الفصل الخامس والخمسون

4.1K 222 61
                                    

تائهة في سرايا صفوان
الفصل الخامس والخمسون

●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
لكمة وراء الأخرى، بوجههِ، الذي نزع عنهُ قناعهُ، صارخًا بهِ:
- انطــــــق، راحوا فيـــــن!!
تحطمت زعامتهِ، وانتهى الأمر، لم يعد لهُ نهوضً من جديد بعد كشفهِ، حاول التقاط أنفاسهُ، وهو يهز رأسهُ، مردفًا:
- معرفش، قولتلك معرفش....
لن يخبرهُ انهم قفزوا في الماء، حتى يسهل موتهم هكذا، يحتاج الأمر لوقتٍا، كافي حتى يموتان، وينطفئ سرهُ، مع عدم وجود الحقيبة.
تحرك إبراهيم نحو السور، ينظر بعينيهِ يسارًا ويمينًا، علهُ يلاحظهم، وهو يهتف بتصميم:
- أكيد نطوا في البحر!
طالع إبراهيم، الرجال الخاصين بالأعظم، المكبلين أرضًا، بعد أن صعدوا لليخت، فاقدين الأمل في العثور عليهم، ليحيطهم إبراهيم برجالهِ، وأوقعوهم سريعًا.
نظر إبراهيم، لأحد رجالهِ، والذي يبدو رئيسهم، ثم هتف بحدة:
-ناصر، خدهم كلهم على المكان الـ قولتلك عليهِ، وسبلي خمس رجالة بس..
أومأ بطاعة مردفًا:
- تحت أمرك يا باشا،..
- ناااصر، لو حصل لراجل دا
ثم أشار علي الأعظم، مُكملًا بسخرية:
- آل أعظم آل،.. لو حصله حاجه برقبتك...
_ وأنا رقبتي سداده يا باشا،...
ثم طالع الأعظم، مردفًا باستخفاف:
- وبعدين العظمة لله وحده يا باشا...
رد عليهِ إبراهيم، وهو يطالع الأعظم ساخرًا:
- لا إله إلا الله،... خده من هنا يلا...
سيترك شرف رفع اسمهِ الحقيقي لوليد بنفسهِ، فقط يعثر عليهِ!، طالع زرقة المياة فاحصًا عنهُ، وهو يتمتم بقلق:
- رحت فين بس يا وليد!!
●○●○●○●○●○●○●○●○
المياة الدافئة تندفع ضاربة أسفلها بحدة، وتقف عند منتصف ظهرها، مما يجعل القشعريرة تسرى بباقي جسدها.
ورغمًا عنها، بدأ جسدها يرتشع، وأسنانها تصطك ببعضهم، وأذنها مكتومة من الماء الذي بها، مما جعلها لا تسمع سوى صوت صدى الموج داخلهم، وحرارة جمّة تنبعثُ على جسدها، وجسدًا ينبض أسفلها.
كل هذا شعرت بهِ، رغم أغلاق عيونها، الشمس فوق عينها، لا تقدر على فتحهم، ويداها ثقيلتان بشدة، حركت يدها قليلًا، لتجد يد وليد أسفلها، الى الآن لا تعلم كيف هي فوقهُ ولا يمكنها التحرك يسارًا أو يمينًا.
ضربها الموج ثانيةً فتأوهت من الألم، وارتعاش بدنها، ورغم دفء الماء، لكنها تشعر، بالبرد الشديد.
وأخيرًا، رفعت يدها مع يدهُ، ثم تحسست ما عليها، فوجدت انها معهُ داخل المعطف، حاولت سحب السحاب للأسفل، وانكمشت ملامحها بألم عندما ضربتها المياه ثانيةً، مما عرقل حركتها.
عادت تسحب السحاب للأسفل، حتى نجحت في فكهِ، فتحركت بحرية قليلًا، حاولت سحب ذراعيها من ذراع المعطف، وكان الأمر صعبًا للغاية.
ابتعدت بجسدها عن جسدهِ أخيرًا، ثم جلست على قدميها تُميل رأسها للأمام، وبسبب كثرة ما شربتهُ من المياه المالحة، وجدت نفسها تضع يدها على بطنها، ثم بدأت تتقيئ تلك المياه، وما بجوفها بأكملهِ.
شعرت بدوار شديد يعصف بها، فمالت للأمام أكثر، تستند على الرمال المبللة، حتى تُهدئ من حالها.
رصاص، أُناسًا لا تعلمهم، صريخها، زج إلهام أرضًا، أحدهم يجذب شعرها بقوة، سيارة تتحرك بها وهي مُكبلة، وأعينها موصدة، بمكانٍ بمفردها، سحب أحدهم لها وهبوطها معهم الدرج، ثم دفعها لسيارة ما!، حركة أمواج، صراخها، رؤيتها لوليد، رصاص، تأوه وليد المؤلم جوار أذنها!!!!.
جاءت كل تلك الأحداث في بالها، على شكل ومضاتٍ سريعة، وعند تذكرها لأخرهم، اتسعت عينها زهولًا وصدمة، ثم اعتدلت وزحفت نحوها تهتف اسمهُ بلهفة وخوف:
- وليد!، وليد، افتح عيونك بالله عليك، وليد!، سمعني،.. وليــــد!!
هتفت اسمهُ برجاء لأن يفيق، وهي تربت على وجنتيهِ برفق، مالت مستندة برأسها على صدرهِ، بألم باكية، لا أحد ينجدها، لا أحد معها!، رفعت عينها باحثة في المكان عن أي شيء يُفيدها، لكن لم تجد، بعض النخيل والجبال خلفها فقط.
رفعت وجهها لأعلى صارخة باسمهِ، بصوتٍ عالي باكية، لا تظن أن النهاية هكذا!، على شطٍ كالصحراء الجردا، لا زرع فيهِ ولا ماء صالح لشرب.
طالعتهُ، ممسكة بكفيهِ، تضغط عليهم بحدة، وهي تهتف بحزن وضعف:
- اوم بالله عليك، أنا خايفة....
بدأت الشمس بأن تختفي خلف الجبال، واتجه ظل الجبل عليهم، وأصبح الهواء بارد قليلًا.
تُريد فحص جسدهِ، لترى أين أصابتهُ الرصاصة!، شعرت بهٌ يتأوه بخفوت، فاقتربت تُحيط كفيها وجههُ، والهفة تتقافز من عينها، وفي نبرتها، مردفه بعشوئية:
- وليد!!، سمعني!،.. سمعني !!!، وليد فتح عينك، وليد أنا آآ زهرة....
كان في حالة اللاوعي، لم يستمع لما قالتهُ، بل تمتم بخفوت، مناديًا عليها، وهو يظن أنهُ لازال في الماء:
- زهــ آآ..
لم يكمل هتافهُ بهِ، بل تلقائيًا تحامل على ساعديهِ لينقلب على بطنهِ، مُتقيأ ما بجوفهِ، من مياهٍ مالحةٍ، اتسعت عينها سعادةً، وهي تراهُ قد فاق، ثم سارعت بلهفةٍ، تُحيط بطنهُ ضاغطًا عليها برفق، وهي تُمسد على خصلات شعرهِ، تُساندهُ، مردفه بغصة في حلقها:
- شششش، براحة،... خد نفس يا وليد، اتنفس...
انتهى من إفراغ تلك الماء، ثم سعل بحدة وألم من جرحهِ، دون حديث ألقى رأسهُ على فخذهِ، جاعلًا وجههُ في الأسفل.
بهدوء، أزاحت رأسهُ للرمال، واضعة ايها بالجانب، ثم وقفت واقتربت من مياه البحر، تأخذ الماء بين كفيها، ثم عادت لهُ، انحنت مفرغة الماء على وجههُ، ثم مسدت بيدها برفق على وجههُ تهتف باسمهُ.
وقعت أنظارها على ظهرهِ، لتجد بُقع دماء على الرمل، مدت يدها تُبعد ملابسهِ، لتشهق بخضة وفزع، وهي ترى جرحهُ غائر، والرصاصة تلمع لمعة خافتة بين الدماء.
وقفت تُطالع الشاطئ حولها، تبحث عن مكانٍ ما تأخذهُ بهِ، وقعت عينها على تجويف في الجبل على بُعد سبعة أمتارٍ منهم، انحنت لهُ ثانية متسألة بقلق:
- وليد...، سمعني!
كان بين الوعي واللاوعي، فتح عينيهِ بخفوت، ثم أغلقهم ثانيةٍ، شعر بها تحاول رفع جسدهِ، يليهِ قولهَ الحزين:
- وليد عشان خاطري حاول تفتح عينك، خليك فايق بالله عليك،..... ارفع جسمك معايا شويا....
كان حِملهُ ثقيل عليها للغاية، لكن تحاملت على نفسها، وهو أيضًا، حاول أن لا يُثقل جسدهُ عليها، وبدأ يجر أقدامهُ حيثُ تذهب بهِ.
تقدمت من هذا الكهف الصغير، تشحذ قواها معهُ، اسندتهُ على الحائط الخاص بالكهف، ثم انحنت مقتربة منهُ تتسأل بلهفة:
- وليد!، خليك مفتح عينك بالله عليك،.. خليك صاحي..
حاول أن يفتح جفونهُ، ثم طالعها بألم وأرهاق، هامسًا بصوتٍ يكاد يكون مسموعً:
- انتِ كـ..كويسه!!
أومأت مبتسمة لتجاوبهُ، ثم هتفت:
- أنا كويسـ..آ.. لاء لاء، متقفلش عينك خليك صاحي بالله عليك...
صرخت بهِ، بعدما حاول غلق جفونهِ ثانيةً بتعب، اضطر لأن يفتحهما، ناظرًا لعينها التي تجمعت بهم دموع كثيفة، هتفت بغصة في حلقها:
- ما تنمش بالله عليك، أنا خايفة اوي..
شعر بقبضة حادة تعتصر قلبهُ، وهي تُخبرهُ بخوفها، وهو عاجز لا يستطيع أن يفعل شيء، رفع يدهُ، متجاهلًا هذا الألم العاصف الذي يحدث عند أقل حركة، ومسح تلك الدمعة العالقة بجفنها الأيسر، ثم قرب وجهها من وجههُ مستندًا على جبهتها بإرهاق، متمتمًا:
- متخافيش،.. أنا معاكي..
تنهدت بحدة وهي تهز رأسها موافقة، أنزل يدهُ ببطئ، متحسسًا بطنها ثم هتف بخفوت، وهو يبتلع ريقهُ الجاف، متسألًا بقلق:
- حسى بألم...!
أومأت بالرفض، فتنهد بارتياح، لحظات من السكون يتخللهُ صوت الماء بالخارج، حتى هتف:
- زهرة، لـ..آ لازم... نولع نــار، الـ.. جرح،.. هـ يخليني أفقد الوعي!
ابتعت تهز رأسها موافقة بلهفة، مردفه:
- طبـ..آآ اعمل ايه!
سحب نفسً عميق، ثم هتف بخفوت:
- شوفي.. فـ...ـي، خشب.. برا،... و...وزلط من المـ..ايه...
أومأت موافقة، ووقفت متجه نحو الخارج، وقفت الى بعد خطوات من المدخل تحت عينيهِ تنظر يسارًا ويمينًا بتيه، حتى عثرت على كومة من الخشب تبدو أنها كانت مُقطعة من قبل، مما يدل على أن هذا المكان ربما صالح لتخيم ومعروف.
اتجهت نحو البحر وعبرت للمياه حتى وصلت لنقطة كانت المياه تصل لركبتيها، وتحسست الحجر الأملس أسفل قدمها، فانحنت تلتقط كمً منهُ، ثم عادت وذهبت نحو الخشب، تأخذ بعض القطع منهُ، ورجعت للكهف ثانيةً.
وجدت وليد مغلق العينين ، فانتباه الخوف الشديد، وضعت الخشب والحجر الأملس بسرعة واتجهت لهُ تهتف اسمهِ بلهفة وخوف:
- وليد، ولييد!!
فتح عينيهِ، يراها ويشعر بها تربت على وجنتيهِ، شهقت بفزع، عندما وجدت حرارة جسدهِ عالية والعرق يتصبب من على جبهتهِ، انكمشت ملامحها بخوف وفزع أكبر، وهتفت باكية بقلة حيلة:
- وليد، انتَ سخن، الرصاصة لازم تطلع، لازم تروح مستشفى دلوقتي حالًا،.. وليد!!
تجاهل حديثها، مردفًا بحدة قدر الأمكان:
- بطلــ..ـي عيا...آط يا زهرة،... و.. ولعي الخشب..
شجعها وحثها بعينيهِ، على فعل ما قال، فمسحت دموعها واتجهت نحو قطع الخشب، حاولت بأظافرها نبشهِ من الأعلى، حتى تلتقطهُ شرارة الحجر ويسهل اشتعالهِ، فالخشب غليظً قليلًا.
أمسكت الحجر الأملس، وبدأت بحكهم سويًا بحدة، حتى تولدت شرارة لكن لم يطولها الخشب، مرّة وراء الثانية، وجميع محاولاتها تخفق، المكان أصبح مظلم ومخيف، ارتفع صوت بكاءها، هاتفهِ دون أن تتحرك:
- وليد!،.. انتَ صاحي...
تنهد بألم عاصف، قائلًا بصوتٍ حاول قدر الأمكان أن يجعلهُ عالي:
- معاكي.. يا زهرة،... حــاولي... تاني ...
لم تعد ترى شيئًا ساعتان تحاول إيقاد النار، وهي لا تُقاد بكاءها لم يهدئ، حتى شعرت ببطنها تعتصر من الألم، ألم ما تشعر بهِ، ألم برودة الجو، وأيضًا جوعها.
صرخت بلهفة عندما اشتعل جزءًا صغيرًا جدًا من قطعة الحطب هذه، فبدأت تنفخ فيها بخفوت وبطئ شديد، حتى اشتعلت النيران بالقطعة كلها، ومنهُ لقطعة مجاوره، ومن قطعة لأخرى، أشتعل الخشب كلهُ وأضاء المكان.
زحفت نحو وليد، الذي أصبح بعالمٍ أخر، لا يشعر بشيء فيه، ربتت على وجههُ قائلة بسعادة ولهفة:
- وليد، النار قادت، وليد..، افتح عينك بالله عليك،.. وليد..
حاولت هي فتح جفونهُ بقلقٍ واضطراب، شعر بها قليلًا رغم حالة التوهان التي تتمكن منهُ، هتف بكلماتٍ متقطعة:
- سكــ...ينة،... البنطلون،.... فــيه... ســكينة...
ابتعدت عنهُ تتحسس بنطالهِ، قائلة:
- فين السكينة..!
حرك أطراف قدمهِ، فعلمت أنهُ يشير للأسفل، لهذا اقتربت من الأسفل تتحسس قدمهُ بتدقيق، حتى وقعت يدها على شيئٍا ما.
رفعت قدم البنطال للأعلى قليلًا لتجد سكينة بالفعل، يضعها داخل حزامٍ محكم الغلق حول قدمهِ، وتقبع في الجانب الداخلي لقدمهِ، حتى لا يسهل العثور عليها.
سحبت السكينة، ثم اقتربت منهُ، متسألة:
- هعمل بيها ايه...
نظر لشيء ما خلفها، والتمعت النيران في مقلتيهِ، فنظرت نظرة خاطفة للنار، وعادت تُطالعهُ بتوجس وخشية، نظر لها فوجدها تهز رأسها رافضة، فعلم أنها علمت ما يريد، ابتلع ريقهُ قائلًا بأصرار:
- لاآآآ...زم...، لـو..، مـ..عملتــ..يش، كدا... هــمـو
وضعت كفها على فمهِ تمنعهُ من تكملة ما يريد، وهي تهز رأسها رافضة، ومن جديد عادت الدموع لعينها، وهي تقول رافضة:
- مش هعرف،.. مش هقدر صدقني..
قبض على يدها القريبة منهُ، ثم ضغط عليه برفق، مردفًا بألم وهذيان:
- حـ..اولي،... هتعــ...ـرفي،... عشـ..ان.. أعيش..
أغلق عيناهُ، لم يعد قادرًا على فتحهم، طالعتهُ بضعف وقهر، لن تقوى على فعلًا كهذا أطلاقً، ولن تقدر على رؤيتهِ ينازع الموت هكذا، تهدجهت أنفاسها، وهي تشهق باكية، تنظر لهُ ولسكين بين يدها ثم للنيران،.... ألقت السكين أرضً وهزت رأسها نافية، ثم ضمت قدميها لبعضهم، ودفنت وجهها داخل التجويف الذي صنعتهُ، تبكي بحدة وألم، وهي لا تكف هز رأسها بالرفض.
فتح عيناهُ، وهو يجاهد ألا يغيب عن الوعي حتى لا يصيبها مكروه، اعتصر قلبهُ وهو يشاهدها بحالة الضعف هذه، تبكي ولا يعلم كيف يسكتها أو يطمئنها!!، هتف هامسًا يحثها على الأقدام:
- يـ..لا... يا زهرة،.... معدتش،... قــآآدر..
ارتفع صوت بكاءها أكثر، وهي تستمع لكلماتهِ تلك، وتهز رأسها رافضة أيضًا، أغمض عينيهِ، بيأس مستسلمًا لإغمائتهُ، لم يعد قادرًا على الصمود!!.
دقائق، رفعت عينها الدامية، وطالعتهُ، فوجدتهُ مغمض العينين، صدرهُ يعلو ويهبط بحدة أثر تنفسهِ، اقتربت منهُ بقلق قائلة بخوف وهي تربت على وجنتيه:
- وليد!!، وليد انت نمت!، لاء اصحى بالله عليك أنا خايفة اوي،.. وليد.. وليد...
ووليد لا يرد أطلاقًا شهقت بصوتٍ مرتفع، وعادت للبكاء ثانيةً، طالعت السكين التي ألقتها، ثم رفعت بصرها للأعلى تعض على شفتاها بشدة حتى أدمتها.
نزعت ثيابهُ العلوية الغارقة بالدماء، لترى جسدهُ الساخن والعرق الغزير يخرج منهُ، حاولت أن تجعلهُ ينام على بطنهُ حتى نجحت، فطالعت الجرح، أغمضت عينها باكية وهي تمد يدها تتحسس الجرح.
وقفت ونزعت عباءتها القطيفة، وكانت ترتدي أسفلها -دفاية- قطنية والإثنين مبتلين، وبالطبع لا يوجد حجاب، فقد جذبهُ أحدهم من على رأسها، أمسكت السكينة، وقامت بتمزيق العبائة الى قطعً صغيرة، جذبت أحدى القطعت وقامت بمسح الدماء ، فظهر الجرح أكثر وضوحًا.
تنهدت بحدة ونفور، وأمسكت السكين بأيدي مرتعشة، وجهتهُ نحو الجرح، ثم وضعت الحاد المدبب اتجاه الرصاصة، وبدأت تحاول إخراجها، يداها ترتعش وأنفاسها محبوسة، تخشى أن تفعل شيء يؤلمهُ، وتحاول أن لا يقطع السكين شيئًا من لحمهِ!!!.
ظهرت الرصاصة في الأعلى قليلًا، فوضعت السكينة على قطعة قماش، ومسحت الدماء حول الجرح، أغمضت عينها وهي تمد أصابعها لتسحب الرصاصة بيدها.
شعرت بمقاومة ما ثم شيئٍا يُقطع، فانكمشت ملامحها متنهدة بألم شديد مما تفعلهُ بهِ، نزعت الرصاصة من جسدهِ كليًا، فسارعت بإلقاءها بعيدًا، ثم اتجهت نحو وجههِ سريعًا تهتف اسمهُ بلهفة، وهي تمسد على شعرهِ.
لا استجابة، فقدّ فَقَدَ كثيرًا من دماءهِ، قبلت رأسهُ بعمق، ثم ذهبت تأخذ السكين، تضعهُ فوق النار، ابتعدت عنها سريعًا وكأنها وحشًا مفترسً سيأكلها، وراحت تجلس أمام وليد تضم ركبتيها لبعضهم، تضع رأسها عليهم، وهي تهز قدميها بتوتر شديد، تحاول عدم البكاء، فقد أجهدها البكاء، وقد بكت لنهاية عمرها!!
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
فريق كامل من الغواصين، والباحثين المتخصصين للبحث وإنقاذ الغريق، قد وفرهم إبراهيم في ظرف ساعة، وقف هو وكابتن الفريق، على متن سفينة خاصة بالفريق، زفر بضيق، ضاربًا السور بقبضتهِ بحدة، ثم هتف:
- يعني ايه لسا ما فيش اي نتيجة!، اومال بتعمله ايه كل دا!!، مش معقول كدا، كل الوقت دا ومش عارفين تلاقوهم!!
تنهد الكابتن، قائلًا بضيق:
- يا باشا حضرتك الـ رافض ندور في حته بعيد عن دي، يمكن الموج شالهم في مكان تاني خالص،.. اسمحلنا طيب ندور في اليمه الغربية عند الجبل..
يخشى أن يكون بحثهم هذا من فراغ، وأنهم هنا، لكن يتطلب بحث مكثف أيضًا، أومأ رافضًا وهو يقول بحدة:
- لاء، مش هسيب حاجه لظروف، وفر فريق تاني للمكان الـ عند الجبل وابعتهم، وكثف الغواصين هنا كمان، مش عايز الشمس تظهر وهمَ لسا مفقودين كدا..
أومأ الكابتن موافقًا، ثم رفع جهازه الاسلكي، وهتف:
- تحت أمرك يا إبراهيم بيه،...
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
أكل القلق قلبهُ بحدة، وهو يقف يزرع المكان ذهابًا وإيابًا، رفع هاتفهُ للمرة التي لا يعلم عددها يُهاتف أخوهُ، لكن للأسفل الأجابة يتلقاها من تلك المرأة الحمقاء:
"مغلق أو غير متاح، حاول الأتصال مجددًا...
أغلق الأتصال زافرًا بحدة وضيق، ثم هاتف رقم القصر، علهُ يجيب تلك المرة، لكن يدق حتى ينتهي الرنين دون أن يجيب أحدًا.
طالع الساعة التي اقتربت على أن تكون الحادية عشر في مصر تقريبًا، ثم هتف بضيق:
- مش معقول كدا يكونوا ناموا كلهم!!
هاتف رقم جدتهُ بعد كثيرًا من التردد، فهو يعلم أن نومها خفيف وستشعر برنين هاتفها، لكن لا يريد أن يقلقها، ارتسم الأمل على وجههُ، وهو يستمع لصوت الجرس في الجهة الأخرى، الدقة الأولى، الثانية، الثالثة، الرابعة....، أنتهى الرنين ولم ترد، مما جعل القلق ينهش بهِ أكثر!، أومأ برفض مردفًا باضطراب:
- لا بقى، كدا في حاجه!!، مريم!!
هتف اسمها بهمس وقلق كبير، بالطبع لن يُهاتفها، لكن لا يعلم لما ساورهُ القلق الشديد نحوها، فجأة هكذا هتف باسمها!، أصبح مرهقًا ومتعب، من تلك الأحلام التي تأتي لهُ، تُطالعهُ بنظرة معاتبة، والدموع على وجنتها.
تغللت أصابعهُ خصلات شعرهِ، بحدة يجذبها بقوة، ثم هتف برجاء:
- يا رب!!.....
اتجه لأخر خيار مناسب لهُ، اختهُ سُمية، رغم انهُ كان يحدثها في صباح أمس يطمئن على حالها، وحال جنينها، وكانت جميع الأمور بخير، لا يعلم أن مجرد ساعات وانقلبت الدنيا في قصر صـفـوان الـشـنـاوي، رأسًا على عقب..!!
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
حملت الطفل الباكي على ذراعها، وهي تُهدهدهُ، ثم خرجت من غرفة والدتهُ، بعد أن دثرتها جيدًا، وأطفئت النور، ثم أغلقت الباب خلفها.
وجدت سراج يُقبل عليها، فهتفت متسألة بقلق:
- ها يا سراج، الدكتور قالك ايه!!
زم شفتاهُ بضيق، وهو يأخذ منها عز الدين حتى لا يرهقها حملهُ، ثم هتف:
- حالتها مش مستقرة، قال لو حصل حاجه تنتقل فورًا على المستشفى...
أغمضت عيناها بإحكام تمنع دموعها، فاقترب محتضن ايها يربت على جسدها بخفوت، ثم قال:
-ماتخفيش يا حبيبتي، ان شاء الله كل حاجه هتبقى بخير...
- اذاي بس!!، اذاي ووليد وزهرة مش لاقينهم في عرض البحر، ومريم لا حول لها ولا قوة، أنا قلبي وقع في رجلي لما لقتها وقعت في الأرض،.. وتيتا، صممت ترجع برضوا، خايفه يحصلها حاجه...
- ان شاء الله محدش هيحصلوا حاجه، اطمني بس،.... هنزل اجيب الدواء بتاع مريم، اخد عز معايا ولا ايه!
أومأت رافضة، وهي تبتعد عنهُ قائلة:
- لاء بلاش الجو ساقعة اوي عليه، بلاش يا سراج...
أومأ موافقًا، ثم اتجه بهِ نحو غرفتهم وهو يقول:
- طب تعالي هحطهولك على السرير، وخليكي جمبوا...
دلف لغرفتهم وهي خلفهُ، ثم وضع عز الدين فراشهم، وأشار لها أن تجلس جوارهُ، ثم هتف بجدية:
- حاولي متشلهوش عشان ضهرك، وبلاش وقفه كتير بالله عليكِ..
ابتسمت على حنانهُ وخوفهُ عليها، ثم هزت رأسها موافقة، اتجه نحو درج الكومود يسحب مالًا منهُ بوفرة، ثم أغلقهُ، وقبل أن يخرج وقفت سريعًا واقتربت منهُ، قائلة باعتذار وحرج:
- معلش يا سراج، تقلت عليك الـ..آآ
قاطعها بحدة، مردفًا بعتاب:
- تقلتي عليا!!!، عشان أهلي معايا يا سُمية!!، انتِ بتقولي ايه!
واضح انهُ تضايق من ما قالت، فهتفت مصححة:
- يعني آآآ اقصد..
- متقصديش يا سُمية، الـ جوا دول، ستي ومرات اخويا يعني اختي، عيب لما تفتكري اني ممكن اضايق منهم، مكنتش منتظر منك تقولي كدا!!
تركها ورحل، فزفرت بغيظ منها ومما قالتهُ، استمع لصوت إغلاق باب الشقة بهدوء، فتنهدت بضيق، ثم عادت للسرير تجاور عزالدين.
أرتفع رنين هاتفها، من أحد تطبيقات التواصل الأجتماعي، فعقدت حاجبها مستغربة، ثم مسكتهُ، ليزول استغربها!، احتدت ملامحها وهي تُطالع اسم اخيها سامي بضيق، ثم هبت واقفة مُبتعدة عن السرير، وخرجت من الغرفة.
اتجهت نحو غرفة أخرى، وأغلقت الباب خلفها، ثم سارت نحو النافذة، تقف خلفها، وفتحت الأتصال، مردفه بحدة وجفاء:
- خير يا سامي عايز ايه!!
على الجهة المقابلة، تنغص جبينهُ، من لهجتها العدوانية، فهتف مستفهمًا بضيق:
- هو ايه الـ عايز ايه!، انتِ بتتكلمي اذاي يا سُمية!!
زفرت بضيق، ثم قالت متجاهلة:
- سامي، لو عايز حاجه انجز وقول، عشان مش فاضيه، ورانا مصايب احنا فيها، والباشا ولا على بالوا..
قبض على يدهُ بغضب، وضيق، ثم هتف بحدة:
- ايه يا ماما كل المقدمات دي!!، ما تنطقي يا سُمية وقولي في ايه!!، انا الـ فيا مكفيني...
ضحكت ساخرة بجفاء، ثم هتفت مستهزءه:
- الـ فيك مكفيك!، طب هقفل بقى عشان ما قولكش في ايه، يحصلك حاجه، مع السلامة...
ثم وبدون مقدمات أغلقت الأتصال، لطم الحائط أمامهُ بقوة، يسب الكفرة والمشركين، مردفًا بغضب:
- يا بت المستفزاااه!!!!
عاود الأتصال ثانية وثالثة وهي لا تُجيب، أرسل لها رسالة، محتوها:
" سُمية، ردي عليا عشان مجيش أكسر نفوخك والله"....
رأت الرسالة، فزفرت بحدة، ثم اهتز الهاتف، معلنً اتصال جديد، فتحت الأتصال، لتجدهُ يصرخ بها قائلًا:
- بصِ، أنا ورحمة أمك على أخري، انطقي قولي في ايه، مش هيبقى موته من القهر والقلق كمااان، ارحمينــــي
رفعت عينها لأعلى، قابضة على شفتاها بحدة، تمنع نفسها من البكاء وصوتهُ قد قهر قلبها، تنهدت قائلة بضيق:
- في انك اناني يا سامي، خدت بعضك وسافرت وانت ولا على بالك اي حاجه!، اخوك سافر الغردقة امبارح، ورجالة هجمت على القصر بليل، ضربوا نار على الحرس، ووقعوا ستك، وخطفوا زهرة،.... ومراتك من ساعتها في دنيا تانيه، تعبانه، وأغمى عليها من شويا والدكتور قال حالتها مش مستقرة خالص، ولا قدر الله ممكن تفقد الجنين....و..
توالت عليه الصدمات اتباعًا، خفق قلبهُ لما حدث لزوجتهُ، وشعر حقًا بفداحة وسوء قرارهُ، هتف بقلق واضطراب:
- مريم يا سُمية، مريم ايه الـ حصلها...
- تعبت من الضغط، والحمل، مريم محتجاك جمبها يا سامي....
جذّ على أسنانهِ، بغضب من نفسهُ، ثم هتف سريعًا:
- طب وليد، مين الناس الـ خطفت زهرة..
- معرفش، كل الـ اعرفه، إن الـ خطفوها ساوموا وليد على حاجه معاه، وقالوا تعالى خدها مني في البحر، زهرة ووليد نطوا في البحر من الساعة سابعة ونص الصبح، ولحد دلوقتي مش لاقينهم خالص،...
جحظت عيناهُ برعب وصدمة، مما استمع لهُ، الجميع بسوء، كان يسافر دائمًا ويترك زوجتهُ أمانة لدى اخوهُ، لو ما كان سافر، لما سمح أطلاقًا بما حدث، أن يحدث، ليتهُ ما سافر، ليتهُ!!!!
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
سخونة جسدهِ المشتعل، جعلتها تقف سريعًا، متجه نحو قطعة من عباءتها الممزقة، وأخذت قطعةً منها، ثم اتجهت للخارج بخوف، تتطلع يسارًا ويمينًا بارتباب وقلق، الجو مظلم تمامًا، لا يوجد سوى ضوء القمر الخافت، فاليوم من أيام أواخر الشهر الهجري، ويكاد يختفي القمر.
اتجهت نحو البحر، فارتعش سائر بدنها عندما لامستها المياه الباردة، لكن حمدت ربها، انها باردة حتى تُنزل قليلًا من حرارتهِ، انحنت تضع القماشة في الماء، تُغرقها، حتى امتلئت بالماء، ولسوء حظها كانت القماشة تتشرب المياه، ولا يوجد وعاء كي تضع بهِ الماء، ويكون جوارها!، زفرت بسخط وإرهاق، إذًا يتعين عليها، أن تأتي وتذهب عندما تريد أن تبلل القماشة.
زمت شفتاها بضيق، وهي تعود للكهف ثانيةً، وجسدها حقًا يصرخ من الألم والجوع، دلفت لداخل فوجدت الحال كما تركتهُ، اقتربت من وليد وبدأت تمسح ظهرهُ بناحيةٍ صغيرة من القماشة، ثم وضعت الباقي على جبهتهُ، تمسح العرق برفق، ثم تركتها على جبهتهِ.
ذهبت مرتين تُبلل قطعة القماش، حتى خرجت روحها، وأُرهقت، تشعر بأنها على حافة فقدان الوعي، لكن عليها أن تتحمل لأجلهِ فقط، لأجل أن يكون بخير، غامت عينها بالدموع، وهي تنزع القماش من الماء، وهي تتذكر أنها تُضحي بجنينها هكذا، رفعت يدها تضعها على بطنها البارزة، تربت عليها بحنان، ثم رفعت بصرها لسماء قائلة برجاء:
- يا رب احفظه يا رب، يا رب قويني عشان وليد يكون بخير...
طالعت الماء، مردفه بتعب:
- يا ريتك كنتي عدبه، كنت حميته هنا، كانت حرارته هتنزل أسرع
بللت جميع القطع الممزقة من العباءة، ثم اتجهت نحو الكهف ووضعتهم بجوار المدخل، كي لا تُدفئهم النار بالداخل، وضعت قماشة جافة على الرمل، ثم وضعت فوقها جميع القطع المبللة، وأخذت واحدة، ثم دلفت لداخل....
سخنت السكين حتى أضاءت متوهجه، فطالعتها، وابتلعت ريقها باضطراب وخوف، ثم نظرت لهُ، ظهرهُ الذي يتصبب عرقًا، تمسحهُ بين الحين والأخر أنفاسهُ التي يلتقطها بصعوبة، وكأنهُ حتى لا يقوى على إخراج النفس.
وقفت متجه نحو النار، تُطالع السكين بخوف تارة، وتنظر لجسدهُ المُنهك بضعف تارة أخرى، ركضت نحوهُ، وجلست جوار رأسهُ هاتفة ببكاء، وهي تهز رأسها رافضة، ويداها تُحاول أن تجعلهُ يفيق:
- ولييد، اوم بالله عليك، مش هقدر اعملها!!،..... مش هعرف صدقني، اووم!!!....
وصراخها لن يجعلهُ يفيق أبدًا، فقد تمكن المرض والألم منهُ، وتاه عقلهُ منهُ، تحاملت على نفسها تبكي بقهر، وهي تجر قدماها نحو النار مجددًا، صرخت بصوتٍ عالي بحدة متأوة عندما قبضت على يد السكين، فوجدتها غاية في السخونة، ابعدت يدها سريعًا باكية بألم جمّ، وهي تقربها من يدها تنفخ بها، لعل الألم يهدأ.
خمسة دقائق، تحاول أن تخمد نيران الألم لكن لا فائدة، فجميع أصابعها قد حُرقت، استجمعت قواها، في محاولة عثرة، لتجاهل الألم، حتى تستطيع كيّ الجرح.
أخذت قطعة قماش، واقتربت من السكين تمسكها بيدها اليسرى، ثم رفعتها لأعلى، أعصابها متوترة بشدة، تشعر بأنها ستقع من يدها الآن، أقتربت من جسدهُ، ثم انحنت تجلس على قدميها أمام موضع الجرح.
رفعت رأسها لأعلى تتنفس بقوة، تدعوا الله أن يجمد قلبها وتفعلها، سارت بعينها نحو وجههُ، تُطالعهُ بحزن، هامسة بغصة قوية بحلقها:
-وليد!!!!......
ألصقت السكين بالجرح سريعًا، وهي تصرخ من الألم الذي يشعر بهِ هو الآن ولا يقدر على أن يعبر بهِ، فقط اشتدت عضلات جسدهُ بقوة، وتسارعت أنفاسهُ مطلقًا تأوهًا مكتوم.
ألقت السكين سريعًا من يدها، واتجهت نحوهُ ترفع رأسها نحوها، تضمه بتعب، مردفه بإرهاقٍ وأسف:
- أنا آسفة، أنا آسفة... سامحني يا وليد، أنا آسفة......
استندت على الحائط خلفها، وهي ترفع جسدهُ نحوها قليلًا تحتضنهُ، تربت عليهِ بحنان، وقد خارت قواها، الى هُنا ولم تعد قادرة، أغلقت عينها وسكنت، لا تعلم هل نامت، أم فقدت الوعي!!
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
الساعة الثالثة طالع السماء من شرفة الطائرة بشرود، قلبهُ وعقلهُ يناجي ربهُ أن يعثروا على أخوهُ وزوجتهُ، لن يسامح نفسهُ أطلاقًا إن حدث لأحدًا سوء.
بالفعل هو أناني كما قالت أختهُ، زفر بضيق ناظرًا لساعة يدهُ، ما زال هناك ساعتين قبل أن يصل، وللأسف لا توجد طائرة ستحط في اي مطار للغردقة، لهذا سيهبط في مدينة الأسكندرية، وسيأخذ طيارة أخرى منها للغردقة.
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
خرج سبعة رجال من الماء بزي الغواصين، نزع أحدهم قبعتهُ، ثم وجهُ بصرهُ الى نقطة ما، مردفًا بتدقيق:
- في نار هناك ولا أنا بيتهيألي....
لم يكونوا بالقرب من الكهف، بل بعيدًا بكثير، النار توضئ من بعيد في تلك العتمة، وجهوا جميعًا أبصارهم نحو المكان الذي أشار لهم فيه زميلهم، فقال رجلًا منهم:
- تعالوا نشوفوا هناك...
اتجوا جميعًا نحو الكهف، وكل ما يقتربون يزداد يقينهم أكثر أن من بالداخل هم من يبحثون عنهم، وقفوا السبعة حول مدخل الكهف، يُطالعون زهرة ووليد الإثنين الفاقدين للوعي، هتف أحدًا منهم بتأكيد:
- هما دول، دي نفس الصورة الـ شفناها....، سعيد كلم الكابتن بسرعة، وقولهم إننا لقينهم،... بسرعة عشان الراجل جريح..!
ساعة، وكانت هُناك ثلاث سُفن ترسوا على الشاطئ، قفز إبراهيم سريعًا من على الدرج، واتجه راكضًا بلهفة نحو مدخل الكهف، والذي يقف الغواصين حولهُ.
هبط من أحد السُفن، هبط فريق طبي، مكون من عشرة ممرضين، وطبيبة نساء وتوليد، وطبيبة جراحة، حمل الممرضين سريرين طبي وهبطوا بهِ من السفينة، واقتربوا من المدخل.
في الداخل، تجمد مكانهُ، وهو يرى جسد وليد هكذا، أشاح وجههُ عندما وجد زهرة بدون حجاب وبتلك الملابس، مراعيًا لحرمة صديقهُ، ثم خرج للخارج، وهتف للممرضين المُقبلين عليهِ بالأسرة:
- انجزو بسرعة، شكلوا فقد دم كتير اوي....، يلا مفيش وقت...
سريعًا، دلفت ثلاث ممرضات وممرض أخر بسرير، حملوا زهرة ووضعوها عليهِ، ثم اتجهُ للخارج ذاهبين نحو السفينة سريعًا، تحركت طبيبة النساء والتوليد خلف سريرها بسرعة، وصعدوا على متن السفينة.
خرج الممرضين الأخرين بالسرير الذي يحمل وليد عليهِ، والذي إلى الآن لا يعلم أي شيء عن الدنيا، اتجه وليد خلفهم، وصعد ورائهم، وصعد فريق الغواصين لسفينة أخرى بعد أن أخمدوا النيران، تحركت الثلاث سُفن تشق المياه متجهين نحو الناحية الأخرى في البحر لمدينة الغردقة
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
بأنفاسٍ لاهثة، يركض في الرواق وكأنهُ تائه لا يعلم لهُ طريق، دقات قلبهُ تتعالى بصخب وعشوائية دخالهُ، جمدت عيناهُ محملقًا على إبراهيم الذي يتحدث مع الطبيب بعصيبة شديدة، مردفًا:
- اتصـــرف، اخوه الوحيد الـ نفس زمرة الدم، ولسـ...
- إبراااهيييم...
سلط إبراهيم أنظارهُ على سامي، فأكمل سامي سيرهُ مهرولًا بلهفة نحوهم، اقترب إبراهيم منهُ يحتضنهُ بلهفة ونجدة، ثم ابتعد سامي عنهُ مقتربًا من الطبيب هاتفًا بخوف وقلق:
- اخويا ايه حالته،.. طمني يا دكتور أرجواك....
طالعهُ الطبيب، قائلًا:
- محتاجين ليه نقل دم فورًا، المستشفى مفهاش الفصيلة دي، وبنك الدم للأسف العينات الـ فيه اتجلطت عشان حصل عطل في الكهربا..
- أنا نفس الفصيلة -O، جاهز اتبرع بأي كمية حالًا...
أومأ الطبيب، هاتفًا:
- الكمية الـ محتاجنها هتعرض حياتك للخطر، بس ممكن نتصرف بكمية تانيه، تخليه على أقل يتجاوز مرحلة الخطر،.. اتفضل معايا.....
كاد أن يتحرك معهُ، لكن توقف يسأل إبراهيم بقلق:
- زهرة يا إبراهيم، حالتها ايه دلوقتي....
زم شفتيهُ، وهز رأسهُ بالرفض، وهتف بحزن:
- الدكتورة قالت نسبة إنقاذ الجنين تعتبر مستحيلة،... المهم دلوقتي هي ووليد بس.....
أومأ سامي بنعم، مطأطأ رأسهُ بحزن، وندم من نفسهِ على ذهابهُ هكذا، لن يسامح نفسهُ أطلاقًا ما إن حدث شيئًا لأخوهُ وزوجتهُ.
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
الساعة التاسعة صباحًا، استيقظت مرهقة من عدم استطاعتها النوم جيدًا اطلاقًا، استندت على السرير تتثاءب، ثم اعتدلت قليلًا تسحب هاتفها.
نظرت لشريط الإشعارات بضيق وسخط جمّ، لم تتلقى منهُ رسالة واحدةٍ حتى، هل نساها أم ماذا حدث!!، وللحق قد تضايقت كثيرًا ولوهلة شعرت انهُ لم يعد يُحبها، وما زاد من سخطها وجود إشعار من صفحتهِ الشخصية على تطبيق الـ -Facebook- انهُ قد نشر منشورًا الساعة السادسة صباحًا.
زمت شفتاها بضيق وآسى، كان معهُ الوقت لينشر منشورًا ولم يكن معهُ وقت ليبعث فيهِ رسالة يطمئن على حاله!، ضغطت على الإشعار وهي تزفر بحنق، اتسعت عينها زهولًا ورعبًا وهي تقرأ انهُ بحاجة لمتبرع دماء فصيلة-O الآن ضروريًا للغاية في مدينة الغردقة، وهناك حوالي 20 ألفٍ من المتفاعلين سواء بالرموز الحزينة، أم بالتعليقات!
في مدينة الغردقة، وقف من جوار سامي، يمسك هاتفهُ، يُريد الأطمئنان عليها، فهو مُنذ أن سافر لم يحدثها سوى مرة واحدة، همّ بالضغط على جهة الإتصال الخاصة بها، لكن وجدها هي من تبادر بالدق، ففتح الإتصال سريعًا، وهو يضعهُ على أذنهِ مردفًا بلهفة:
- قمر..آآ..
قاطعهُ صوت بكاءها، وهي تقول بخوفٍا باكية:
- إبراهيم..، دم ايه الـ محتاجه، انتـ..آآآ... ايه الـ حصل،.. طمني عليك...
حديثُها يتضمن شهقاتٍ كثيرة، فرفع يدهُ بين خصلات شعرهِ الغزير يجذبهُ للخلف بقوة، وهو يقول بصوتٍ حاني:
- اهدي يا قمر، اهدي يا حبيبتي أنا بخير والله وكويس...
اقتربت من المقعد القريب منها، بعد أن شعرت بأن قدمها لا تقويان على حملها، جلست عليهِ ثم استندت على يدهِ، مردفه بتنهيدة مرتاحة الى حدًا ما:
- الحمدلله،... طيب محتاجه الدم لايه!،.. إبراهيم، اوعى تكون مخبي عني حاجه!
ابتسم مردفًا يُمازحا لتقليل من حدة الجو:
- يا ستي والله ابدًا، بخونك مثلًا ولا متجوز عليكي يعني!!،..
ثم هتف بنبرة هادئة حزينة:
- وليد هو الـ محتاج الدم يا قمر،... تعب شويا ونزف، فاحتجنا الدم ضروري...
عقدت حاجبها بقلق واستغراب، ثم قالت:
- طب هو كويس دلوقتي!
- ايوا الحمدلله...
- زهرة عرفت!...
لم يشئ يخبرها ماذا حدث، حتى لا تقلق عليهم، يعلم انها إذا قلقت أو خافت تفقد سيطرتها على التحكم، ومن الممكن أن تنزوي في ركنً بعيد تبكي كالأطفال خائفة، وهو ليس معها ليكون مطمئن!
أخبرها أن زهرة قد علمت وفي طريقها لأن تكون هنا، ثم أغلق معها عندما اتاهُ اتصالًا من فتحي، وهو يخبرها بأنه سيتصل بها لاحقًا.
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
على الطريق الصحراوي، والذي يصل بين القاهرة ومدينة الغردقة، زفر فتحي بضيق وهو يرى هاتف إبراهيم المشغول، كان يجاورهُ سُليمان والد سراج، ويعلو ملامحهُ القلق والإرتياب، هتف قائلًا وهو يرى فتحي يعاود الأتصال:
- لسا مردش برضوا!..
أومأ فتحي بنفي، ثم قال:
- لسا، شكلوا بيكلم حد!!...
اهتزت أقدام سُليمان وهو يربت على فخذيهِ بخوف مرددًا بخفوت:
- استر يا رب، جيب العواقب سليمة يا ستار!!
فُتح الخط، فسارع فتحي بالقول حانقًا:
- الوا،.. اي يا بني كل دا بتتكلم في الفون!!....
- بطمن على مراتي يا عم في ايه!!...
زفر فتحي بسخط، مُجيبًا:
- طيب!، طمني على وليد حالته عامله ايه دلوقتي!
- الحمدلله، بقى الى حدًا ما يعني كويس، بس كل الأزمة الـ حصلت عشان الدم الـ كتير الـ فقده، وكان في مايه على الرئة، بس الحمدلله عدت...
تنهد فتحي براحة، قائلًا بهدوء:
- الحمدلله، قدر الله ما شاء فعل،.... على العموم أنا في طريقي ليك، ومعايا ابوا سراج..
- ليه بس يا بني،.. احنا كنا كلها بكرا ولا بعده وننزل القاهرة..
- مش هينفع اسيبك لوحدك يا إبراهيم،.. من حق طمني على مرات وليد، ايه أخبارها هي كمان!...
- والله يا فتحي، هي حصلها نزيف من الـ حصل دا كلوا، بس رغم دا الدكتورة قالت الجنين لسا ثابت، لكن في احتمال ينزل، بس حالتها مستقرة دلوقتي، وطول ما هي كدا، مش هيقدرو ينزلوا الجنين، لأنوا مش مأثر عليها، ولا في خطورة من وجوده!...
أومأ فتحي موافقًا، ثم قال مستفهمًا:
- يعني كدا هي تمام والجنين ثابت!!..
- ايوا، وان شاء الله يفضل ثابت،.. مهما كان الـ حصلها دا مش سهل خالص برضوا،.... لكن الله يسامحها الدكتورة مقلقاني من ساعة ما خرجت وقالتلي إن برضوا في احتمال الجنين ينزل!!
- ان شاء الله خير،... أنا قدامي حوالي ساعة واوصلك، ابتعلي الوكيشن بتاع المستشفى...
أنهى فتحي اتصالهُ مع إبراهيم، ثم طالع سُليمان، وهتف:
- الحمدلله يا حج، وليد بقى كويس ومراته برضوا كويسة،.. واحتمال الحمل يكمل على خير ان شاء الله..
تنهد سُليمان براحة، ثم زفر بحدة، واخيرًا استطاع أن يهدأ ويتنفس، لحظات وقال بلامبالة:
- حتى لو مكملش، مش مهم آدام هما الاتنين بقوا كويسين،.. يجبوا بدل الواحد عشرة....
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
دق رنين الباب، فهتفت سُمية قائلة وهي تقف:
- سراج جه، هقوم افتحله..
اتجهت نحو الباب، الـ بعيد نسبيًا عنهم ولكن قبل أن تتحرك خطوةٍ ثانيةً، انفتح الباب، ودلف سراج وهو يتحدث في هاتفهِ قائلًا براحة:
- طيب يا هيما الحمدلله، هبلغهم هنا اهو،....
-..............
- تمام يا حبيبي،... أنا معاك ابقى رن...
ثم أغلق الهاتف، واقترب من سُمية التي اقتربت منهُ، احتضنهُ مُقبلًا جبهتها، ثم هتف:
- عامله ايه يا حبيبتي...
- الحمدلله يا سراج، إبراهيم كان بيقولك ايه!، في جديد!!...
أومأ، قائلًا بتسأل:
- اهه في،.. مريم في الصالون ولا..!
هزت رأسها باستغراب موافقة، ثم قالت:
- ايوا،.. اي في ايه طمني!..
احتضن كفها برفق، وسار بها نحو المكان التي تجلس في إلهام ومريم، وهو يقول:
- تعالي بس،.... السلام عليكم...
قال السلام بصوتٍ عالي، فردت إلهام ومريم السلام، اقترب سراج وجلس بمقعد قريب من إلهام، وكان المقعد لإثنين فجلست سُمية جوارهُ، طالعتهُ إلهام قائلة:
- طمني يا بني،.. في أخبار عن وليد وزهرة!...
أومأ سراج مردفًا بابتسامةٍ:
- ايوا يا تيتا، الحمدلله فحصوا وليد من شويا ومؤشراتهُ كويسة بيقولوا هيفوق على بليل إن شاء الله، وزهرة فاقت...
تنهدت بعمق وانشرح صدرها براحة، ثم هتفت متنهدةً بشكر:
-الحمدلله، الف حمد وشكر ليك يا رب....
ارتاحت معالم مريم هي الأخرى، والتي الا الآن لم تعلم بعودة سامي، طالعت سُمية سراج، وتسألت بضيق:
- اتأخرت ليه يا سراج، فكرتك هتصلي وترجع علطول...
نظر لها، مردفًا بهدوء:
- صليت الجمعة هناك جمب ماما، وطلعت سلمن عليها وقعدت معاها شويا....
أخفت ضيقها، من سيرة تلك المرأة التي تجعل بطنها تؤلمها، سارعت إلهام قائلة وهي ترى ملامح سُمية:
- ومالوا يا بني،... ادخل ريحلك شويا بقى على وقت الغدا كدا،..
أومأ موافقًا فهو بالفعل يُريد النوم قليلًا بعد أن اطمئن على وليد وزجتهُ، وقف رافعًا عباءتهُ البيضاء مردفًا:
- عنئذنكوا،.... تعالي يا سُمية عايزك....
ثم خطا متفاديًا ايها، يسبقها لداخل، هتفت إلهام بنبرة جادة:
- اومي يا بنتي شوفي جوزك عايز ايه
أومأ موافقة، وهي تقف مردفه:
- حاضر يا تيتا،... هديك الدوا آآ
قاطعتها مردفه برفض قاطع:
- روحي شوفي جوزك الأول يا سُمية، ومريم معايا اهي خلاص...
وقفت سُمية متجه نحو الداخل لزوجها، فتنهدت إلهام مردفه:
- ربنا يهدي سركوا ويقومك بالسلامة يا رب،.....
ثم طالعت مريم وقالت مبتسمة:
- ويجمع شملك انتِ وسامي ويكمل حملك على خير يا مريم يا بنت حكمت،.... ويرجعلي وليد وزهرة بالسلامة يا رب...
آمنت وراءها بصدق، ثم قالت باضطراب:
- تيتا..، كنت عايزه أطلب منك طلب...
انصتت لها، هاتفة باهتمام:
- قولي يا حبيبتي عايزه ايه!
_ يعني،.. بستأذنك أخد عز واروح اقعد عند امي، لحد ما وليد يرجع بالسلامة، وهبقى أرجع القصر....
زمت إلهام شفتاها بضيق، مردفه:
- ليه بس يا بنتي!!.
- معلش يا ماما، أنا مش مرتاحه هنا...، يعني آآ...
قاطعتها إلهام قائلة، تُزيل عنها الحرج:
- قصدك عشان سراج يعني!
أومأت بنعم، في خفوتٍ تام، فتنهدت إلهام وهتفت:
- طيب يا مريم، خلينا نتكلم بعد الغداء أفضل...
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
تقف في شرفة غرفتها تُطالع الحديقة من النافذةِ بشرود، صُراخها يدق أذنيها دقًا، وهي تطلب الرحمة منهُ، تطلب ألا يقتلها بتلك الوحشية، لكن لا جدى، وهي تتعامل مع شيطانٍ بجسد إنسان.
رفعت يداها تلطم أذنها ووجنتيها بقوة، صارخة ببكاء وصوتٍ خافت مكتوم:
- بس بقـــــــى، بس!!!!!!...آآآآآه....
صرخت متألمة، بتأويهٍ خرجت من أعماقها، تُريد الصراخ،.... تُريد الصراخ بصوتٍ أعلى بكثير من طاقتها، تُريد الصراخ حتى تجهد روحها وتخرج مع صراخها لتصعيد حيثُ روح والدتها.
تنهدت بعمق وزفرة أنفاسًا حارة، احتدت نظراتها وهي تنظر لنقطة ما بوعيد، رفعت عينها لسماء، قابضة بحدة على السور، حتى ابيضت مفاصل يدها، وهي تُحدثُ نفسها بتصميم، مُتحديه قدرة القدر وللأسف تحدت ربها أيضًا، وهي تُقسم أنها لن تموت قبل أن تقتلهُ،... لن تموت قبل هذا!!
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
يقفوا أربعتهم خارج غرفة العناية، سامي وفتحي يقفون بجوار الباب، وإبراهيم يجلس على أحد المقاعد تكادُ عيناهُ تغلقان من قلة نومهِ، ويجاورهُ سُليمان مغمض العينين يُسبح ربهُ.
فُتح الباب فتأهب الجميع، واقترب سامي من الطبيب مردفًا بلهفة:
- طمني يا دكتور، وليد أخباروا ايه!
ابتسم الطبيب، وربت على كتف سامي قائلًا:
- الحمدلله الباشا بخير، وعدى مرحلة الخطر نهائيًا، ونتوقع انوا يفوق في أي لحظة ان شاء الله....
علت زفراتهم الحارة، وكأنهم يحبسون أنفاسهم مُنذ زمن، احتضن فتحي سامي بمأزرة، وهو يربت على ظهرهِ حامدًا الله، فربت الأخر هو ايضًا، ثم رفع يدهُ سريعًا ينزع تلك الدمعة قبل أن تهبط.
احتضنهُ إبراهيم أيضًا، مردفًا بهدوء، ونبرة سعيدة:
- الحمدلله شدة وتزول يا حبيبي...
اقترب سُليمان هو الأخر يحتضنهُ، ثم ابتعد قائلًا بتصميم:
- احنا لازم نطلع حاجه لله، على سلامتهم هما التلاته...
ابتسم سامي على ذكر الثالث، هذا الجنين الذي حقًا الى الآن يتعجبون جميعهم من نجاتهِ، أجاب سامي بصوتٍ جاد:
- أكيد يا خالي، علطول بإذن الله...
دق هاتفهُ، فأخرجهُ من جيبهِ، يُطالع المتصل ثم قال مبتسمًا:
- تيتا،... قلبها حس...
فتح الأتصال ثم أجاب بنبرة سعيدة:
- ايوا يا تيتا..
- صوتك مبسوط يا بني، طمني على زهرة ووليد....
خطا خطوتين، هاتفًا بفرحة عارمة:
- الحمدلله يا تيتا، الاتنين كويسين، ووليد خلاص عدى مرحلة الخطر، ومستنينوا يفوق دلوقتي....
- اللهم لك ألف حمد وشكر يا رب،... الحمدلله،... وزهرة طيب طمني عليها...
- زهرة فاقت يا تيتا، بس لسا في العناية رافضين انها تتحرك خالص عشان الجنين مش مستقر،... ومتوقعين انوا ينزل، لكن هي بخير الحمدلله...
- الحمدلله يا رب، الحمدلله..... من حق يا سامي،... فرحتي بالـ سمعته نستني كنت هقولك ايه بس!!!....
عقد حاجبيهِ باستغراب، ثم قال بقلق:
- مريم كويسة يا تيتا!!..
- ايواااا مريم،... هي كويسة الحمدلله يا حبيبي، بس يعني استأذنتني انها تروح تقعد عند امها لحد ما وليد يرجع، محروجه من سراج، ومش واخده راحتها....
انكمشت ملامحُ مستهزأً وهو يقول بسخرية:
- اوديها عند حكمت يا تيتا!!،.. دي تسقط ابني!، انتِ عارفه هي بتكرهني اذاي، ولو تطول تطلق مريم مني،... مفيش مرواح هناك خالص، عايزاها تبقى تيجيلها القصر،.. متدخلش بيت سُمية كمان، ولا تطلع جناحي، أنا منبه على وليد لو جات متطلعش الجناح خالص....
استمع لصوت جدتهِ المزهول لما قال، ثم اتاهُ صوتها، قائلةً بضيق:
- ايه الـ انتَ بتقولوا دا يا سامي!، عيب يا بني مايصحش، دي امها برضوا،...
ابتسم ساخرًا من زاوية فمهِ، مردفًا بتهكم:
- امها آآه..!!، قولت لاء يا تيتا معلش، احنا ان شاء الله جاين بكرا خلاص، خليها تستحمل انهارده بس،.... انا عارف انها مش بتاخد راحتها في حته غير بيتها...
- والله يا بني، أنا من رأي تسبها تروح، اهو على الأقل تغير نفسيتها شويا!..
- مش عند حكمت يا إلهام!!!، المهم، خدت دواها بتاع بعد الغداء!..
- سُمية بتحط الأكل هي ومريم اهي وهناكل لسا،.. وبعد الغداء هاقولها تاخدوه...
تنهد بضيق وآسى، ثم قال بخفوت:
- خدي بالك منها يا تيتا بالله عليكي عقبال ما ارجع،... وعرفيها اني رجعت عشان تكون عارفه ومتتصدمش، مش عايز رجوعي يبقى وحش ليها، ولو كدا هسافر تاني...
- تسافر!!!، تسافر دا ايه بس انتَ مشفتش حالتها ولا عامله اذاي!!
ابتلع ريقهُ شاعرًا بقبضة حادة تعتصر قلبهُ، ظن في بعدهِ الراحة لها، لكن هو أشبه بمن وضع ملحً على جرحًا غائر!!
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
دولة الإمارات الشقيقة، خاصة مدينة دُبي، جلس بشكلًا أشعث، غير منظم أطلاقًا على أحد الأرائك يتنفس بقوة وحدة، ثم ادخل السيجارة الغير شرعية، والتي يدعو منظرها للنفور، يسحب نفسًا عميق منها، ثم زفرهُ على مهّل بتلذذ شديد ودار برأسهِ قليلًا حلقاتٍ دائرية، يحاول التغلب على دوارهِ.
ارتفع رنين الجرس الخاص بشقةِ في الخارج، فوضوع باقي السيجارة في الصحن، ثم وقف مترنحًا بأعين مُغلقة، واتجه نحو الباب.
فتح الباب ثم استند بثقلهِ عليهِ، فصاح من بالخارج مردفًا بضيق:
- عماد باعد عن الباب، باعد من هون يا خي !!
ابتعد عن الباب وهو يسحبهُ معهُ لداخل، حتى كاد يقع لولا انهُ كان يُمسك الباب، طالع الباب ثم فتح عينيهِ بخمول قائلًا بحدة:
- انتَ بتيجــــي معايا ليــــه!!
ابعدهُ الرجل عن الباب، ثم دفعهُ لداخل وهو يقول حانقًا:
- عماد، لك حالتك صار ميؤس منها كتير يا خي....
دلف الرجل بهِ نحو المرحاض، ثم أرغم رأسهُ على الإنحناء داخل الحوض، ثم فتح صنبور الماء البارد بقوة، فانهمر على رأسهِ، مما جعلهُ يصرخ عاليًا شاهقًا بخضة وفزع، ثم حاول المقاومة لكن كان يُمسك رأسهُ بقوة، حتى صرخ بعنف:
- خلااااص، ابعد عنــــــي...
ابتعد الرجل عنهُ، وأغلق صنبور الماء، ثم رفع سبابة بوجه عماد، مردفًا بحدة وغضب:
- لك اسمع الي راح قولوا منيح، مو معنى اني ممنون اِلك بحياتي، ووقفت جارك، مشان ما تموت، لأنك انقذتني، كل يوم والثاني اجي بشوفك هيك، خمران وراسك بعالم تاني،... والا تالله عماد تصير تمشي من هون وما بقى ترجع،... حرام عليك يا خي، لو مش مشان نفسك، مشان إمك!!،.... بيَك!!، اي شي لكن عم تدمر صحتك والـ حوليك هيك!!!...
شعر بدوار يعصف بهِ، فاستند بكفهِ على الحوض، ثم رفع رأسهُ ساخرًا ليقول:
- أنا أذيت كل الـ حوليا خلاص، بنتقم من نفسي، عشان اموت، انتَ..... انتَ انقذتني يوميها آآه، لكن.... لو... لو وقعت في اِدهم هيقتلوني،... عايز اموت بنفسي لكن ما متش على ايد حد!!....
زفر الرجل بخنقة، ثم طالعهُ بإزدراء، وخرج بعد أن قال بضيق:
- انتَ حر بنفسك عماد..
اتجه عماد يُغلق الباب بعد أن خرج، ثم نزع ثيابهُ واتجه نحو حوض الإستحمام، فتح المياه الباردة في هذا الجو البارد، فتدفقت فوق رأسهِ، ارتعش جسدهُ وتوقفت شُعيرات جسدهِ إزاء القشعريرة، وتلقائيًا وجد حالهُ يبكي بشدة وعنف، ندمًا على ما فعلهُ بابنة عمهِ.
مدَّ يدهُ يمسح الماء من على وجههُ ويفرك بعيونهِ بحدة، متذكرًا تلك الحادثة التي مرَّ بها، والتي كانت ستؤدي لحياتهُ الجحيم..
"عودة بالوقت للوراء"
طالع الشقة التي سيمكث فيها الآن بنظراتٍ تقيمية، تنبعث الأعجاب منها، صفق بيديهِ مردفًا ورأسهُ تحفل معهُ مهتزةً:
- دبي دبي يعني مفيش كلام،.... واللهَ والـ حظ لعب معاك ياض يا عُمد....
وضع حقيبتهُ، ودلف يتفحص الغرف بأعين متسعة بانبهار، فأخيرًا سينعم بدفء المال والغناء، بعد أن قضى أسبوعًا في شوارع دبي، وضاحي يوميًا يخبرهُ أن ينتظر، لكن قد فاض بهِ الكيل وهددهُ انهُ سيخبر سامي بما حدث، إن لم يجد لهُ مكانً يبيت فيه، والعمل الذي وعدهُ بهِ.
ومرت أربع أيام في عملهِ الجديد، حتى حدث صدفة أمام مرأى عينيهِ اعتداء على أحد الرجال في أحد الشوارع الخالية، تحرك سريعًا عندما وجد انهم على وشك قتلهِ، وأحقاقًا للحق لا يعلم من أين خرجة تلك الروح المدافعة!.
حاول إبعاد الرجال عن هذا الرجل، وقبل أن يتحرك لضرب أحدهم احاطتهم خمس سيارات دفع رباعية، هبط منها رجال ضخامِ الجثة، يدافعون عن سيدهم وهم يعتذرون لتأخيرهم، ثم استدار الرجل لعماد، وربت على كتفهِ مردفًا بشكر:
- بتشكرك كتير، كنت مستعد تدافع عني وهم أكثر منا، حقيقي أنا ممنون لألك...
رفع منكبيهِ، بلا مبالة، ثم قال:
- عادي ولا يهمك..
عقد حاجبيهِ مستغربًا، وهتف:
- مصري انتَ..!!
أومأ موافقًا، فرحب بهِ الرجل قائلًا:
- نورت هون يا رجل، أنا صالح عواد وهذا رجمي الخاص، إذا بتحتاجني هتلاقيني....
وانتهى اللقاء بينهم بعد أن أخبرهُ عماد اسمهِ، وماذا يفعل هنا، مرت أيام وقد نسى ما حدث، حتى انهُ لم يتوقع رؤية الرجل مرة أخرى.
وكعادتهِ، أنهى عملهُ ثم رحل، مقررًا السير نحو البيت، فهو الى الآن لم يأخذ أجر عملهِ، كما أن الأموال التي معهُ على وشك النفاذ، كان شاردًا بما فعلهُ بابنة عمهِ قبل أن يسافر، الآن فقط يشعر بمدى دناءتهِ وحقارتهِ، لكن عندما يرى هو أين وبماذا يعمل .. ينسى وكأن شيء لم يحدث!.
توقفت حولهُ سيارة سوداء، حاصرتهُ في أحد جوانب الطريق، وقبل أن يُبدي ردة فعل، هبط منها أربعة رجالًا تكابلو عليهِ، ثم بدأوا بتوسيعهِ ضربًا، وهو يصرخ عاليًا طالبًا النجدة، يلعنهم ويسبهم بأبشع الألفاظ حتى يكفوا عنهُ.
خمدت حركتهُ من كثرة ما تلقى من ضربًا، فطالع أحد الرجال منهم الطريق من الجهتين، فوجد ثلاث سيارات تأتيان من بعيد، فصاح بهم قائلًا:
- يلا بسرعة،... في حد جاي،.. والباخرة قدامها ساعة عقبال ما تطلع ويادوب نلحق نطلع على الميناء....
رفعوا جسدهُ، وما كادوا يزجزن بهِ لسيارة حتى توقفت السيارات حولهم، يحيطون بهم، ثم هبط منها صالح عواد يُطالع رأس عماد، والتي رغم كثرة الضرب بها، الا انهُ علمهُ.
"عودة للوقت الحالي"
اختلط الماء بدموع ندمهِ أكثر، فقد أصبح على قرابة من الأربع شهور، لم يخرج من هذا المنزل أطلاقًا، يعلم ان رجال آل صفوان يتربصون لهُ وينتظرونهُ، وهو لو ظل طوال العمر هُنا، لكن لا يموت بين أيديهم
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
هل يستمع أحدًا لتلك الدقات التي تعلو بصخب من قلب، تجزم انهُ سيقف الآن، وضعت يدها على قلبها تضغط عليهِ برفق وليّن والإبتسامة تنبثق من بين شفتاها، رفعت وجهها لأعلى تعض شفتاها السفلى مانعة نفسها من البكاء، لكن لم تقدر، تأثر قلبها حنين لتلك المشاعر التي تطرق قلبها طرقًا، أربعة أشهر أيضًا تعدُّ أربعة قرون لها، ولقلبها الصغير الذي كان يوميًا يحتضن قلبهُ....
تنهدت بشوق وهي تُعيد رأسها للوراء، متذكرة حديث الجدةِ مُنذ قليل...
"عودة بالوقت للوراء"
تقدمت تحمل صينية بها كوب شاي، وطبق من البسكويت، ووضعتهُ على الكومود بجوار السرير، ثم مكثت عليهِ جوارها، وهتفت:
- ها يا تيتا فكرتي!
جذبت كوب الشاي، ثم ارتشفت منهُ القليل، ووضعتهُ بين كفيها ليدفء يدها، وطالعت مريم قائلة بهدوء:
- مش أنا الـ أفكر يا حبيبتي، سامي هو الـ يفكر، انتِ تستأذني منه هو مش أنا...
زفرت بضيق جلي، وتنهدت مبتلعة تلك الغصة بحلقها، ثم قالت بحزن:
- بتتكلمي وكأنك مش عارفه الـ بنا يا تيتا!!
اعتدلت إلهام، ثم سحبت كف مريم بين كفيها بعد أن وضعت كوب الشاي أعلى الصينينة، أخذت نفسًا عميق، ثم قالت مبتسمة:
- بصِ يا حبيبتي، مهما كان أنا ست زيك، وفي يوم من الأيام كنت بحب جوزي ولحد الآن عايشه وأنا بتمنى أطلع النفس مدخلهوش تـ..
قاطعتها بلهفةٍ وعتاب، مردفه:
- ايه الـ بتقوليه دا يا تيتا، ربنا يبارك في عمرك،..... عايزه تسبينا شبه ماما منال يعني!
- الموت علينا حق يا بنتي، وبعدين لو أنا ومنال سبناكوا، ربنا الأحسن مني ومنها معاكوا،.. المهم.... الـ حصل بينك وبين سامي دا مفيش حد يقبلوا، ولا يوافق عليه، بس لو دا كان بجد، عارفه... لو اعرف انك بنت من اياهم والكلام دا، كنت مستحيل ادخلك عيلتنا، العيلة الـ فضل جوزي طول عمره يحابي عليها، ويختار كنة ابنوا كويس..، وحتى لو إرادة سامي أقوى من اني امنعة واتجوزك، وكان الـ حصل دا فعلًا حقيقة، أنا بنفسي كنت قتلتك،.....
ارتابت نظراتها نحوها، فابتسمت إلهام باتساع، وتابعت:
- بقول لو انتِ مش كويسة يا مريم، بس انتِ ست البنات كلهم، ولولا اني شايفه حب سامي ليكِ، وانتِ كمان، كنت وقفت في صفك وقولت يعني لا بتحبه، وضربه واتهمها بالخيانة، وهتبقى بقايه عليه!، لو حسيت انك هتتظلمي صدقيني كنت طلقتك منوا،.. بس المقدار الـ اتظلمني بيه، نفس المقدار الـ اتظلم بيه هو كمان،... انتوا الاتنين ضحية،... حفيدي كان في دنيا تانيه وانتِ مش موجودة يا مريم، حالته كانت تصعب على الكافر بجد، وقلبي كان بيتقطع عليه، من نحيه سامي، ومن نحيه سُمية، ووليد كمان، وانتِ، قلبي كان محروق عليكوا كلكوا، بس أنا مليش حكم على قلب حد فيكوا، سراج جه وقالي يا تيتا أنا عمري ما اعمل حاجه زي كدا، وبحب سُمية وشاريها وعايزها،.. وهعمل كل حاجه عشان تسامحني وترجعلي،....
تنهدت وهي توميأ ساخرة:
- ويا ضنايا مفكر انها بالمسايسة والهدوء هتيجي، ميعرفش انها يا عين امها عايزه تتسك على نفوخها والـ يديها على دماغها عشان تتعدل،... وهو ما شاء الله خد مني المفتاح، وتاني يوم عرفت انها روحت معاه....
قهقت مريم بصوتٍ عالي، فقد استغرب الجميع ذهابها مع سراج، حتى انها لم تصدق عندما قصت لها زهرة ما حدث، شعرت بكف إلهام يضغط على كفها برفق، فطالعتها، لتتابع:
- إنما انتِ بقى!، سامي اختار واجعه على راحتك انتِ، مفكر بكدا هتكوني مرتاحه، بس برضوا لا هو ارتاح ولا انتِ ارتاحتي....، عشان راحتكوا انتوا الاتنين عمرها ما كانت في البُعد يا مريم،... كان يكلمني يقولي خايف تكون كرهتني يا تيتا، وأنا اقوله ارجع وصالحها يقولي مش عايز اتقل عليها او تكون تضطر ترجعلي عشان الولاد..... ولما الدنيا ضاقت عليه، وقالي انوا بيحلم بيكِ بتعيطي، وبتعاتبيه.... رن عليا وقالي انوا حلم بيكِ،.... وحكالي الحلم، وبعد كدا قالي مش هينزل مصر تاني، ويكتبلك نص ورثوا ليكِ، ولو عايزه تفضلي في القصر وتربي العيال معندهوش مانع، ولو مش عايزه تقعدي معانا، هيوفرلك مكان تقعدي فيه انتِ والأولاد يكون مطمن عليكوا فيه،......
تنهدت بحزن، وهي تُتابع مريم ومقلتيها قد كونت طبقة دامعة رقيقة تُهدد بالبكاء، أكملت:
- كان تايه ومش عارف يعمل ايه،... بس كل الـ عايزه كان هو راحتك وبس....
ابعدت يدها من كف إلهام بحدة، ثم وقفت قائلة ببكاء ونبرة غاضبة:
- حفيدك دا أناني يا تيتا،... قوليلي مريم بتقولك انتَ أناااني يا سامي، وخليه عنده.... مش عايزااه...
ثم تحركت وقد علا صوت بكاءها، وهمت بفتح الباب، فهتفت إلهام باسمها بمكر وهي تسحب كوب الشاي نحو فمها هاتفةً:
- مريم...
توقفت للحظات، دون أن تستدير، فتابعت إلهام بنبرة أشدُ مكرًا:
- على فكرا سامي رجع، وهو في الغردقة مع اخوه من امبارح، وقالي عرفيها اني هنا، عشان مش عايز رجوعي يبقى صدمة ليها ولو كدا يرجع تاني إيطاليا....
تعالت دقات قلبها، وهي تضغت على شفتاها كي لا تبكي فرحًا بهذا الخبر، هُنــا، قد عاد!!!!
ازدادت شفتاها اتساعًا مبتسمة، وهي تبكي، انتبهت مسامعها لقول إلهام:
- بس هكلمه اقوله مريم بتقولك انتَ اناني يا سامي، وخليك عندك هي مش عيزاك....
استدارت لها سريعًا، مطالعة الجدة بغضب، مردفه بتزمر وحدة:
- والله بقى!!!
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
الساعة الثالثة ليلًا بعد منتصف الليل، في مدينة الغردقة، كانت تبكي بإنهيار تام والجميع يرفض أن يساعدوها حتى تذهب لرؤيتهِ.
وقفت جوارها الطبيبة الخاصة بها، ثم هتفت بضيق:
- يا هانم، مينفعش تقومي خالص، حالة الجنين في خطر، وانتِ كدا بتساعديه ينزل....
رفعت يداها، تضغط بها على بطنها برفق، ثم طالعتها باكية وهي تقول:
- أنا مش حسا بتعب، بالله عليكِ سبيني أشوفوا، انتوا مخبين عني اييه!!،.... أنا عايزه أروحله.....ودوني ليه بالله عليكِ...
أمام غرفة العناية التي يقبع بها وليد، كان القلق يأكل قلوبهم، بعد أن أخبرهم الطبيب أنهُ في ظرف الساعات القادمة سيفق، والى الآن لم يحدث شيء!!.
زفر سامي بضيق، وقلق جمّ، ثم قال:
- لاء، كتير كدا وأنا مش هقدر استنى أكتر.....
اقترب إبراهيم منهُ، محاولًا تهدئتهِ، وبالأصل هو سينفجر من القلق أيضًا، هتف محاولًا تصنع الهدوء:
- يا سامي اهدى، متقلقش هتلاقيه هيصحى دلوقتي ولا حاجه، اصبر بس...
أومأ رافضًا، ثم هتف بخوف:
- مه مصحاش لحد دلوقتي اهو، أنا غلطان اصلًا اني سمعت كلامك ومسفرنهوش برا من بدري، كان زمانوا فاقـ..آآ..
- المريض فااق يا بهوات...
اندفعت الممرضة، تهتف بتلك الكلمات بسرعة ولهفة، فتقدم الجميع منها على رأسهم سامي، الذي قال بسعادة:
- بجد فاق، عايز اشوفه،.. ابعدي عايز ادخله....
أوقفتهُ الممرضة، قائلة بهدوء:
- استنى يا فندم، الدكتور يشوفوا الأول، واحتمال يتنقل أوضة عادية وتشفوه كلكم،..... بس لو زهرة الـ بينادي عليها موجودة ممكن تدخله، هي بس...
أومأ إبراهيم، مردفًا:
- لاء هي تعبانه ومش هتقدر تقوم....
- خلاص، استنوا الدكتور لما يجي عشان ميتعبش....
ابتعد الجميع عندما سارت بينهم، واستند سامي على الحائط يحني ظهرهُ للأمام يحتضن وجههُ بكفيهِ يحمد ربهُ على إنقاذهِ لوليد وزهرة أيضًا.
احتضن إبراهيم فتحي بسعادة فصديقهم سيعود لهم قويًا كما عاهدوه من قبل، الجميع فرحتهم لا تسعهم بعد ساعاتٍ من التوتر والقلق والخوف، خصوصًا هذا الإرتياب الذي انتابهم بعد استيقاظ زهرة وطلبها الدائم برؤيتهِ.
مرت ساعة كاملة، طمئنهم الطبيب على حالهِ وانهُ بات بخير، والآن ينتظرون خروجهُ من الغرفة كي ينتقل للغرفة عادية.
انفتح الباب وخرج السرير النقال وجسد وليد يقبع أعلاهُ، واثنين من الممرضين يدفعونهُ، تحرك الجميع حولهُ هاتفين باسمهِ وهو مغمض الأعين، بإرهاق وتعب، لكن فور ان استمع لصوت اخاهُ فتح عيناهُ ببطئ باحثًا عنهُ.
رأهُ يقف بجوارهِ، فابتسم لهُ بإرهاق، لتتسع ابتسامة الأخر، ثم انحنى نحو رأسهُ يقبلها، فتوقف الممرضين من دفع السرير، ومدّ سامي يدهُ نحو كف اخوهُ ثم انحنى أكثر يقبلها برفق، مردفًا:
- حمدلله على سلامتك يا خويا....
ابتسم وليد لهُ بحب، مردفًا بخفوت:
- حمدلله... على سلامتك انتَ.... فكـ... فكرتك هتغيب علينا.....
اقترب إبراهيم منهُ، وانحنى مقبلًا رأسهُ بحب أخوي جمّ، ثم ابتعد هاتفًا:
- حمدلله على سلامتك يا صاحبي،... بقى كدا اغيب عنك خمس دقايق القيك خدت البت ونطيت في المايه، ينفع كدا.....
قهقه الجميع على مزحتهِ، حتى الممرضين ابتسموا بخفوت، سعل وليد عندما همّ بالضحك، فأوقفهُ فتحي مردفًا بمزاح:
- بس يا عم ما تضحكش، أحنا مصلبينك بالعافية.....
ابتلع ريقهُ بصعوبةٍ، ثم هتف هامسًا:
- آه يا شوية كلاب، ... أأوملكوا بس....
مال فتحي نحو إبراهيم، قائلًا بمرح وسخرية:
- اعرف بس ايه الـ مقوي قلبه كدا...
عاد الممرضين يدفعون سريرهُ ثانيةً، لكن رفع وليد يدهُ ليقفوا، فأشار سامي لهم بأن يقفوا ثم مال عليهِ، متسألًا:
- عايز ايه!
- ودوني لزهرة الأول...
هتف فتحي بهدوء، وتريث:
- استنى طيب ترتاح شويا، هتقابلها بحالتك دي!....
ربت إبراهيم على كتفهُ مردفًا:
- هي كويسة متقلقش، ارتاح شويا، وبعدين روحلها...
حرك رأسهُ رافضًا بخفوت، ثم قال:
- لاء أشوفها الأول،..... هرتاح لما اشوفها واطمن عليها... ودوني ليها...
تحت أصرارهُ، اضطروا لأن يوافقوا على طلبهِ، ساروا جميعًا نحو الغرفة التي تمكث بها زهرة، حتى توقف سريرهُ عند الباب، فقال:
- مش عايز أدخل كدا...
همّ بالأعتدال، فأوقفهُ سامي قائلًا:
- بلاش يا وليد، انتَ لسا تعبان مش هتقدر تقف لوحدك....
اعتدل جالسًا، وأنزل قدميهِ للأرض، فانكمشت ملامحهُ بألم خفيف، ثم طالع اخوهُ وهتف مبتسمًا:
- تعال اسندني...
طيلة حياتهُ وهو من يستند على كتف اخوهُ الكبير، والآن يطلب منهُ هو هذا، احاط ذراعهُ القوية بظهرهِ من الأعلى تحت ذراعيهِ، ثم أنزلهُ من أعلى السرير، واقترب الإثنين من الباب، استمع لصوت بكاءها، فاضطرب وتوترت أنظارهُ قائلًا بقلق:
- هي بتعيط ليه كدا!
هز سامي رأسهُ بيأس، ثم قال:
- الدكتورة رفضه تخليها تقوم تجيلك، وزهرة مش عايزة تاخد منوم...
- طيب خبط الأول....
تحرك الإثنين نحو الباب، ومدّ سامي كفهُ يطرق الباب ثلاث طرقات متوالية، صمت صوت زهرة بالداخل، وهي تُطالع بترقب من الطارق، قلبها المعتوه يُخبرها بوجودهُ، وتنهدت براحة لتلك الفكرة، واستمعت لطبيبة تأذن لطارق بالدخول.
فُتح الباب، فشرأبت بعنقها لتراهُ يستند على جسد سامي ويتقدم نحوها ببطئ، تجمعت الدموع تلقائيًا لعينها وهي تراهُ، يسير بصعوبةٍ غير قادر على التحرك، هتفت اسمهِ بخفوت فطالعها مبتسمًا، ثم احتدت نظراتهُ وهو يراها تدفع الغطاء عنها لتهبط، فقال محذرًا:
- خليكِ مكانك، أنا جاي لحد عندك...
خمدت حركتها، وانتظرت قدمهُ نحوها بقلبٍ متلهف، كانت الطبيبة تقف بعيدًا قليلًا لتسمح لهُ أن يكون جوارها، بينما سامي فعيناهُ في الأرض؛ لعلمهِ أنها مكشوفة الرأس.
أصبح جوارها، فالتقطها بين أحضانهِ، محتضن ايها بشوق وحنين، تشبثت بثياب المشفى التي يرتديها، وهي تبكي بحدة على هذا الكابوس الذي تعايشت معهُ، لا تُصدق أنهم وأخيرًا اصبحوا بمأمن.
جلس جوارها على السرير، فوجد سامي انهُ لا داعي لوجودهِ، لذا خرج، أما الطبيبة فقد كانت بحيرة، أتخرج الآن قبل أن تقول ما لديها، أم ماذا!، فـمعاد عملها قد انتهى، وتخشى أن تأتي غدًا تجدهم قد رحلوا.
أزال دموعها برفق مقبلًا جبهتها، فهمست بنظراتٍ خائفة:
- انتَ كويس!!....
أومأ مبتسمًا بحنان، مردفًا بصوتٍ هادئ:
- بقيت كويس لما شفتك.....
حانت لهُ التفاته نحو الطبيبة، والتي تعجب من وجودها، هتف متسألًا بجدية:
- هي كويسة..!!
هتفت زهرة قبلها، بنبرة متعجلة:
- أنا كويسة متقلقش.....
ثم طالعت الطبيبة، وأومأت رافضة بخفوت وأعين دامعة، فزمت الطبيبة شفتاها ورفعت كتفها بقلة حيلة، انتبها لهم الإثنين فساور القلق قلبهُ، شدد من احتضانها، فاستكانت مغمضة الأعين، ويداها تحتضن جنينها ببطنها البارزة كبيرًا الى حدًا ما، قبضت على يدها الأخرى، وهي تستمع لسؤالهِ المتوجس الخائف:
- في ايه، طمنيني عليها!!!....
انقبض قلبهُ عندما استمع لصوت أنينها الخافت، وهي تدفع رأسها في صدرهِ وكأنها تُريد أن تختبئ داخلهُ، أخذت الطبيلة نفسً عميق، ثم وجهت أبصارها نحوهم، وهتفت:
- أنا عرفت الـ حصل لزهرة هانم من بداية حملها، بعد ما عملتلها تحاليل وأشاعات امبارح من أول ما جات عشان نطمن عليها وعلى الجنين،... هي كويسة مفهاش حاجه، لكن الجنين عنده تشوهات في جسمه،..... و...
تسارعت أنفاسهُ بفزع واضطراب، ورفعت زهرة كفها تكتم شهقاتها بباطن يدها، حمحمت الطبيبة وتابعت بأسف:
- قالتلي انكوا مستنين تعملوا أشاعة 4D عشان تطمنوا على الجنين، وهي لسا في الأسبوع الأول من الخامس، فعملتهلها.... البيبي دا لو جه هيكون من أطفال متلازمة داون، غير التشوهات الـ هتكون موجودة كمان!!!!!...

꧁꧁꧁꧁꧁꧁꧂꧂꧂꧂꧂

500 تعليق والبارت الـ بعده هينزل♥

تائهة فِي سَرَايَا صَفْوَان  © -مُكتملة- حيث تعيش القصص. اكتشف الآن