تائهة في سرايا صفوان
الفصل السابع والخمسون
꧁꧁꧁꧁꧂꧂꧂꧂دلف الحجرة، وهو يحمل في كفهُ هاتفهُ يحادث أحدهم قائلًا؛
- طب خلاص، مشكرين يا راضي، الف شكر يا خويا، بسلامه انا
أغلق الهاتف مع هذا الشخص، ثم تقدم من ياسر، وقال بمكر:
- ليك عندي خبر، بملايين الدنيا كلها...
اعتدل ياسر قليلًا، وطالعهُ باهتمام مردفًا:
- قول قول، انا من ساعة ما جيت هنا، مجبتليش خبر عدل واحد حتى
غمز ضاحي بخبث، وهتف:
- لاء المره دي، الخبر هيعجبك اوي...
- ما تقول يا ضاحي، انتَ هتنقطني!، ادخل في الموضوع على طول
وثب ضاحي جالسًا جوارهُ، هاتفًا:
- ءامين يا برنجي، حبيب قلبكـ آ
قاطعهُ ياسر، مردفًا باستغراب:
- وليد!
- وهو فيه غيروا!، هو الباشا، رجع القصر انهارده من حوالي ساعة الاربع، هو والمزمزيل مراتوا
انتبه لهُ ياسر، وطالعهُ بمتعن، قائلًا:
- انتَ متأكد من الكلام دا!، راجعوا!!
- عيب عليك يا باشا، الراجل الـ حطه هناك، قالي راجعوا،.. وخد الجامدة دي بقى!!
أصغى لهُ ياسر وعينيهِ مليئة بالترقب، فهتف ضاحي بخبث:
- القصر معلهوش حراسة خاالص
شرد ياسر في هذا الخبر قليلًا، وابتسامتهُ الخبيثة تنجلي فوق شفتاه، والتي ما لبثت ان انطفئت قبل أن يقول:
- ما ممكن يجيب الحراسة انهارده يا ضاحي!
اعتدل ضاحي في جلستهُ، ثم أدار رأسهُ يمينًا ويسارًا محدثًا صوت لطرقعة عظام الرقبة، ثم هتف بلامبالة:
- وأحنا لازم نكون أسرع منهم يا باشا، انتَ قولتلي عايز المدام، وأنا بقولك هتاخدها اذاي!
وقف ياسر متنهدًا بشرود، ثم سار في أرجاء الغرفة، يفكر ويفكر مليًا فيما هو مقدم عليه، متذكرًا حديثهُ ليلة أمس مع ضاحي، بالتأكيد هذا الطفل يهم حياة وليد.
اقترب من الشرفة وأزاح الستار ببطئ، وطالع القهوة التي أمامهُ والذي يمكث عليها كثيرًا من الشباب، وقعت عيناهُ على أربعة رجال يمكثون على مقاعد في ركنً يُتيح لهم النظر لهذا البيت الذي يسكنهُ مع ضاحي.
رفع أحد الرجال نظرهُ نحو الشرفة التي يقف بها ياسر، فترك يدهُ سريعًا ليعود الستار كما كان، مما يمنع رؤية أي شخص في الخارج لهُ.
أصبح متأكدًا لماهية هؤلاء الرجال، فهم يجلسون منذ عدة ايام، بعد أن أتى لهنا، طالعهم خفية من وراء الستار، ينظر كل واحدًا منهم بين الحين والأخر، للمنزل.
شرد ياسر قليلًا، في ذكرى أخرى مع وليد، أخر مرّة ذهب لمكتبهُ بها، عندما أطلق وليد الرصاص على قدمهُ، ثم احتجزهُ بعدها..
"عودة بالوقت للوراء"
سعل بشدة وهو يُخرج دماء من فمه وأنفه ايضًا واستغل قرب وليد منه فقال بصوت متعب للغاية :
_ هيـ... هي حرقاك اوي كدا .. والله لوجع قلبك عليـ... آآآهه
وجه له ضربه في معدته بقدمه بقوة شديدة جعلته يتأوه بشدة ...فأحاط بطنه بذراعيه ليضربه أخرى في جذعه ...، وكاد أن يمسكه ليوقفه كي يستطيع الضرب براحه أكثر ،إلا انه وجد عادل يتدخل ممسكًا ايها من ذاعه قائلًا :
_ وليد باشا .. اهدى كدا ،ماتوديش نفسك عشان كلب زي دا ...
"عودة للوقت الحالي"
وجد نفسهُ بقبض على يدهُ بحدة حتى أبيضت مفاصلهُ، لمعة الثأر بعينهِ لا يمكن أن نطفئ الآن أبدًا، لن تنطفئ قبل أن يحرق قلبهُ عليها، وليس هي فقط، بل طفلهُ القادم ايضًا.
سيحرق قلبهُ كما حرق جميع ما لهُ، حتى بات على أعقاب الموت من الجوع، ونقص المال.
التفت لضاحي، الذي أشعل سيجارتهُ، وبدأ باستنشاق دخانها، اقترب منهُ وجلس على مقعد غير الذي كان يجلس عليهِ، ثم طالع ضاحي وهتف بعزيمة:
- ركز معايا يا ضاحي، عشان كل دا هينتهي الليلة دي!!...
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
عاونت جدتها في مكوثها بالسيارة، ثم صعدت جوارها، نظرت إلهام نحو سراج الذي يقف يُحادث أحدهم، ويحمل عز الدين النائم على ذراعهُ، وقالت:
- جوزك دا هيبقى حنين اوي لما ابنكوا يجي يا سُمية...
نظرت سُمية نحو سراج، بنظراتٍ دافئة، ثم هتفت بحب:
- سراج طول عمره حنين يا تيتا اوي،
ثم تنهدت بحزن وأكلمت:
- ماما الله يرحمها، كانت دايمًا تقولي دا فيه حنان يكفي الدنيا يا سُمية
زمت إلهام شفتاها بحزن، وقالت بهمس:
- الله يرحمك يا منال انتِ وسالم يا رب...
أكملت سُمية حديثها عن سراج، وقالت مبتسمة:
- دا انا لما بعصبوا ولا حاجه، بيبعد عني خالص عشان ميتعصبش عليا هو كمان، اكتر حاجه وليد كان خايف منها انوا يتعصب عليا في يوم ويعمل فيا حاجه
- اخوكِ كان خايف عليكِ يا سُمية، بس سراج اثبت فعلًا انوا بيحبك اوي
ابتسمت وهي تُطالعهُ مقدم عليهم، وقالت بمشاعر جياشة:
- يااه، اوي اوي يا تيتا
فتح سراج الباب، واستقل مقعد السائق، وألقى عليهم السلام، فقالت إلهام:
- هات عز يا بني عشان تعرف تسوق
ابتسم سراج مردفًا:
- لا يا تيتا خليكِ، انا هصحيه اصلًا عشان ميتعبش اموا بليل، دا خمّ نوم الولا دا... عزوزز، يا عز... انتَ يلا
بدأ يهز جسدهُ حتى يُقظهُ، وهو يفتح عين ويُغلق الأخرى، هتفت سُمية ضاحكة:
- يلهوي عليك يا عز!، الـ يشوفك كدا، يقول اننا مسهرينك طول الليل يا بني!
بعد دقائق بدأ سراج بالتحرك بسرعة الى حدًا ما، فانكمشت ملامح سُمية بألم، وهتفت بصوتٍ منخفض:
- سراج، سوق براحة شويا..
ابطئ السرعة قليلًا، وهو يُطالعها بقلق، هاتفًا:
- مالك في ايه!
أخذت نفس عميق، تُهدأ بهِ حالها، ثم أومأت قائلة بتعب قليلًا:
- لاء يا حبيبي مفيش، السرعة بتوجعني شويا
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
صحراء، ورياح شديدة تجول في الأرجاء، تكاد تقتلع تلك الخيم الثلاث المنصوبة بلون رمال الصحراء تمامًا، كان يقف حوالي سبح رجال مدججين بالأسلحة من كل جانب، وسيارة -نصف نقل- يوجد عليها خزانات مياه وبعض المؤنة لهم.
داخل أحد الخيام والتي تُعد أكبرهم، يجلس أربعة رجال حول طاولة مستطيلة الشكل، مليئة بالأوراق، ويجلس على قمتهم رجلًا يبدو من الوهلة الأولى كبيرهم.
هتف، وعينيهِ لم تُحد عن الصورة التي تقبع امامهُ، وبنبرة يملؤها الخبث قال:
- أنا عرفت اذاي هخليه ينسحب، دي مبقتش معركة ضد الحگومة دي بقت تار ولازم اخده
أومأو جميعًا موافقين، وهم يهمهمون ببعض السبات الاذعة، وهتف من يجلس جوارهُ على جهة اليمين، بصوتٍ حاد:
- دم الشيخ عزيم مش هيروح على الأرض يا سيادة الأمير، دا بقى تار زي ما قولت
تأثرت ملامح الرجل الكبير - في المكانة وليس الشكل- ثم رفع كفيهِ يمسح الدمعة الزائفة التي كادت تمر من بين جفنيهِ، وقال مهمهًا بتأثر وحزن مصطنع:
- الله يرحمك يا خوي، كُنت هتمسك الولايا من بعدي يا ابن ابوي
رفع الرجل -الذي يمكث جهة اليسار- ذراعهُ مربتًا على فخذهِ، وهو يقول مأزرًا:
- وحد الله يا سيادة الأمير، كلنا تحت رجلك ورهن أشارتك، قول انتَ عايز ايه، وايه الـ في بالك واحنا هنعمله، أحمد الجبالي لازم يموت
غمغموا جميعًا موافقين على ما قالهُ وبشدة، وهتف أحد الرجال الأخرين، بنبرة حاقدة:
- دا زي الجُط بسبع ترواح، مكفهوش الـ عملوا في اخوتنا في مدينة الكفرة بتاعتهم، چاي لحدينا، وعايز يخلص علينا، معتش فيه شباب گتير يا أميرنا، لازم ينجتل جبل ما يجتلنا كلنا، ورايتنا وهدفنا يموت معـ...
صاح الأمير مقاطعًا اياهُ بنبرة محتقنة، وملامح غليظة، هاتفًا بحدة:
- الا الراية يا وجدي، الا الراية،... أحمد الجبالي مش بس قضى علينا، دا حبس كباركوا من بعدي، عبدول وناصر وابوا عبدالله وغيرو وغيرو، مش نافع معاه قتل، كل مرّة بتخيب وبينفد منينا، حتى اخوه الخرع، زيوا برضوا، خبطة عربية تودي أطخن طخين المقابر عدل، نفد منها زي اخوه،.. المرّة دي، مفيش حد منهم هدفنا،...
ثم سلط أبصارهُ، على الصورة التي تقبع أمامهُ على الطاولة، وشق ثغرهُ ابتسامة ماكرة، وهتف رافعًا أحدى حاجبيهِ لأعلى:
- المرّة دي الحلوة مراتوا هتموت قدام عينوا،... ومش بس كدا!، يمين عظيم تلاته ليقتلها بايدوا!!!
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
قد ضاق بهِ ذرعًا، الا انهُ سيتحمل لأجلها فقط، لأجل أن تلك الأيام، بل تلك الشهور على خير وتضع طفلهم، جذّ على أسنانهِ وهو يُطالعها قائلًا بهدوء ونبرةٍ جافة، على عكس براكين الغضب التي تثور داخلهُ:
- كملي أكلك يا زهرة، أنتِ قولتي لو خرجتي من المستشفى هتهتمي بصحتك، يريت ماتخلنيش أندم اني وافقتك وخرجنا
احتقنت عيناها بالدمع، وقبضت على الفراش محاولة كبت دموعها أصبحت غير قادرة على تحمل تلك المعاملة منهُ، والذي أصبح متقمصًا لها درجة أولى منذ حديثهم تلك الليلة!.
طفح الكيل بها، أبعدت وجهها عنهُ تبكي، بصمت وعيناها مغمضتين، جذت على أسنانها بقوةٍ، وهي تستمع لصوت زفيرهُ الحاد وصوت الملعقة التي ألقاها بحدة في الصنية.
قبض على يدهُ حتى شعر انها تخدرت من قوة القبضة، وقف واضعًا صنية الطعام على الطاولة المتحركة، وابعدها قليلًا للخلف، ثم دار حول السرير وهي تتبعهُ بعينها في خفية، وشهقاتها تتعالى واحدة تلو الأخرى، تكاد تصم مسامعهُ.
جلس جوارها، وبدون مقدمات اجتذبها لأحضانهِ بقوةٍ، غير عابئ بالامها ولا أي شيء، فقط يريد أن يبثها الآمن الذي داخلهُ، وهي أيضًا كتمت تأوها داخلها، وأطلقت شهقاتها الباكية، وهو يدفن وجهها بين حنايا صدرهُ يربت على ظهرها وشعرها بحنان.
تركها تخرج كل ما بجوف قلبها من بكاء، صرخات، وشهقات، حتى أنتهت وبدأت تهدأ قليلًا، قبْل أعلى رأسها برفق، وهو يحتويها بحماية أكثر، فاستندت بجانب وجهها على صدرهِ، وهمست بألم:
- عايز تطلقني يا وليد!، ومش عايز البيبي دا!
ارتفع حاجبيهِ زهولًا مما قالتهُ، وبسط ذراعيهِ للأمام بعد أن كان يحتضنها، ثم هتف بصدمةٍ وصوتٍ عالي:
- يا شيخة وعهد الله ما قولت كدا، ولا جبت سيرة طلاق ولا اني مش عايزه
ثم صمت قليلًا، وعادت يديهِ كما كانت، وهتف بصوتٍ منخفض يملؤهُ العتاب:
- انتِ الـ قولتي كدا يا زهرة، انتِ قولتي كل حاجه مسبتليش فرصة اتكلم...
ابتعدت قليلًا عنهُ، وابتلعت ريقها بصعوبةٍ، ثم طالعتهُ، وهتفت بحزن:
- طب اتكلم،... أنا سمعاك
تنهد مطلقًا زفيرًا حار، ثم رفع يدهُ اليسرى، وأزاح خصلات شعرها المتمردة لخلف أذنها، مدّ كفيهِ ومسك يديها الإثنين، ثم ساعدها على الأستلقاء، وهتف بهدوء:
- طب تعالي نتكلم
أراحها جوارهُ، مقربًا اياها منهُ، يد تُحيط ذراعيها والأخرى تمسك كفها الأيسر، ضغط عليه بليّن، ثم قال برزانة:
- أنا سبتك تقولي كل الـ في قلبك المرّة الـ فاتت، رغم ان كلامك وجعني اوي يا زهرة، اذاي تتخيلي اني ممكن اكون مستعر من ابني، مهما كان ظروفه ايه!، بس دا ابني، من صلبي يا زهرة والأول ليا، أنا لما قولتلك ننزله، فعشان هو ميتعبش ويدعي علينا بعد كدا، أنا لا تهمني مكانتي، ولا أنا مين، ولا اي حاجه من الكلام دا، غيركوا انتوا وبس
تلامست أطلاف أصابعهِ بطنها، وسار بيدهِ قليلًا عليها، فرفعت يدها ووضعتها على كفهِ، ليميل برأسهُ على رأسها مكملًا ونبرة العتاب تموج بين أحرفه:
- فاكره كلامك الـ قولتهولي يا زهرة!، قوتيلي مش هخلف تاني، وهكتفي بيه، وقولتيلي اتجوز، بسهولة كدا وكأن الأمر عادي بنسالك، اني اروح اتجوز، كل كلمة نطقتيها لسا محفورة جوايا، الـ وجعني اكتر، انك فضلتي تتكلمي ولغيتي وجودي خالص، قرراتي بدالي، وأنا في الأخر قولتلك الـ عيزاه هيحصل، عشان وقتها مكنتش قادر اجادلك مع اني كنت عايز ارزعك ميت كف على وشك يعدلوكي...
وبأنفاسًا ثائرة، ونبرة منخفضة احنى وجههُ نحوها، قائلًا:
- انا قولت المايه المالحة قصرت عليكِ..
تخشب جسدها فور أن تذكرت تلك الليلة التي قضتها وحيدة، تصارع ألامها وحدها، يليها جرها على السلالم ثم وجودها على متن اليخت، ثم رؤيتها لهُ!.
انحبست انفاسها، فور تذكرها هبوطهم المفاجئ في الماء، ثم فقدانها الوعي، وهي تستسلم لهلاكها، الذي لم يكن بالجحيم ابدًا، فقدت الوعي وداخلها يشعر بأنهُ سينقذها كعادتهُ، حتى وإن جميع الأسباب تؤدي الى موتهم الإثنين.
ضمت نفسها لهُ أكثر، هاتفة بنبرةٍ مضطربة:
- عشت يومين عمري ما هنساهم في عمري
ابتسم، قائلًا يشاكسها:
- أنا هنسهملك يا قلبي، ولا تزعلي
انتفضت بحدة كمن لدغها عقرب، وجلست على ركبتيها، تُطالعهُ وقد تحولت تعابير وجهها من الأسترخاء، للقلق والخوف، بينما اعتدل هو، قائلًا بضيق:
- ايه النفضة دي يا زهرة، غلط عليكِ،.. ايه الـ حصل!
وضعت يدها المرتعشة على فمها، وهي تنطق بجزع:
- آآ أنا، آ أنا كويت الجرح بتاعك،.. ورينيي
سارعت نحوهُ، تمدّ يدها نحو قميصهُ، تحاول رفعهُ فأمسك كفها، قائلًا بهدوء:
- اهدي بس مفيش حاجه
أومأت رافضة، وغمغمت بنبرةٍ اشبه للبكاء، وهي تقول بخوف:
- لاآآ، و..و..ورينيي، وريني يا وليد، أنا آسفة والله،... مـ...معرفش عملت كدا اذاي،.. وريني الجرح بالله عليك
أمسك كفيها وطالعها بنظراتٍ مطمئنة، وحاول أن يجعلها تجلس، وتهدئ، مردفًا:
- اقعدي يا زهرة، اهدي يا حبيبتي، انا بخير والله، اهو شوفي..
لم يختفي القلق من ملامحها وطالعتهُ بترقب، فك أزرار قميصهُ بأكملهِ ثم نزعهُ من على جسدهُ، ورفع ذراعيهِ وشلح -الفانلة- البيضاء ليبقى عاريًا بجزعهِ العلوي، اندفعت نحوهُ تُدير جسدهِ قليلًا لترى مكان الجرح الموضوع عليهِ شاش ولاصق طبي، يخفي الجرح عن أعينها، لم يهدأ قلبها أيضًا، رغم رؤيتها للاصق الذي يحيط بهِ، لكن..!!، رفعت أصابعها ولامست جسدهُ، المكان حول الاصق، بأصابع مرتجفة، خائفة.
توتر أصابعها وارتعاشها، جعلهُ يجذم انها غير مقتنعة بما تراه، شهقت بصوتٍ مرتفع والصدمة تعتلي وجهها، عندما فاجأها بجذب الاصق بالشاش، والقطن وكل ما على الجرح، ليظهر أمام عينها ما فعلتهُ يداها بهِ.
ارتعشت شفتاها، وبدأت في البكاء، غير قادرة على تحمل بشاعة المنظر، وضعت راحة كفها على الجرح، واستندت برأسها على ظهرهِ تُكرر اسفها مرّة تلو الأخرى:
- أنا آسفة، آسفة بجد، أنـ..
قاطعها عندما استدار لها، واحتضنها، مربتًا على جزعها بحنان، ثم هتف بهدوء:
- هششش، اهدي يا حبيبتي، انتِ لولاكي ولولا الـ عملتيه، كان دمي اتصف وموتـ..
أحكمت أغلاق كفيها حول ظهرهُ، تهتف بخوف:
- بعيد الشر، بعيد الشر عنك، متقولش كدا، انا عندي استعداد افديك بروحي، بس.... بس الموضوع كان صعب اوي عليا...
ربت على جسدها بعمق، مردفًا:
- عارف، وآسف اني عرضتك لموقف زي دا، أنا آسف يا نور عيني
لحظات، حتى هتفت بصوتٍ منخفض:
- عايزه انام اوي، بقالي أربع ليالي منمتش كويس...
ساعدها في الأستلقاء على السرير براحة، ثم دثرها بالغطاء جيدًا، وهي تُتابعهُ بعينها، منتظرة مكوثها جوارها الآن، لكن فور أن رأتهُ يبتعد، اعتدلت بسرعة قائلة بلهفة:
- وليد!!، رايح فين!، انتَ هتنزل
وقف مطالعًا اياها بحنان، ثم هتف:
- هروح اغير على الجرح يا حبيبي عشان مايتلوثش، ثواني وراجعلك
همّت برفع الغطاء، وهي تقول:
- طب هاجي أساعدك
سارع بالتوجه نحوها، يحثها على المكوث وعدم القيام، هاتفًا:
- لاء، خليكِ مكانك، أنا هعمله بسرعة وهاجي، متتحركيش، ولو حد خبط ناديني
كانت ملامحها معترضة، وكادت أن تقوم، قائلة:
- لاء هـ..
قاطعها وهو يبطل محاولاتها بالقيام، ضغطًا على كتفيها مردفًا بحدة ولهجة غير قابلة لنقاش:
- زهـــرة!!، خليكِ مكانك، انا ثواني وراجع والله، ارتاحي عشان ميحصلكيش حاجه،..
ثم دنى مُقبلًا رأسها بعد أن احتضن كفهُ عنقها، ثم غمغم بحنين وشغف:
- خليكِ يا زهرة، عشان لما ابني ونور عيني يجي تكوني كويسة يا حبيبتي
تركها ثم اتجه نحو المرحاض، وهي تُتابعهُ بنظراتها، وقلبها يكاد من خفقاتهِ يخرج من بين ضلوعها، تقبل طفلهما إذن!، هذا وحدهُ يجعلتها تكاد تقفز فرحة، احتضنت بطنها البارزة بسعادةٍ، ثم هتفت هامسة بخفوت:
- مهما كنت عامل اذاي، وفيك ايه، هنحبك اووي اوي
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
فُتح باب الشقة، ليهاجمها رائحة الدفء التي كانت بهِ، الظلام يعم المكان، يجعلك تشعر بالوحشية التي تتغلفهُ، ارتعش سائر بدنها، تجمدت أطرافها عندما وجدت كرسي والدتها التي دائمة المكوث أعملاه فارغ!
اقتربت من الكرسي، وبدأت تتلمس أطرافهُ، بيدًا مرتعشة، وأنفاسًا متهدجة، أحنت رأسها قليلًا، لتضع طرف أنفها على خشب المقعد، تشتم رائحة والدتها بهِ ايضًا، المكان بأكملهِ مُعبئ بعبقها.
اتجهت بخطواتٍ وئيدة نحو غرفة والدتها، خطوة وراء الأخرى، حتى توقفت امام الباب، تُطالع المقبض ولا تقوى على فتحه...
رفعت كفها المرتعش، نحو المقبض البارد، كأطراف جسدها تمامًا، ثم ضغطته للأسفل، فاستمعت لصوت تكة المزلاج يُفتح..
بدأت تفتح الباب ببطئ وتثاقل، ورائحة والدتها تتغلل داخل صدرها شيئًا فشيئًا، تلقائيًا تعالا صوت نحيبها وأغشت الدموع عيناها وهي تقترب نحو سرير والدتها المتوفاة، ألقت جسدها عليهِ بقوة، وبدأ بكائها يزداد، حتى تقطعت أنفاسها.
ساعة كاملة قضتها ترثي حالها ووالدتها، لم يعد لديها أحدًا اطلاقًا، طالعت عباءة والدتها التي تحتضنها بين يديها، ثم جلست تضم قدميها لصدرها، وطالعت الفراغ بشرود، عيناها مثبتة في نقطة ما بتيه، ودمعة تتأرجح بين مُقلتها البنية اليسرى..
" عودة بالوقت للوراء، تحديدًا في الصباح"
تقف تُطالع الحديقة بشرود كعادتها، منذ أن استعادت عافيتها، دق الباب، ثلاث مرات ولم تستمع لهُ، فاضطر الطارق لدلوف.
- تمارا!!
اقترب وليد وهو يهتف باسمها مرّة تلو الأخرى حتى انتبهت لهُ، فطالعتهُ ة بدهشة:
- هاا
ثم صمتت عندما طالعت من يقف أمامها، وقالت بخفوت:
- وليد بيه!
اومأ وليد، مردفًا بهدوء:
- حمدلله على سلامتك يا تمارا، ممكن نقعد نتكلم شويا
ثم أشار لها بأن تجلس على أحد المقاعد، فانصاعت كالتائهة خلفهُ، وجلست على المقعد الذي أشار لها أن تجلس عليه.
تنهد وليد بضيقًا من صمتها هذا، ثم بدأ الحديث وهتف:
- قالولي انك عايزه تطلعي من المستشفى!!
أومأت موافقة بعد لحظاتٍ من السكوت، ثم قالت بهدوء:
- ايوا يا باشا، أنا الحمدلله بقيت كويسة، بقالي خمس شهور هنا، معتش قادرة اقعد اكتر من كدا، هقعد هنا اعمل ايه!
رفع وليد حاجبه ثم أراح ظهرهُ، قائلًا بتدقيق:
- وهتطلعي من هنا تعملي ايه!
أومأت بانكسار قائلة بنبرة مقهورة:
- هشوف حياتي يا باشا، هحاول اصلح الـ انكسر رغم ان الـ انكسر عمروا ما يتصلح تاني ابدًا
- سبق وقولتلك انك الحاجه الوحيدة الـ ندمت عليها يا تمارا، أنا السبب في الـ وصلتيله دا، وعارف اني مهما اعمل مش هعوضك ابدًا على الـ راح، بس قوليلي محتاجه ايه مني وانا هعملهولك فورًا
ابتسمت تمارا، وطالعتهُ بهدوء وأردفت:
- محتاجه أخرج من هنا يا باشا، ومكان باسمي اعيش فيه طول عمري، وشغل يدخلي مرتب كويس، مش عايزه حاجه اكتر من كدا، أنا تعبت وضاعت الحاجه الوحيده الـ كانت ممكن تخليني في يوم بني آدمة أعرف اقول كلمتي واخد حقي من عين الطخين
ثم رفعت منكبيها، وهتفت بقلة حيلة وكسرة نِفس:
- بس هعمل ايه!، الله غالب، عايز اعيش باقي حياتي مرتاحه ولو جزء صغير بس على أقل ماحسش اني رخيصة ولا اضطر ابيع نفسي بالرخيص عشان الاقي اللقمة الـ اكلها
أنهت كلماتها وتعابيرها هادئة تمامًا، الرضى ينبعث داخل مقلتيها، لم تدهشهُ كلماتها اطلاقًا، مطالبتها بحق الحياة هذه تُعتبر لا شيء بنسبة لما حدث لها، اعتدل وليد، مردفًا بصوتٍ رخيم:
- دا بس الـ عيزاه يا تمارا!
أومأت وهي تمط شفتاها قائلة بألم دفين:
- وهعوز ايه اكتر من كدا يا باشا!، يمكن لو جيت من سنة قولتلي عايزه ايه هقولك اكتر من كدا، واحط رجل على رجل واتشرط، لكن دلوقتي لاء!، شرفي واتنهش، امي وماتت، معدش عندي حاجه اكافح عشانها غير ضميري يا باشا، ومش عايزه ابيعه واكله من الحرام
زفر باختناق، وهو يشعر بكلماتها تجلد ذاتهُ من الداخل، ليتهُ لم يدخلها في ثأرهِ ابدًا، ليتهُ!
وقف بجسدٍ صلد، ثم طالعها قائلًا:
- كل الـ قولتيه هنفذهولك يا تمارا، وحقك هيرجع، أنا ليا عندوا حقوق كتير وهترجع كلها مرّة واحده،... تقدري من دلوقتي تروحي، وبكرا بالكتير كل الـ طلبتيه هتلاقيه اتنفذ..
انهى كلماتهِ، ثم ألقى السلام، وسار نحو الباب، يفتحهُ، ثم اختفي خارج المكان.
لحظة خروجهُ، انقشع وجهه الهدوء، وملامح الثبوت التي كانت ترسمها، لمعت عيناها بالشر والقوةٍ، ها قد أصبحت حرة طليقة!
"عودة للوقت الحالي"
ضربت رأسها بظهر السرير الخشبي عدة مرات، وهي تقول بغضب وعنف:
- هقتلك يا ياااسر، ورب العرش لأقتلك واشرب من دمك يا نجس،..
خمدت حركاتها، وغامت عيناها بالدموع، وهتفت متشنجة بنبرةٍ مقهورة قبل أن تغيب عن الوعي:
- ورحمة امي لتموت على ايدي يا كلب
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
الساعة السابعة ليلًا، يجلس على الكرسي المقابل لطاولة والجدار الذي يحيط بشاشات المراقبة بأكملها، يمسك بين كفهُ، الجهاز الوحي ويرى نصب عينيهِ تلك الليلة المشؤمة، وما حدث بها بأدق التفاصيل.
جميع ما حدث في كل ركن بالقصر عدا غرفة الجدة يراهُ امامهُ صوت وصورة، هذا المرة الثالثة الذي يُعيد بها مشهد هذا اللعين وهو يحمل زهرة على ظهرهِ، وهبوطهُ بها لسُلم، ثم خروجهُ هو ورجالهُ من القصر، وأيضًا دفعهُ لها بحدة داخل السيارة التي تقف بالقرب من القصر، جميع ما حدث مُسجل.
لولا نيران قلبهُ شيء معنوي، لحرقت المكان بأكملهِ، حتى الرماد الذي سيخلفهُ سيطير سريعًا مع أقل نسمة هواء، تنهد بحدةٍ وصوتٍ مسموع عالي، وهو يهتف داخل عقلهِ، بـ:
- وليد تحلى بالصبر، يجب أن تتحلى بالصبر الآن
لكن أي صبر، وهو يُعيد المشهد للمرة الرابعة، يشعر بنيران مستعيرة داخلهُ، حقًا تحرقهُ.
ألقى الجهاز على الطاولة، ثم قرب الكرسي منها قليلًا، وطالع أحدى الشاشات حولهُ، وثبتت أنظارهُ على أحد المربعات، وشرد قليلًا
"عزدة بالوقت للوراء"
- والله العظيم دا كل الـ اعرفه عن سيد، أنا قولت كل الـ عندي،..
ثم تشنجت عضلات جسدهُ، واهتزت، وهو يصرخ قائلًا:
- فكني وسبني بقـــــــــى!!
حدجهُ وليد بقوةٍ، ثم ظل يفكر في عدة أمور، حتى قال:
- تعرف الحريم الـ كانت في حياته!
رفع رياض رأسهُ، ثم وجه بصراهُ نحو اليمين، فعلم وليد انهُ يفكر بصدق، لكن إن كان قد نظر لليسار، سيعلم انهُ سيكدب فيما سيقولهُ لا محال.
انفردت جبهتهُ فاجأة، ثم نظر لوليد، وهتف بمكر:
- مش كلهم، بس اعرف واحده معاه دلوقتي
أومأ وليد موافقًا، وقد ساورتهُ الشكوك نحو أحدهم!، لكنهُ طالع ياض وملامح الجهل الزائف تعلوه وقال بنبرةً مترقبة:
- مين هي!
نظر رياض لهُ لحظاتٍ، يستجمع خيوطًا بعقلهِ، الذي بدأ يعمل كالتروس، ثم هتف مؤكدًا شكوك وليد:
- صفية، طليقة عزيز العدوي، وام ياسر العدوي
شق ثغرهُ ابتسامة فاترة، بدأت بالإتساع تدريجيًا، حتى وصلت لضحكة عالية، أدمعت عيناهُ لها بشدة، لحظات، حتى تنهد وليد محاولًا تهدأت حالهُ، ثم قال ساخرًا:
- شوف يا اخي الصحاب!، حتى الست اتقسموها ومرداش حد فيهم ياكل لوحده!!، انما صداقة تعر صحيح!
صمت لحظاتٍ، ورياض يتبعهُ، حتى وقف عن كرسيهِ، وقال:
- الاقيها فين!، أكيد تعرف شايلها فين!
- الا اعرف!، بس مش هيحصل غير لما توافق على شرطي..
"عودة للوقت الحالي"
وثب من على كرسيهِ، وهو يُلقي هاتفهُ على الطاولة بإهمال، ثم اتجه نحو الخارج قاصدًا غرفة رياض...
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
داخل قصر صفوان الشناوي
تململت في نومتها بإرهاق قليلًا، ثم مدّت يدها لتُحيط يدهُ، الا انها لم تجدهُ تحسست المكان قليلًا، علهُ ابتعد عنها وهو نائم، لكن لا يوجد ايضًا، كما أن المكان بارد!
اعتدلت بدهشة، وتطلعت لسرير، لتجدهُ فارغ عداها، سارعت بإضاءة النور الخافت الذي يقبع أعلى الكومود بجوار السرير، لتضيء المكان قليلًا، ثم وقفت عن السرير، وهي تطلع لأرجاء الغرفة الواسعة، تهتف بصوتٍ مضطرب خافت:
- وليد!!، وليــد
بحثت عنهُ في الغرفة بأكملها، المرحاض والشرفة، غرفة الثياب، لكن لم تجدهُ، فاتجهت نحو الخارج، تبحث عنهُ في جناحهم، لعلهُ في المطبخ أو أي شيء، لكن ايضًا لا يوجد.
ازداد توترها، وهي تُقنّ انهُ رحل وتركها، تحسست طريق عودتها بأنامل مرتجفة، وخوف، وبدأت وساوسها بالعمل!، هل هي وحدها في القصر!، متى سيعود!، هل توجد حراسه!، ماذا إن أتى أحدًا واختطفها ثانية!
تهدلت اكتافها، وهي تجلس على السرير بإرهاق، وصدفة، وقعت عيناها على ورقة مطوية، تحت الوسادة تظهر نصفها، وكأن من وضعها قاصدًا أن تكون ظاهرة.
مدّت يداها وسحبت الورقة، ثم فتحتها لتقع عيناها على الخط، ابتسمت تلقائيًا وهي ترى خطهُ هو، ثم بدأت تقرأ أول سطر يليهِ ما كتبهُ كلهُ
-" زهرة حبيبي، عارف انك هتضايقي لما تصحي تلاقيني مش جمبك، بس غاصب عني نزلت، ساعتين بالكتير مش هتأخر يا حبيبتي متقلقيش، مريم مشت عشان طنط آمنة تعبت شويا، وسُمية وسراج روحوا، الممرضة حصل عندها حالة وفاة، فاعتذرت وانا بلغت المستشفى تبعت واحده الصبح فورًا، ونبهت على سامي مايمشيش لحد ما ارجع، اول ما تصحي كلميني وطمنيني عليكي حبيبك وليد"
اختتم خطابهُ بتلك الكلمتين، والتي جعلتها تحتضن الخطاب بحب، تنهدت وهي تضعهُ على الكومود، ثم بدأت تبحث عن هاتفها لتحادثهُ.
ضربت جبهتها بباطن كفها بخفوت، قائلة بصدمة:
- اوبس!!، فوني مكسور!، أنا فاكرا اني حطيت الخط في فون بابا!
بدأت تبحث عن هاتف والدها الذي تتذكر انها وضعت بهِ خطها، ودعت ربها أن تكون بطاريتهُ مشحونة.
ارتسمت الراحة تعابيرها، وهي تراهُ في أحد الأدراج السُفلى للكومود، فقامت بجذبهِ، ثم نظرت لمكان الخط تتأكد من وجودهِ، ثم ضغطت على الزر الجانبي ضغطت مطولة لتفتحهُ.
دقيقة واحدة، وفُتح الهاتف، لتُضيء أنام عينها صورة والدها الحبيب، ابتلعت غصة بحلقها وهي تُمرر أصابعها على وجههُ، وترقرق الدمع بعينها، رفعت الهاتف تُقبل الصورة بعمق، ثم ابعدتهُ لتراها مردفة بهمس واشتياق:
- وحشتني اوي اوي يا بابا
صمتت للحظات، ثم قالت بآسى:
- بقالك كتير مش بتجيلي في المنام، انتَ زعلان مني ولا ايه!، آآ آ أنا.. أنا عارفه اني مقصره في حقك، وبقالي كتير مازُرتكش، بس والله دايمًا في بالي،... على فكرا أنا سحبت المهر بتاعي كلوا ووزعته على مساجد ودوار أيتام صدقة ليك انت وماما وعمتي،... أنا نفسي اشوفك اوي يا بابا، تعالى وطمني، وشوف كمان حفيدك...
نست ما قالهُ وليد أن تُطمئنهُ عليها فور استيقاظها، وبدأت بإخبار والدها عما حدث في الفترة الأخيرة لها ولزوجها.
مرّة نصف ساعة، حتى شهقت قائلة بفزع:
- يالهوي، وليد قالي اطمنه عليا!
اتجهت نحو ايقونة الهاتف، وبدأت بكتابة رقم زوجها الذي تحفظهُ عن ظهر قلب، وسرعان ما أتى الرقم فوق لوحة الأرقام، ضغطت على الأسم والرقم ثم وضعت الهاتف على أذنها تستمع لرنينهُ..
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
عند وليد، وداخل هذا المخزن المتطرف، فتح وليد باب غرفة رياض، ومع صوت صرير الباب، انتبه رياض لهُ واعتدل بمكانهِ.
تقدم وليد منهُ حتى وقف بشموخ أمامهُ، وأردف بعلو:
- قولي مكان صفية، وأنا موافق على شرطك
انتبهت مسامعهِ لما قال، وشق ثغرهُ ابتسامة سعيدة، ثم قال بشك:
- بجد!، هتسبني أخرج!
أومأ وليد بنعم، وقال بكبرياء:
- طلما اديتك كلمة انسى اني ارجع فيها، قول مكان صفية...
لحظات ظل يُفكر بها مليًا، وفي الأخر استسلم، مردفًا بقلة حيلة:
- في فيلا، تاني تقاطع من أول الطريق الزراعي امشي الشارع بتاع التقاطع دا كلوا، هو طويل شويا، يعني عقبال ما توصل لأخر الشارع هتاخد نص ساعة بالعربية، الفيلا دي كانت بتاعت عزيز العدوي، معرفش ايه الـ حصل بينهم عشان عزيز يبعهالوا، ومن فترة كدا، حوالي ست شهور ياسر جه لعزيز وقالوا انوا عايز مفتاحها...
عقد حاجبيهِ مستغربًا ما قالهُ، ثم قال:
- كمل..
- سيد قلوا سبني يومين وهجبهولك، وبعد كدا راح ادهالوا، صفية هناك في الفيلا دي، بس في مكان مخفي فيها، معرفش سيد نقالها ولا لاء!
حدجهُ وليد بقوةٍ وغضب، ثم اقترب قابضًا على تلابيب قميصهُ -المتسخ- بقوةٍ حتى كاد يخنقهُ، وهتف بحدة:
- يعني ايه ماتعرفش!!، انتَ مش قولتلي تعرف مكانها، جاي دلوقتي تقولي معرفش!!!
احتقن وجه رياض بشدة، وحاول ردع وليد وهو يدفعهُ بيديهِ، ثم قال بصوتٍ متقطع وأنفاسٍ مختنقة:
- هــ قــ ول..
فك عقدة يدهُ قليلًا، مردفًا بغضب:
- اتكلم
سعل عدة مرات، ثم أخذ نفسًا عميقًا، حتى شعر انهُ أفضل، ثم طالع وليد مردفًا:
- الفيلا دي لــ..لسا بأسم عزيز، بس.. بس هي بتاعت سيد، أوراق ملكيتها لـ..لعزيز، بس.. بس سيد هو الـ ليه حق.. التصرف فيها، عزيز واجه بس
بدأت الخيوط تتضح داخل عقلهُ، كما أنه شك في أمر هذه الفيلا بخصوص ياسر!، ابتعد وليد عنهُ، وهتف بنفور:
- ماشي يا رياض، هصدقك، وهتطلع اول ما اجيب صفية
- انتَ قولت هطلع علطول..
رفع وليد منكبيهِ بلا مبالة، وقال:
- مقولتش، بس ماتخفش، أنا قولت كلمتي واحده ومش برجع فيها ابدًا...
كادت الفرحة تنبعث على وجههِ لولا تذكرهُ لأمرٍ ما، قد ساور القلق قلبهُ، وقال بتردد:
- و..و و والبوليس!، والبت الـ اتقتلت!
- لاء متقلقش، لا فيه بوليس!، ولا بت اتقتلت!، دول حبه من صحابي حبوا يوجبوا معايا، متنساش اني كنت في الدخلية!
كتم رياض سبة نابيه بين أسنانهِ، وهو لا يصدق انهُ قد تلاعب بهِ بطريقة خسّة، طالعهُ محدجًا اياهُ بقوةٍ وشفتاهُ قد انكمشت باشمئزاز، ليتهُ ما قال على مكانها أبدًا!
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
ألتوت أحشاءها بقوةٍ، وشعرت كمن طُعن قلبها بسكينً قاتم، أغدقت الدموع وجهها، وهي تتأوه بحرقة تصرخ بصوتٍ منخفض، يداها تقبض على الغطاء بقوةٍ، تُنفث غضبها بهِ.
هو السبب بقتل والدها، من تُيمت بهِ عشقًا، قد كان سببً في حرمانها من والدها، أجهشت في البكاء، تضم ساقيها لصدرها، وجسدها يرتعش، ليتها ماتت غريقة بالبحر قبل رؤيتها لتلك الرسالة.
رفعت كفيها الإثنين تُحيط رأسها وهي تهزها يسارًا ويمينًا بقلة حيلة، نيران تلتهم قلبها، وتأكلهُ أكلًا، مِمن ستثأر!، من قلبها!
عقلها يرن كالأجراس داخل رأسها، حتى شعرت انها ستنفجر.
مرّة دقائق ولم تدري بحالها سوى وهي باشارع المظلم، ترتدي روب أسود تركتهُ مفتوحًا ووشاحًا وضعتهُ بإهمالٍ على شعرها، وقدميها حافيتان.
وقفت للحظات تتطلع للخلف، حيثُ القصر المهيب الشامخ، تمر أمام عينيها لحظات دلوفها لهُ هي وقمر، ليتها ما جاءت، ليتها ما رأتهُ، ليتها ما أحبتهُ!.
وبدون أدنى مقدمات ستختفي من حياتهُ بلا رجعة، رفعت كفها تضرب موضع قلبها بعنف، وهو يعتصر بالداخل!.
سترحل لأنها غير قادرة على أذيتهُ، ولن تقدر على النوم بأحضانهِ، ودم والدها بين يديه!.
تحركت قدمها، نحو الطريق، وبدأت في الركض، تصرخ بصوتٍ عالي، مُطلقة شهقاتها وأناتها، لم يعد بالوسع التحمل، ولن تستيطع المواجهة.
كان ضاحي يتبعها من بعيد بماتورهُ، بعد أن خرج من منزلهِ دون أن يشعر بهِ رجال وليد، حيثُ استغل تقارب الأسطح بتلك المنطقة العشوائية، ليخرج من المنزل المجاور للبيت الذي يقبع خلف منزلهُ.
حالتها تلك جعلتهُ، يُتابعها بالصمت، حتى وجدها ستخرج لشارع الرئيسي، فقام بإيقاف الماتور، وهبط من عليهِ ركضًا نحوها.
وقفت بمكانها، وهي تتنهد بأنفاسٍ لاهثة، الأرض تُميد حولها، وزاغت عيناها، وقبل أن يصل لها ضاحي، وقعت أرضًا مغشية عليها، واصطدمت رأسها بالأرض بقوةٍ كبيرة.
جحظت أعين الأخر بصدمةٍ، وهو يرى خطوط الدماء التي بدأت تتكون حول رأسها، نظر يسارًا ويمينًا، ثم سارع نحوها، وبدأ بضرب وجنتيها بخفوت قائلًا بضيق:
- يا مدام،.. امدااام!!
احتدت ضرباتهِ على وجهها، وهي لا حياة لمن تنادي، قام بحملها سريعًا، ثم اتجه بها نحو الرصيف المحفوف بالأشجار، ثم وضعها خلف أحد الأشجار في الظلام، ومكان بعيدًا عن مرأى الناس.
اعتدل، مخرجًا هاتفهُ من جيبهِ، ثم عبث بهِ قليلًا، ووضعهُ على أذنهِ، لحظات حتى هتف بلهفة:
- ايوا يا راضي، خش عليا بسرعة، أنا واقف على جنب، بسرعة يا راضي اوعى تتأخر..
استمع لرد الأخر، فأومأ موافقًا وهو يقول بعجالة:
- ايوا، مستنيك يلا
ثم أغلق الخط، وظل واقفًا مكانهُ، وبمجرد لحظات حتى دلفت سيارة أجرى من أول الشارع فاتجه ضاحي سريعًا نحو الخارج، ورفع يداهُ مشيرًا لهُ بالتوقف، فوقف عندهُ تمامًا.
اتجه ضاحي، وفتح الباب الخلفي لسيارة، ثم هتف لراضي موبخًا:
- اطفي النور دا، مش عايزين نلفت الأنظار يا غبي..
أغلق راضي الأنوار جميعًا، ثم عاد ضاحي نحو الرصيف ثانيةً، ودلف من بين الأشجار، ثم دنى من زهرة وحملها بين يديهِ واتجه نحو السيارة، وقام بوضعها على الأرضية الخاصة بالمقعد الخلفي!.
أغلق الباب بإحكام، ثم فتح باب المقعد الذي يجاور راضي، وصعد بالسيارة، التفت لراضي، هاتفًا بقلق:
- يلا يا راضي بسرعة!!
أشعل السيارة لتضيئ المصابيح الأمامية، مما جعل بقعة الدم الذي خلفهُ جرح زهرة، يلمع في الظلام، انطلقت السيارة متجه نحو الشار الرئيسي، مبتعدين عن المكان بأكملهِ، تاركين خلفهم وشاح زهرة -الذي وقع منها بسهولة- مُلقى على الأرض بالقرب من بقعة الدماء!!.
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
من يراهُ يجذم أنهُ يعمل وغير منتبه لأي شيء يحدث أمامهُ، الا أنهُ يتابع كل ما يحدث بينها وبين ابنهما في الخفاء، يختلس النظراتِ، بدون أن يراهُ أحد.
- يلا يا زُز أخر معلقة يا حبيبي
هتفت بها وهي تُقرب معلقةً مليئة بالطعام نحو فمهِ، والصغير ملامحهُ منكمشة بنفور واشمئزاز، كم يكره تلك الوجبة!
نظر الولد لوالدهِ، وهتف ببراءة:
- ديها لبابي
اختلست النظرات نحو سامي في الخفاء، لتجدهُ منشغلًا في عملهِ، وغير معهم تمامًا، فنظرت لعز الدين، وهتفت بخفوت:
- بابي مش بيحبها يا عز، يلا كُل عشان تبقى كبير شبه
وقف عز عن السرير، واقترب من والدتهُ فبات بطولها، ثم احتضنها قائلًا بحنان وطفولية:
- بث أنا مش عيطك شبه يا مامي
وقعت تلك الكلمات على قلبهِ كالصاعقة تمامًا، وحدجهُ بقوةٍ، فطالعتهُ مريم بحزن، ثم ربتت على جسد عز الدين المحتضن اياها، وابعدتهُ برفق عنها، وأرغمتهُ على الجلوس، الا انهُ رفض وظل واقفًا، فمسدت على شعرهُ ووجههُ، وهتفت بحنان:
- لا يا حبيبي، بابي عمرو ما عيطني!، أنا كنت بعيط الفترة الـ فاتت دي عشان بطني بتوجعني شويا، وفي نونو هنا
ثم ربتت على بطنها بخفوت، وأكملت:
- مش انتَ لما بطنك بتوجعك بتعيط
أومأ بنعم، ثم اِستطرد قائلًا بنبرة حزينة:
- يعني هو، هو بيوجعك
- شويا صغـ آآآآآه..
جحظت عيناهُ بفزع، ووثب واقفًا بحدةٍ، مقتربًا منها، وعيناهُ تُطلق شرارًا نحو عز الدين الذي لكمها بقصبة قدمهِ الصغيرة في بطنها، فور ان استنبأ بعقلهِ الصغير أن اخوهُ الذي يقبع في الداخل يؤلمها.
احتضنها ممسدًا على بطنها بحنان، ثم طالع عزالدين الذي انكمش على نفسهِ بخوف، وتقهقر للخلف، وهو يرى فداحة ما فعلهُ، فصرخ سامي بهِ بغضب، مردفًا:
- كدا يا عز!!، كدا تضرب مامي في بطنها!، ينفع كدا!
لم يصرخ والدهُ عليهِ أبدًا من قبل، فارتعش بدنهُ، وتجمعت الدموع بعينهِ، مغمغمًا بخوف:
- آآآ أنا،..
ابتعدت مريم عنهُ، وجذبت عزالدين لأحضانها، عندما وجدت خوفهُ العارم هذا، واحتضنتهُ، مردفه وهي تربت على ظهرهِ:
- خلاص يا حبيبي، ماتخفش، بابي،.. بابي بس...، هـ..هو خاف على النونو يا حبيبي،.. مـ..مش قصده
دنى منهم، قاصدًا أن يحمل عزالدين، هامسًا بأذنها بعتاب:
- أنا خوفت عليكِ، مش على النونو!
وقبل أن تستوعب حديثهُ، سحب عزالدين من أحضانها، وحملهُ على ذراعهُ، دفن الأخر وجههُ في عنق والدهُ، يخشى رؤيتهُ، فابعدهُ سامي برفق عن عنقهِ، وهتف بهدوءٍ جاد:
- ينفع كدا!، تضرب مامي وتوجعها يا عز!
طأطأ رأسهُ أرضًا، ثم وقال بصوتٍ هامس نادم:
- مش كان قثدي يا بابي، كُنت اضلب النونو
- النونو!، النونو لسا مجاش يا عز، وبعدين لما يبقى اخوه حبيبوا يضربه، هتعمل ايه بقى في الأغراب يا سي عز افندي!
تنهد الأخر مضيفًا بضيق، وغيظ:
- دا بيوجع مامي، يا بابي!
اقترب سامي من مريم، وهو يحدث والدهُ قائلًا:
- هو بيوجعها شويه صغيرين عشان بيكبر جوا، يلا بوس ماما واتآسف على الـ حصل دا، واوعى يتكرر تاني
انهى كلماتهُ بحزم شديد، فانحنى عزالدين على ذراع سامي، يُقبل رأس والدتهُ مردفًا بآسف:
- آثف، مش تزعلي مني يا مامي!
ابتسمت مريم وقبلتهُ على وجنتيهِ، وأردفت بحنان:
- وأنا عمري ما ازعل منك يا حبيب مامي
استغل الوضع وقربهُ منها، فقبْل وجنتها اليسرى سريعًا، وهتف مازحًا:
- ولا مني انا كمان صح!
أشاحت وجهها بعيدًا عنهُ دون حديث، فاعتظل زافرًا الهواء بقوةٍ، لما يشعر بهذا البعد والجفاء بينهم!، أومأ يأسًا بضيق، الى متى سيظل الحال هكذا!
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
يجلس أمامهُ، بغرور وتكبر يضع قدمًا فوق الأخرى، يُطالعهُ ناظرًا لعينيهِ بقوةٍ، بعد أن نزع القماشة التي تُحيط عينيهِ تمنعهُ من الرؤية.
وأخيرًا، حك وليد طرف انفهِ بحركاتٍ ثابتةً، يُشتت بها انتباه محمود، ثم وعلى حين بغتة اندفع ولكمهُ بقوةٍ في وجههِ، لكمة حعلت رأسهُ تكاد تُنزع من أعلى جسدهِ، وعلى أثرها نزفت أنفهُ بقوةٍ، وكسرت عظمة الأنف!.
لولا فمهِ المكتوم لكانت صرخاتهُ تصم الأذن من الآلم الذي ألحقهُ وليد بهِ.
نزع عنهُ الاصق الموضوع على فمهِ بقوةٍ، ثم هتف بهدوء، يُنافي ثورتهُ الداخلية، وما فعلهُ منذ بحظات:
- عمري ما كنت عنيف كدا ما حد استضافته عندي، بس ان جيت للحق، انتَ غيرهم كلهم!
ربت بقوةٍ على وجههُ، ساحبًا أذنهِ اليسرى للخلف بحدةٍ، وتابع وهو يجذ على أسنانهِ:
- وليك معاملة خاصة جدًا، أنا بؤمن جدًا بالفوارق الإجتماعية، وإن لازم كل واحد يكون موجود في مكانه الصح
كان يأخذ أنفاسهُ بقوةٍ، ورأسهُ غير ثابتةٍ، يشعر بدوار يعصف بهِ، وقف وليد أمامهُ، محدجٍ اياهُ بقوةٍ، وتابع ساخرًا:
- واديك في مكانك الصح، ياآآ... محمود بيه
طالع ساعتهُ مدققًا بها، ثم نظر لهُ وهمهم قائلًا:
-اممم، خمس دقايق بالظبط، وفرعنتك دي، واسمك هينتهوا، وكل حاجه بتملكها،... يعني بـــح!، كان فيه وخلص
شلح جاكت بذلتهِ، وهو يهتف بهدوء، وراحة:
- هسيبك بس انهارده من غير ما نتكلم في القديم، عشان لازم كل حاجه تبقى واضحه قدام عيني، وبرضوا تتعاقب على بلاويك، من وليد صفوان شخصيًا،...
ألقى الجاكت بإهمال على المقعد، وبدأ في نزع ساعتهُ غالية الثمن، ذات علامة تجارية شهيرة، وطالعتهُ مكملًا بتوعد وغضب:
- بس الـ مش هينفع يستنى دقيقة واحده، حق مراتي، يا **** يا ابن الـ****
ضربهُ كفًا بيدهِ على وجههُ جعلهُ يصرخ متأوهٍ بصدمة، انتشلهُ هذا الكف داخل تفكيرهُ في أخر كلماتهِ عن أمبراطوريتهِ التي ستُهدم، طالع وليد بغضب، مردفًا بقوةٍ:
- هتندم، هتنــــدم يا ابن ســـالم، هتندم يا ابن صفـــواان...
كان يدور حولهُ حلقاتٍ متتالية، دنى مقتربًا من أُذنهُ مغمغمٍ بمكر:
- وأنا بموت في الندم يا أعظم باشا
بدأ بفك وثاق يديهِ، ثم جذب السلسال بقوةٍ، لتنفك عقدة قدميهِ ايضًا، لكن ملامحهُ قد انكمشت بألمٍ جّم، وتابع وليد وهو يعقد السلسال الحديدي حول يديهِ ثم ألقاهُ على السرير:
- عايزك معايا بقى شويا كدا، عشان تعرف تندمني صح، وأديني فكيتك، عشان ابن صفوان مبيضربش ناس مربطة، بحسهم نسـ..آآ
قاطعهُ محمود بلكمة أطاحة وليد بضع خطواتٍ للوراء، سكن قليلًا ثم اعتدل، وتدفقت الدماء بعروقهِ، وهجم عليهِ بضراوةٍ، يلكمهُ بوجههُ وبطنه.
قبض محمود على رأس وليد بين ثنايا ذراعهُ اليسرى، يضغط عليها بقوةٍ وهو يزمجر بحدةٍ، فثنّى وليد يدهُ ثم لكم محمود بكوعهِ في بطنهُ بشدةٍ، جعلتهُ يفك ذراعهُ عنهُ وانحنى يتأوه بآلمٍ عاصف، ويداهُ تحيط بطنهِ.
رفع وليد رأسهُ بشموخ، بعد أن بثق دماءًا من فمهِ، رفع محمود بصرهُ في الخفاء ينظر نحو السلسال الحديدي الملقى على السرير، ثم ركض نحوهُ بسرعة، وقبل أن يمسكهُ كان وليد قد قبض عليهِ قبلهُ، وقام بلفهِ حول عنق محمود، جذّ غلى أسنانهِ بقوةٍ، مزمجرًا وهو يضغط أكثر على السلسلة حول رقبة محمود مردفًا:
- قولتلك لو جيت يمها، ورحمة اهلي لزعلك،...
قبض أكثر حتى احمر وجهه الأخر وجحظت عيناهُ بقوةٍ، فتابع وليد بعنف وغضب:
- أنا ممكن أسامح في أذيتي انا،.. الا هي.. الا هـــي..
التقط محمود أنفاسهُ الأخيرة، وفُتح فمهُ يحاول أن يأخذ أكبر قدرًا من الهواء، الا انهُ كان مختنق في مجرى النفس، وقبل أن يصعد أخر نفسٍ بحياتهُ، ترك وليد قبضتيهِ منوحول رقبتهُ، ودفعهُ بعنف نحو الحائط.
استند محمود بذراعيهِ على الحائط، وهو ينهج ويسعل بصوتٍ عالي جدًا، لا يصدق انهُ كان على شفا حفرة من الموت، كاد ينتهي أمرهُ الآن.
تركهُ وليد حتى يلتقط أنفاسهُ، وهو يتابعهُ بأعين متوعدة للمزيد، اقترب منهُ، وأمسك عنقهِ بقوةٍ ملصقًا اياهُ بالحائط، ثم اقترب هامسًا:
- كان لازم تسمع كلامي ومتجيش يمها، كان لازم يا حوده
ثم أبرحهُ أرضًا، عندما انحنى فجأة وجذب قدميهِ بقوةٍ، ليختل توازنهُ ويصطدم في الأرض بحدة.
ضحك ساخرًا وهو يرفع قدمهِ اليُسرى نحو وجههُ، مردفًا بتهكم ونبرة قاسية:
- جالك كلامي يا حوده، اهو دماغ الأعظم الـ طول عمرها فوق، بقت تحت رجلي يا حيلتها..
اسند قدمهِ على جانب وجهه محمود الظاهر، ونظر للفارغ بشرود يتذكر تلك الكلمات التي حُفرت داخلهُ
"عودة بالوقت للوراء"
فتح الخط وأجاب،.. فصمت الطرف الأخر قليلًا، حتى هتف:
_يعني مش انت الـ انصبت،.... عشان كدا كنت مخطط لخطة تانيه، عارف انك مش هتستسلم بسهولة....
احتدت ملامحهِ هاتفًا بشراسة وقوة:
_كويس انك عاارف، واكيد عارف برضوا اني هاجبها وارجعها، وهحط دماغك تحت رجلي...، وهتشوف!!!...
ارتفعت قهقهة عالية منهُ، حتى هدأ وقال:
_وأنا مستنيك، مستنى اشوف دماغ الأعظم الـ طول عمرها فوووق، تحت دماغ صرصار زيك اذاي!!
"عودة للوقت الحالي"
نظر وليد لمحمود، وحرك قدمهِ قليلًا على وجهه، مردفًا بشماتة:
- شوفت دماغك تحت رجل الصرصار اذاي يا أعظم باشا!!
ثم هتف مستمتعًا:
- الـ ڤيو من عندي هنا تحفه بجد،...
نزع قدمهُ وانحنى كثيرًا، ثم قبض على ثيابهُ من الخلف، ليرفعهُ لمستواهُ قليلًا، ثم أرغم وجههُ على النظر لهُ، ليهتف بهدوء، ورزانة:
- أنا طيب وبسامح في حقي،.. ساعات يعني عشان مكدبش عليك..
انكمشت شفتاهُ، مردفًا بشراسة وحدة:
- بس هي لاء، أدبحك فيها لو شعرا واحده بس اتأذت منها
فرد وليد قبضتهُ عن قميص محمود فاصطدم وجههُ في الأرض بقوةٍ، لم يعبئ لهُ وليد ووقف يُعدل ثيابهُ، رافعًا رأسهُ للأعلى بهيبة، ثم تقدم للخارج يفتح الباب، بعد أن التقط جاكت بذلتهُ.
خرج من الغرفة، وأغلق الباب بقوةٍ ثم زج المزلاج لقترتهُ، واتجه نحو غرفة المراقبة.
فتح الباب ودلف لداخل، طالع الشاشات متفحصًا، ثم ألقى نظرة على غرفة ديانا، ليجدها جثة هامدة، لا تُحرك سوى عينيها، ابتسم بمكر وهو يهز رأسهُ بيأس، مردفًا بسخرية:
- السيد ميشيل روماني، ليه جمايل عند ابويا كتير، كفايه عليكِ أنك تحس فعلًا بانك مشلولة، انتِ كدا انتهيتي معايا
أعطاها دواء تأثيرهُ مقابل لتأثير الدواء الذي أعطاهُ لها ياسر، لكنهُ مؤقت، يعبث بالجسد ليس الا، ولهُ دواء، يُعيد حالة الجسد كما كانت.
وقعت عيناهُ على هاتفهُ، فاتجعدت ملامحهُ بضيق من نفسهِ، وأردف:
- انا سبته هنا ليه بس!
أخذهُ، وفتحهُ بلهفة، ليرى شريط الأشعارات الفارغ من أي مكالمة فائتة، فعقد حاجبيهِ باستغراب، قائلًا بخفوت وتعجب:
- لسا نايمة لحد دلوقتي!
أومأ بغيظ، وهو يسحب مفاتيحهُ، وجهازهُ الوحي، قائلًا بسخط زائف:
- آآه خدتها مني من دلوقتي يا ابن صفوان!
فتح الجهاز يتفحص أرجاء القصر بدقة، ليرى كل شيء على ما يرام، زفر بضيق هامسًا:
- أنا محتطش كاميرا في أوض النوم ليه بس!
أطفاء الجهاز، ثم حملهُ وأخذ هاتفهُ، والمفاتيح، واتجه مغلقًا الأضاءة، وترك الشاشات كما هي، ثم اتجه نحو الباب، وخرج منهُ وأغلقهُ بعد ذلك.
خرج من المخزن، وألقى المفاتيح نحو الحارس، الذي تلقفهُ بسرعة، وأمرهُ أن يغلق الباب بإحكام.
أخذ المفاتيح ثانيةً، واتجه نحو سيارتهُ، يفتح الباب ثم استقر على مقعدهِ، ووضع الجهاز وهاتفهُ بإهمال على المقعد المجاور، وبدأ بقيادة السيارة، منطقًا بها من هنا، ذاهبًا بطريقهِ نحو القصر بسرعة غريبة، يقودهُ لهفتهُ عليها، والقلق الذي يساورهُ نحوها، يريد الأطمئنان عليها الآن!
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
فتحت الباب بخفوت شديد، ولكنه أحدث صرير خفيض، جعل هذا الواقف بالقرب من الباب، ينتبه لها.
ألقى السيجارة من بين أصابعهِ، بعد أن تنفس دخانها من فمهِ، اقتربت منهُ فاستدار لها، وهتف متسألًا:
- نامت يا سلمى!
أومأت متنهدة بضيق، ثم وقفت جوارهُ في هذا الجو القارص، وهتفت وكان الهواء الساخن يخرج من فمها ظاهر بسبب الهواء البارد خارج الجسم:
- نامت بعد ما تعتبت من السؤال عن وليد بيه!
نظرت لهُ، وتابعت بخفوت:
- أستاذ چورچ، حضرتك متعرفش توصلهم، يعني!..
زفرت بضيق، وهي تُخبط يداها ببعض، وقالت بآسى:
- أستاذ عادل،.. مفيش اي اتصال منوا، وحتى اي تواصل بأي حد ممنوع!، أنا كدا بدأت أقلق يا أستاذ چورچ
تنهد، وأخراج سيجارة أخرى، وبدأ في أشعالها، مردفًا بهدوء:
- أكيد وليد بيه اخد التلفونات عشان دا اكتر أمان لينا، متقلقيش يا سلمى بكرا بالكتير خالص بعده، لو مفيش اي خبر، هروحله انا، اشوف في ايه
تجعدت ملامحها بقلق شديد، وقالت بتوتر:
- معقول!، معقول يكون حصلهم حاجه!
- مش عارف، اتفائلي خير بس، وخليكي جمب منال هانم علطول، ولو سألتك عن الباشا، قوليلوا انوا بيطمن عليها من عندي، عشان هو ..
صمت قليلًا ثم همهم قائلًا بتفكير:
- مممم، مسافر مثلًا قوليلها مسافر
أومأت موافقة، لما قالهُ، فنظر لها نظرة خاطفة قبل أن يقول أمرًا:
- ادخلي انتِ يا سلمى، الجو بارد اوي، وعشان الهانم ماتصحاش تقلق..
هزت رأسها توافقهُ الرأى، فالجو في تلك الصحراء الجرداء شديد البرودة، كما أن هناك عواء ذئاب، لم تستطيع التعود عليهِ في الأيام الأولى، حتى بات الأمر عاديًا.
دلفت لداخل، وظل چورچ واقفًا مكانهُ يُكمل سيجارتهُ، وهو يفكر بشرود في الساعات القلائل الفائتين
"عودة بالوقت للوراء"
خرج من داخل غرفة منال، بعد أن ظلت تبكي تريد رؤية وليد، وتريد الأطمئنان على أولادها، لكن للأسف تم منع اي وسيلة اتصال، من قبل وليد.
اتجه چورچ الى الخارج، ثم أغلق الباب عليهن بإحكام، وسار نحو الغرفة التي يبيتُ فيها.
دلف لداخل وأغلق الباب خلفهُ بحذر، ثم اتجه نحو الأريكة التي تحتل ركن ما بالغرفة، ورفع المرتبة، ليسحب هذا الهاتف الصغير.
ضغط على أحد الأزرار المنبثقة منهُ، وهو يطالع الشاشة الصغيرة جدًا، حتى أضاء، فسارع بطلب رقم وليد، الموجود على هذا الخط المشفر.
وضع الهاتف على أذنهِ، ثم انتظر قليلًا حتى اتاهُ صوت وليد يقول بقلق:
- چورچ!، ايه الأخبار، امي كويسة!
جلس چورچ على الأريكة براحة، ثم قال:
- كويسة يا باشا، بس يعني، بقالها يومين بتسأل على حضرتك كتير ومش مطمنة خالص، وأنا مش عارف اعمل ايه معاها...
- قولها اني مسافر يا چورچ، ويومين واحتمال اجي اخدها للقصر، خد بالك منها كويس اوي، واوعى يحصلها حاجه، ولو حسيت باي خطر حوليك كلمني فورًا يا چورچ
أومأ چورچ موافقًا على حديثهُ، واستطرد مردفًا:
- ماشي يا باشا، بس لو أمكن تستعجل يعني، عشان مش مبطلة سؤال على حضرتك
- حاضر يا چورچ، في أقرب فرصة هجيلها، بس خد بالك منها، وخلي بالك من سلمى برضوا...
- متقلقيش يا باشا، أسيبك أنا بقى، عشان شكلك في الشارع..
- أنا فعلًا سايق، يلا مع السلامة
"عودة للوقت الحالي"
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
دلف بسيارتهِ شارع قصر صفوان الشناوي، يستند بجزعهِ على شرفة النافذة، وعقلهُ يُعيد كل الأحداث التي مرت في اليومين الماضيين، بدأ يبطئ سرعة السيارة، وهو يتنهد بحزن -عندما تذكر أمر جنينهم- قائلًا بخفوت:
- الحمدلله يا رب، أنا راضي بالـ تدهوني،..
صمت قليلًا ثم عقد حاجبيهِ مستغربًا، من هذا الشيء الأسود الرقيق، الموجود على الأرض،فهتف بهمس مستغرب:
- ايه دا!
قلما أن يجد هذا الشارع بهِ هفوة تراب حتى، لهذا أثار هذا الشيء حفيظتهُ، أوقف السيارة ثم فتح الباب، وترجل منها، وسار حوالي أربعة خطوات، لينحنى ملتقطًا هذا الشيء.
فور ملامستهُ علم انهُ وشاح ليس الا، رفعهُ قليلًا لأنفهُ يشتم رائحتهُ، وبسبب حاسة الشم القوية لديهِ، والتي تكون غالبًا لدى الظباط، علم على الفور انهُ يخص زهرتهُ، تلك نفس رائحة جوز الهند التي تتخلل شعرها الذي يعشقهُ.
دار بعينيهِ في المكان، وبدأ قلبهُ يدق بعنف، تجمدت أطراف جسدهِ عندما وقعت عيناهُ على بقعة الدماء المتجلطة تلك، والتي تلمع أثر ضوء السيارة.
انحنى بخفوت، والرعب يتقازف لقلبهِ، ومدّ أطراف أصابعهِ اليسرى، يتحسس تلك الدماء.
متجلطة!، الدماء متجلطة على الأرض، لهذا من السهل معرفة، انها منذ وقت، حوالي قد مر عليها ساعتين أو أكثر.
وثب واقفًا بقوةٍ، واتجه نحو سيارتهِ في خطوتين قافزًا داخلها سريعًا، ويداهُ تقبض على الوشاح بقوةٍ.
جذب جهازهُ اللوحي بعنف، مما أدى لوقوع هاتفهُ، والذي لم يعبئ لهُ، أمسك الجعاز وفتحهُ، ثم دلف للأيقونة الوحيدة الظاهرة على سطح الشاشة، ضغط على أعدادت التطبيق، وضبط جميع الكاميرات على أن تأتي بما حدث في أخر ثلاث ساعات.
بدأ بالقصر من الداخل أولًا، أمام جناحهِ، بدأ بتسريع الشريط، حتى رأها على السُلم، فقام بتمرير الشريط للخلف عدة ثواني، حتى وجدها تخرج من باب الجناح، تتقدم وهي ترتدي عباءة مفتوحةٍ، وهذا الوشاح الذي مازال بين يديهِ موضوع على رأسها بحرية تمامًا، لكن ما تلك الحالة التي بها، تشحذ قواها لتتحرك، تستند على الدرابزون، قدمها بدت كالهلام، رخوةً لا تستطيع تحريكها!.
لكن لا يظهر وجهها، كما أنها قد اختفت في محيط تلك الكاميرا، فأتى سريعًا بالكاميرا التي تليها، والتي ولحُسن الحـ..لا أعلم ماذا أقول، فهذا لا يبدو حُسن أو حظ اطلاقًا، فما يحدث كارثي بكل معنى الكلمة!
رأى وجهها بوضوح هنا، تبكي بحدةٍ، وكأنها في عزاء لأحدًا تُحبهُ بشدةٍ، ظل وراءها، من كاميرا لأخرى، وقلبهُ يدق كالطبول من حالتها تلك، وعيناهُ أصبحت قاتمة، ولم يعد يرى تفسيرًا لما يحدث.
ظل يتابعها، حتى اتسعت عيناهُ زهولًا وهو يراها تخرج من القصر، حافية الأقدام هكذا!، ماذا حدث لكل هذا؟!، يُتابع ما يحدث بأعين متفحصةً دقيقة، وصبرهُ بدأ ينفذ أيضًا!
يراها تقف قليلًا، ثم تنظر للخلف للحظاتٍ، ثم بدأت في الركض!، أومأ نافيًا بهستريةٍ، وهو يرى شريط الڤيديو قد اقترب على النفاذ، وللأسف تلك أخر كاميرا قد وضعت في الشارع.
جحظت عيناهُ، برعب وصدمةٍ، عندما وجد جسدها يتراخي، ثم اصطدمت فاقدة للوعي، شعر بجسدهِ يندفع قليلًا، كما لو أن ما يحدث حقيقة امامهُ، وهو يركض ليتلقفها بين أحضانهِ.
ماذا يحدث؟!، من هذا؟!، ظهر شخص ما، لم يستطيع رؤية وجههُ، واقترب منها، ثم انحنى عليها، مما جعلهُ يفقد رؤيتها، بسبب جسدهِ الذي حجبها عنهُ.
بدون أن يشعر، قبض على الجهاز وهو ممسك بهِ بقوةٍ شديدة، حتى كاد يُكسر، ارتفعت وتيرة أنفاسهُ بحدةٍ، ورفع يدهُ يجذب أحد أطراف قميصهِ بقوةٍ حتى قُطعت الأزرار، وانكشف صدره، يشعر بالأختناق حقًا.
نيران ملتهبة، تأكل حدقتي عينهِ، وهو يتابع ما يحدث الى الأخر، حتى رفعها ضاحي لداخل السيارة، وأخيرًا استطاع رؤية وجههِ.
ارتعش سائر بدنهُ، وشعر بأن أحدهم قبض على قلبهِ، واعتصرهُ بحدة داخل كفهِ.
ألقى الجهاز على المقعد المجاور، ثم هبط من السيارة بسرعةٍ كبيرةٍ، وعو يركض اتجاه القصر، بخطواتٍ أشبه لركض الفهد، وهو يصرخ باسمها بقوةٍ وغضب ابتلع قلبهُ قائلًا بصوتٍ، هز أرجاء الليل وسكونهِ:
- زهـــــــــــرااااه، زهـــــــرااااااه.....꧁꧁꧁꧁꧂꧂꧂꧂
بعتذر عن فصل امبارح، تعليقات كتير فضلًا، وناقشوني في الأحداث♥
أنت تقرأ
تائهة فِي سَرَايَا صَفْوَان © -مُكتملة-
Mystery / Thriller"دراما مصرية " _وليد إنت ليك علاقه بقتل محمود ..!! لم يستطيع الأجابة فقط أكتفى بهز رأسه بالايجاب ، فشهقت إلهام بصدمة وحزن في آن واحد وقالت: _اذاي .. اذاي يا بني ..! تنهد بحزن ثم اعتدل وطالعها قائلًا: _ ياسر يا إلهام هو الـ قاتلوا ، كان عايز يجندوا ب...