاقًا...
مطت شفتاها بتعجب، ثم هتفت مقترحة:
_بتروح چيم...!
شرد لحظات، ثم قال:
_انهارده كان اول يوم ليها، من جلسات التحفيز الكهربي، وانا منبه على الكابتن انها مترهقاش خالص، وكمان مأكد عليها، انها متجبلاهاش سيرة عن الـ عندها اطلاقًا....
_زي ما قولت لحضرتك، تدريب شاق، اتأكد ان الكابتن دي فعلًا مدربتهاش جامد، خصوصًا ان جسمها كان في فترة نقاهة، يعني، لا بتروح شغل او بتشتغل في البيت، مش بتعمل اي حاجه خالص، وكانت الفترة الـ فاتت مرتاحه جدًا ودا خلى جسمها في حالة خمول، فكون انها فاجأه تبدأ تتمرن وتلعب رياضة، صعب اوي اوي في حالتها....
"عودة للوقت الحالي"..
*******************************
لولا هذا الرنين الذي ايقظهُ من النعيم، وهو لم ينعم بدفء الفراش بعد، بعد ان قضى ليلتهُ بين الملذات المحرمة، لما كان يخرج من عمارتهِ الآن، يرى ساعتهُ هل تأخر ام لا، هتف بضيق وهو يتوجه نحو سيارتهُ:
_منا كنت معاه امبارح، مستخسر فيا ساعتين يا باشا، وانتَ بتغيب بالأيام...!!!
ومن حيثُ لا يدري ولا يعلم، اصطفت سيارة سوداء بجوارهِ هبط منها ثلاث رجال ضخامِ الجثة، قيدو حركتهُ بين أيديهم فلم يستطيع الخلاص، خصوصًا وهو وهم يمسكوا قدميه، ويديهِ ويكتمون فمهِ.
القوه داخل السيارة، وسارعوا بالصعود بها، وأغلاق بابها، ثم هتف أحدهم:
_جاهزين يا عادل باشا...
انطلق عادل بسيارة بعد أن أخذ رياض، وقام أحد الرجال في الخلف، بتغطية وجههُ بعد أن كتموت فمهِ بلاصق فضي.
أمسك عادل هاتفهُ وفتحهُ، ثم عبث على شاشتهِ لحظات، حتى وضعهُ على أذنهِ، استمر الرنين دقيقة حتى فُتح الخط، فهتف عادل بسرعة:_
_وليد بيه،... رياض معايا يا باشا....
_تمام يا عادل، سيبوا في المكان الـ قولتلك عليه، وأنا هكمل.... عادل...
كاد عادل أن يُغلق الخط، لكنه استمع لصوت وليد يهتف باسمهِ، فقال باحترام:
_تحت أمرك يا باشا...
_البت الـ كانت معاه مشت..!
_لا يا باشا منزلتش....
_تمام،... زي ما قولتلك بقى سلام...
أغلق وليد معهُ وهو ينظر للفراغ بشرودٍ ووعيد، ثم رفع هاتفهُ، وقام بالإتيان برق أحدهم، ووضع الهاتف على أذنهِ....
_ ايوا يا حسن، نفذ الـ قولتل عليه وابعتلي الصور على واتساب....
_...........
_لا يا حسن، لوحدها متقلقش، نفذ وهتلاقي فلوسك كاملة وصلت على بيتك،... سلام
********************************
طرق الباب بهدوء، فاستمع لإذن جدتهِ تخبر الطارق بالدلوف، ففتح الباب واسند حقيبة سفرهِ على الحائط بجوار الباب.
طالعة إلهام سامي، وتلك الحقيبة، وهيئتهِ وهو يستعد للخروج، وجهِ الباهت، وتلك الهالات السوداء التي أسفل جفنيهِ، كما لحيتهُ التي نمت بشكلٍا غير مرتب لكن أظهرتهُ أكبر عمرًا، وبمنظر رجلًا بالغ النضج، وأضفت عليه وسامة من نوعٍا أخر.
اقترب من جدتهُ، مردفًا وهو يتناول كفها يُقبلهُ:
_تيتا...
ربتت على ظهرهُ بحنان، وهتفت:
_نعم يا روح تيتا،.. رايح فين يا بني...
جلس جوارها قائلًا وهو يبتلع غصة مريرة بحلقهِ:
_هسافر،.. هروح إيطاليا واباشر الشغل هناك مكان چون....
شهقت إلهام بخضة، ثم ارتسم الحزن على ملامحها، وقالت:
_ليه يا سامي بس، هتبعد عن مراتك وعيالك..!
كان قد أخبرها بأمر حملها والذي سعدت كثيرًا لأجلهِ، طالعها سامي قائلًا:
_مش عايز حد يعرف اني ردتها يا تيتا، حتى وليد، هو مش عايزني ارجعها، عشان عارف اني ظلمتها، بس انا مش هقدر اسبها..
_الله..!، والـ انتَ بتعمله دلوقتي اسمه ايه يا بني بس..!، منتا بتسبها برضوا...
أغمض عينيه متنهدًا بألم، ثم فتحمها مردفًا:
_اسبها وهي على زمتي، أهون بكتير من اني اطلقها،... هي عيزاني ابعد عشان مش هتقدر تثق فيا تاني، وهتكرهني اكتر لو حاولت ارجعها غاصب عنها،.. هسافر لحد ما حس انها متقبله وجودي وبعدها هرجع....
مدت يدها تضغط على كتفهِ برفق، مُجيبة:
_اخص عليك يا سامي، هتمشي وتسبها وهي حامل كدا..!، حرام عليك يا بني، انتِ الـ بتنام جمبها وبتحس بألمها، هتسبها تعبان في فرشتها كدا مش قادرة تجيب لنفسها بُق المايه، ولا قادره تنادي حد،... انتَ كدا بتظلمها اكتر يا سامي،... روح يا بني، روح بوس راسها ولو حكمت بوس رجلها كمان، روح راضيها ورجعها،.. دي مريم يا سامي،.. دا مفيش لا أطيب ولا أجمل من قلبها،... هتلاقيها سامحتك بس بتناغشك شويا... وحقها يا بني،... سيها تدلع شويا....
وكأنها تُحادث حجرًا صلدًا، لا أسمع لا ارى..!، وقف مقتربًا منها، ثم دنى ممسكًا رأسها من الخلف، مردفًا:
_اشوف وشك بخير يا تيتا...
اتسعت عينها صدمة وحزن، وهتفت باسمهِ بيأس، الا انهُ استدار، مُعطيًا اياها ظهرهُ، وتقدم من الخارج، يجذب يد حقيبتهُ ثم ابتعد عن غرفة جدتهُ، وقف على السُلم، ونظر لأعلى قلبهُ يحدثهُ أن يذهب ليودع اخوه، لكنه استدار مُكملًا هبوطهُ للأسفل.
خرج نحو المرأب واستقل سيارتهُ، ثم انطلق بها خارج القصر مُبتعدًا عنهُ، متوجهًا نحو المطار، فقد تبقى نصف ساعة على موعد رحيل طائرتهُ.

..................................................................................................
#يُتبع

تائهة فِي سَرَايَا صَفْوَان  © -مُكتملة- حيث تعيش القصص. اكتشف الآن