الفصل الثالث والخمسون

5.7K 245 67
                                    

تائهة في سرايا صفوان
الفصل الثالث والخمسون
*************************
استندت على جزعهِ وهو ينقلها للفراش بهدوء، حتى استقرت أعلاه، أحاطت بطنها بدها وهي تُجعد ملامحها بألم قليلًا، انتبه لهُ، فقال بقلق:
_مالك في ايه..!
تنفست بصوتٍا مسموع، ثم طالعتهُ باطمئنان قائلة:
_مفيش يا حبيبي، بس حسيت بألم بسيط عشان بقالي كتير متحركتش....
جلس جوارها، وأمسك يدها برفق، مردفًا وهو يُطالع الغرفة بأكملها:
_كانت زي السجن وانتِ مش فيها...
_منت قولتلك عايزه أخرج يا وليد، بس انتَ الـ صممت...
أحاط كتفها بذراعهِ اليسرى، مطالعًا ايها بحنان قائلًا:
_ايوا طبعًا، مكنش ينفع تخرجي غير لما تكون صحتك كويسة يا زهرة، أنا عارف اني مش هقدر اكون معاكي اوقات كتير في البيت فكان لازم تفضلي عشان اكون مطمن عليكي....
أومأت متنهدة براحة، فأخيرًا بعد شهر كامل عادت لفراشها الذي لا تستطيع النوم سوى عليه، مُحاطة بدفء يديهِ.
استكانت على صدرهِ وهي تشعر بأن النُعاس سيغلبها الآن، وقد شعر هو ايضًا بذلك، فمال رأسهُ نحوها قليلًا قائلًا:
_هتنامي ولا ايه..!!
شدت الغطاء نحو ذراعيها فجذبهُ عنها، وتابع رافضًا:
_لاء استني كلي الأول، وبعد كدا خدي علاجك ونامي براحتك...
كانت تهم بقول شيئٍا ما، لكن قاطعها صوت طرقات خافتة على الباب، فهتف وليد بصوتٍا عالي:
_مين....!!!
أتاهم صوت مريم مُجيبة باسمها، فاعتدل وليد وزهرة ايضًا، ثم قال وليد:
_تعالي يا أم عز...
انتظرت مريم لحظات، حتى مدت يدها وفتحت الباب، ودلفت وهي تمسك بيدها عزالدين، وعلى ملامحها ابتسامة هادئة رغم الارهاق البادي عليها، اقتربت من السرير، قائلة بهدوء:
_حمدلله على سلامتك يا زهرة...
_الله يسلمك يا مريم، تعالي..
وقف وليد من جوارها، ثم طالع زهرة، وبعد ذلك مريم مردفًا:
_ معلش يا أم عز خليكي جمبها دقايق، عبال ما أنزل اجبلها تتغدا..
أومأت مريم موافقة، فابتعد وليد عنهم، وخرج خارج الغرفة، متوجهًا للأسفل، طلب الغذاء لها، ثم ذهب نخو غرفة مكتبهِ.
في الأعلى، مكثت مريم قبالة زهرة، ورفعت عزالدين على أقدامها، وهتفت مبتسمة:
_ في الشهر كام..!
ابتسمت زهرة ومسدت على بطنها قائلة:
_اهو في نص التالت، وانتِ
ابتلعت ريقها بحزن، قائلة:
_قدامي أسبوع وادخل التالت...
زمت زهرة شفتيها بضيق من سامي، وشفقة على حالها، فهي مُنذ أن عادت مريم وهو سافر، تظل طيلة اليوم داخل جناحها رافضة الخروج، كما اصبح حديثها قليل وظهورها أقل.
تنهدت زهرة قائلة بخفوت:
_مريم، عارفه أن ممكن متتقبليش اني ادخل في خصوصياتك، بس صدقيني، العمر مش بيقف على حد ابدًا، عيشي يا حبيبتي وروحي وتعالي واخرجي واتفسحي، طلما هو الـ اختار دا من البداية، متبكيش عليه...!
غامت أعينها بالحزن، والدموع ايضًا، وحاولت تشتيت دموعها باحتضان عزالدين، هاتفه بقهر:
_صعبانه عليا نفسي اوي يا زهرة، وأنا كل شويا بقول هيرجع هيرجع،.. لكن مبيرجعش،... لدرجة دي صدق اني مش عيزاه عشان يسافر ويبعد في أكتر وقت محتاجاه يكون جنبي فيه..!
رفعت زهرة الغطاء، ثم هبطت من على السرير واقتربت منها قائلة:
_تعالي نقعد في برا في الڤراندا، الجو انهارده حلو....
طالعتها مريم بعد ان محت دموعها كي لا يلاحظ عزالدين، وهتفت رافضة:
_بلاش عشان متتعابيش، انتِ المفروض ترتاحي بس...
_يا ستي تعالي، الجو حلو اوي برا، يلا...
وقفت مريم، وسارت معها نحو الشرفة، وجلسن بها، واصرت زهرة على الحديث بعيدًا عن سامي حتى لا تتأثر نفسية مريم أكثر من ذلك.
في الاسفل، وخاصة غرفة المكتب، تعالا رنين هاتفهِ، فنظر للمتصل وابتسم بمكر، أخذ الهاتف ووضعهُ على اذنهِ بعد أن فتح الاتصال، ثم قال:
_ها يا عادل بشرني..!
_زي ما خطط سعادتك، المناقصة رست على شركتنا، وحاليًا هو أغمى عليه وفي المستشفى، واحنا وراه...
اتسعت ابتسامتهُ أكثر فأكثر، ثم هتف قائلًا بغموض:
_انتَ عارف ايه الـ هيحصل بعد كدا...
_عارف يا وليد بيه،... متقلقش، هستأذنك دلوقتي عشان هننزل...
_تمام ربنا معاكوا...
أغلق الاتصال معهُ، متنهدًا براحة شديدة، فها قد أوقع سيد مُختار تحت قبضتهِ، شرد قليلًا في هذا اللقاء الذي حدث مُنذ شهر مع معاون سيد، رياض، وكلماتهِ تدق بعقلهِ.....
_هو جامع فلوسه كلها في مناقصة هيدخلها يوم 5 الشهر الجاي، هتنقل الشركة في مكان تاني خالص، وهتبقى اسمها بين العشر شركات الأولى على مستوى الشرق الأوسط بعدها، المناقصة دي لو خرج خسران منها هيتدمر، وكل أملاكه هتتساوى في الأرض، وهيرجع يشحت تاني....
عاد من شرودهِ ناظرًا تلك الاوراق بيدهِ، يُقلبها من الحين للأخر، هاتفًا في نفسهِ:
_هقهرك مرتين يا سيد زي ما عملت في ابوايا، مرة عشان كلت عليه المصنع الـ عمله بشقاه وتبعه مع شوية الملاليم الـ ادتهالوا، ومرة عشان انتَ السبب في الـ وصله دا...
*******************************
وقفت تُحهز الطعام سريعًا لهُ قبل أن يأتي ويراها كعادتها مُنذ أن أتت لهذه الشقة معهُ، مُحتقرة نفسها وبشدة على استسلامها المُهين لهُ، وكأن شيء لم يكن.
طالعت ساعة الحائط بالطبخ، لتراها الخامسة والنصف، تبقى نصف ساعة على أن يأتي.
قلبت الأرز جيدًا على النار، وهي تُقيم كم تبقى من الوقت حتى تُطفئ عليهِ، داعبت انفها رائحة السمك الذي ستبدأ في قليهِ الآن، ولا تعلم لما انكمشت ملامحها بنفور هاتفه:
_ايه القرف دا، ريحته وحشه كدا ليه..!
في الخارج، أدار المفتاح بهدوء وحذر كي لا تسمعهُ وتفر هاربة كالعادة، أغلق الباب خلفهُ بخفوت، ثم وضع دائرة المفاتيح خاصتهُ على الكومود الكبير الموضوع بجوار الباب، ثم تسلل بحرص لداخل.
في المطبخ، حاولت أن لا تهتم برائحتهُ فهي مُنذ قليل لم تشتم لأي شيء سيء..!، وضعت اثنين داخل الزيت بعد أن قلبتهُ جيدًا في الدقيق، فصدح صوت غليان الزيت القوي، فابتعدت خوفًا للحظات، وعلم هو بالخارج انها تقف في المطبخ.
تحرك نحو المطبخ، يقف يشاهدها من بعيد باستمتاع، لأو دل مرة بحياتهِ يعاصر تلك اللحظة التي تمناها مُنذ زمن.
دقائق قليلة وامتلئ المطبخ برائحة السمك، التي تظنهُ سيء للغاية، فوضعت يدها على فمها تشعر بأن الرائحة ستخنقها، حاولت تجاهل الرائحة لكنها لم تعد تقدر، شعرت بتقلب معدتها، وأنها على وشك القيء فركضت سريعًا خارج المطبخ تضع يد على فمها، والأخرى على تضغك بها على بطنها.
_سُمية....
نطقها بخوف وفزع، ثم ركض خلفها سريعًا، ولحقها قبل أن تُغلق الباب خلفها، تركت الباب فلم تقوى على دفعهُ، وسارعت تُفرغ ما بجوفها وهي تمسك بطنها بألمٍا يكاد يفتك روحها.
وقف خلفها وأحاط يدهُ بيطنها، والأخرى ابعد شعرها عن وجهها حتى انتهت، ففتح صنبور الماء وغسل وجهها جيدًا، همس بخفوت وقلق:
_أحسن..!
تنهدت بألم وصوتٍا مسموع، وهي توميء موافقة دون حديث، ساعدها على الخروج من المرحاض، ثم ساندها حتى غرفة نومهِ هو وساعدها في الجلوس على السرير.
رفع قدميها للأعلى، فقالت بنفور واشمئزاز:
_سراج، شغل الشفاط في المطبخ وابعد الريحة دي..
كان مستغربًا عن أي رائحة تتحدث، فلا يوجد سوى رائحة السمك، ورائحتهُ جيدة لا يوجد بها أي سوء..!
خرج من الغرفة مُتجهًا نحو المطبخ، ليغلق النار أولًا...
في الغرفة، شعرت سُمية باختناق، وانها على وشك التقيء ثانيةً، فقامت متجه نحو النافذة بأعين زائغة لتفحها، لكن ما كادت تصل نحوها، حتى أُغلقت عينها بوهن، ثم اصطدم جسدها بالأرض فاقدة للوعي..!
*****************************
_مضطر نأجل المعاد شويت كمان يا حبيبتي، غاصب عني والله مش عارف هرجع امتى...!
تفاقم الحُزن عيناها، وابتلعت تلك الغصة بحلقها والتي تُهدد بهطول دموعها، تنهدت بشجن قائلة:
_أحمد، أنتَ طول كتير ءـندك، كل شويا رن قول جاي قريب، بس انتَ مش تيجي..!!
_أنا آسف يا حبيبتي مش بإرادتي والله، المأمورية دي جات فاجأة كدا... معلش يا ليدا، استحمليني شويا كمان بس....
" أحمد بيه،... في هجوم من عناصر اشتباكية جايه نحيه الكامين....."
هتف أحدهم بتلك الكلمات بجانب أحمد، فصدح الصوت في الهاتف، وسارع أحمد قائلًا بقلق:
_هقفل دلوقتي يا ماتيلدا..،. ادعيلي...
وقبل أن يغلق، استمعت لصوت رصاص قوي بالقرب منهُ فصرخت فزعة مما استمعت لهُ، وتلقائيًا وجدت الدموع تُغدق عيناها، وهي تصرخ باسمهِ.
انفزعت سحر وثريا على صوت صراخها، فركضت سحر نحوها، وجرت ثريا الكرسي المدلوب واتجهت خلف سحر.
فتحت الباب الخاص بغرفة ماتيلدا، ودخلت فوجدتها تجلس على السرير باكية، وهي تمسك بالهاتف تحاول الاتصال بأحمد وتهتف اسمهُ في زعر.
اقتربت سحر منها بخوف، وقبلأن تتحدث، صرخت ماتيلدا قائلة برعب:
_سحر...، رصاااص،. رصاااص سحر أحمد....، في رصـ....آآ..
غامت عينها واختل توزانها وهي تجلس على قدميها، ثم وقع جسدها فاقدًا للوعي، فبات نصف جسدها على السرير والنصف الأخر في الفراغ.
شهقت ثريا بخوف، بينمت صرخت سحر واقتربت منها قائلة بفزع:
_ يا نهار اسود،... ماتيلدا،... ماتيلداااا....
_اعدليها الاول يا سحر....
هتفت بها ثريا، وهي تقترب منهم، فقامت سحر برفع جسدها ووضعهُ بالكامل على السرير، ثم ركضت نحو الخارج كي تأتي بماء لتفيقها.
اقتربت ثريا من السرير حتى اصبحت جوارهُ، وأمسكت كف ماتيلدا، قائلة بخوف وحزن:
_استر يا ستار..!!، ماتيلدا، فوقي يا بنتي....
أتت سحر بكوب ماء، ثم اقتربت من ماتيلدا وقامت بنثر بعضًا من الماء على وجهها، لكن لم يحدث ردة فعل.
هتفت ثريا سريعًا،:
_هاتي ازازة البرفان دي...
أومأت موافقة وهي ترى عدم استجابة ماتيلدا للماء ،فتحركت نحو التسريحة وأخذت زجاج العطر من عليها، ثم عادت نحوها، نثرت العطر على كفها وقربتهُ من أنفها كي تستنشقهُ، لكن لم يحدث اي ردة فعل منها، وهذا ما جعل الخوف يتسرب لقلوبهم.
طالعت سحر ثريا بجهل وقالت:
_هنعمل ايه..!، دي مش راضيه تفوق خالص...
_البسي عبايتك وطرحتك، وانزلي نادي دكتور محمود من الصيدلية......
نزع الطبيب سماعتهُ من على أذنيهِ، ثم وضعها على حقيبتهُ قائلًا بعملية:
_هي عندها انهيار عصبي، انا حالًا هاديها ابرة مهدئ، وان شاء الله خلال النص ساعة الجاية هتكون فاقت وبخير...
طالعتهُ ثريا قائلة بامتنان:
_متشكرة اوي يا دكتور محمود...
_على ايه بس يا ست ثريا، دا احنا جيران والنبي وصى على سابع جار، ما بالك بقى بالـ الباب في الباب...!
_ربنا يكرم اصلك يا دكتور...
بدأ الطبيب في تجهيز الحقنة، ودلفت سحر بكوب عصير برتقال، ثم اقتربت ووضعتهُ على الكومود.
غرس محمود سن الابرة في معصم يدها ثم ضغط على الجزء العلوي منها ليدلف المحلول داخل أوردتها، أخرج السن، ثم قام بوضع الغطاء وثنيّ السن عدة مرات في اتجاهاتٍ مختلفة حتى كُسر، وقام بوضع الغكاء بإحكام، وهذه عادتهُ مُنذ ان بدأ بممارسة المهنة، تفاديًا للشباب ةلذي يقومون بأخذ الابر من القمامة، أو على الارض ويقومون بتعبئتها بالمخدرات.
تابعتهُ ثريا حتى انتهى من حقنها، ثم بهدوء:
_اشرب يا دكتور العصير....
ابتسم محمود، ثم مدّ يدهُ نحو الكوب قائلًا بمزاح:
_أنا هشرب فعلًا عشان رِأي ناشف من الصبح...
_ربنا يقويك يا دكتور محمود
انهى الطبيب الكوب وكان بالفعل عطشان، ثم وقف يجمع اشياءهُ حتى انتهى، فدارت ثريا عجلات الكرسي، قائلة:
_اتفضل معايا يا دكتور...
تحرك الطبيب خلفها، حتى وصل للباب، فمدت ثريا يدها بالمال قائلة:
_اتفضل يا دكتور، وأسفين اننا عطلناك عن الصيدلية...
انحنى الطبيب يريط رباط الحذاء، وهو ينظر لها قائلًا بعتاب:
_بقى كدا يا ست ثريا، قاعد أقول الجار الجار، وانتِ بتعملي كدا..!، انتِ بتشتميني كدا والله...
أومأت ثريا مردفه باصرار:
_لاء والله أبدًا، وبعدين دا كمان حق الحقنة،.. يلا يا دكتور ايدي مش هتفضل ممدوة كدا...
بعد أصرارٍا منها اضطر لأن يأخذ المال، ثم شكرها ورحل.
عادت ثريا ثانيةٍ لغرفة مايتلدا، فوجد سحر تُحادث فؤاد قائلة بقلق:
_ مش عارفه يا فؤاد، هي منهارة اوي، اتأكد انتَ من اللواء يمكن لا قدر الله حصلوا حاجه، مش عايزه ارن على مدام زينب عشان مقلقهاش...!!
_...............
_تمام هستناك، مع السلامة....
طالعها ثريا مُعاتبة وهي تقول:
_ليه كدا بس تقلقيه يا سحر..!
نظرت لها سحر مُستاءة من قولها، وهتفت بضيق:
_انتِ مش كنتي سامعه بتصرخ باسمه اذاي يا ثريا..!، اكيد حصل حاجه وحشه،.... لا حول ولاقوة الا بالله...!!!
تنهدت ثريا مردفه بقلق:
_يا رب جيب العواقب سليمة يا رب
*********************************
_الف مبروك يا سراج بيه، المدام حامل...
هتف بها الطبيب الذي جاء بهِ سراج، بعد أن وقع قلبهُ بين قدميهِ وهو يراها تفترش الأرض جثة هامدة.
شق ثغرهُ ابتسامةٍ فرحة بشدة، وهو يُطالع سُمية التي مازالت نائمة.
ساعد الطبيب في الخروج، ثم رحل بعد أن أخذ أجرتهُ، عاد لغرفتهِ بقلبٍا يُحلق عاليًا، ولو نعمة العقل لقفز كالأرنب من السعادة.
ضحك بخفوت على تفكيرهُ، وهو بطريقهِ اليها، دلف للغرفة فوجدها تهتهم بخفوت وهي تحاول ان تُعدل جسدها، فأسرع سيرًا نحوها قائلًا بفزع:
_متتحركيش استني...
يُجرب ولأول مرة أحساس ان ينتظر طفلًا، عقدت حاجبيها باستغراب من قلقهِ هذا، ثم سُرعان ما لاحظت انها بغرفتهُ، فتمتمت بضيق:
_انا ايه الـ جابني هنا..
جلس جوارها، فابتعدت عنهُ، وهو يقول مبتسمًا:
_انا الـ جبتك هنا، وتنسي تمامًا انك تباتي برا الاوضة دي تاني، أنا سايبك بمزاجي تتدلعي الشهر كلوا، عشان تحت عيني مش بعيدة عني، بس خلااااص، بــــح يا بيبي....
طالعتهُ بغضب، ثم نفضت الغطاء عنها، وهمّت بالقيام، فحاصرها بذراعيهِ، مردفًا بنبرة جادة وتحذير:
_أنا مش قولت مش هتتحركي....
لم تنظر لهُ واستقرت عينها في الأسفل، ثم قالت بخفوت:
_ابعد يا سراج...!
تنفس بصوتٍا مسموع، مردفًا بتسلية:
_مش باعد...
ابتلعت ريقها بصعوبة وارتباك، ثم قربت انفها من ملابسهِ، تكاد تلتهم القميص من رائحتهُ، ولا تعلم سبب وجيه لفعل هذا، سوى أنهَ جُنّت، وإن لم تفعل هذا الآن، ستنقض عليه لا مُحال.
_ابعد يا سؤاجف بالله عليك...
هتفت بها في وهن، فظن أنهُ يؤلمها، لهذا ابتعد عنها سريعًا، شعرت انها على حافة البكاء، من ابتعاد الرائحة، وقبل أن يبعُد أكثر، اعتدلت هي واقتربت منهُ بشدة تقبض على القميص جاذبة إياهُ نحوها، دافنة وجهها في قميصهِ تشتم رائحتهُ بتلذذ.
طالعها مبهوتًا من فعلتها، وهو يشعر بها تسحب نفسًا عميقًا من رائحة القميص، تفهم حالة الوحم بها، فمسد على خصلات شعرها بحنان قائلًا:
_طب اقلعوهلك طيب، ولا اجبلك ازازة البرفيوم..!
شعرت بانهُ يستهزأ بها، فابتعدت عنهُ مُجبرة، ثم اخفضت بصرها خجلة من فعلتها، وهتفت:
_انا آسفة معرفش أنا عملت كدا اذاي...
ابتسم على تفكريها، ثم اعتدل وأخذ ينزع قميصهُ، ثم مدّه لها مردفًا بخشونة:
_ولا يهمك، خدي القميص كلوا اهو، شمي براحتك...
أخذت القميص بسرعة ولهفة، ثم جعدتهُ بين يدها وضمتهُ لوجهها تشتم رائحتهُ بعمق، طالعها حقًا مدهوشًا من تمسكها بهِ لهذه الدرجة، تأملها قليلًا هاتفًا في نفسهِ بحسرة:
_يرتني ما كنت قلعته..!
لحظات حتى شعرت بأنها اكتفت من تلك الرائحة التي شعرت بأنها الهواء بنسبة لها، سلطت عينها نحو سراج الجالس بجوارها يُتابعها بعشق، اعتدلت مُحمحة بارتباك مما فعلتهُ، ولتواها تذكرت انها مُنذ قليل كانت تقوم لتفتح النافذة ثم وقعت فاقدة للوعي، طالعت سراج هاتفه باستفهام وتردد:
_هو ايه الـ حصل...!
اقترب جلسًا بجوارها، مُلتصقًا، بها ثم أحاط بيدهِ جسدها، واليد الأخرى تحركت لتمسك كفها، يضفط عليهم برفق ولين، مردفًا بحنان:
_الـ حصل يا ستي، إني قومت عشان اشغل الشفاط زي ما قولتيلي، وطفيت النار، وبعديم جتلك لقيتك... واقعة في الأرض...
شعرت بعظام صدرهِ تنتفخ متنهدًا باضطراب، ثم تابع:
_حسيت ان روحي وقفت يا سُمية، جريت عليكي علطول شيلتك وحطتك على السرير، واتصلت بالمستشفى تبعتلي دكتور علطول، وجه واحد كشف عليكي، ومشى.....
رفعت رأسها، ونظرت لهُ قائلة بخفوت:
_مقالش أنا وقعت ليه..!
ابتسم مُقتربًا من وجههُ لها، يستند على جبهتها، قائلًا:
_ لاء قال...
_وساكت...!!
رفع يدهُ التي تُحيط بكفها، وقربها نحو بطنها، هاتفًا بغبطة وحب:
_ قال ان هنا في نونو، هيشرف بعد كام شهر كدا...
اتسعت عينها زهولًا، من هذا الخبر، وجذبت يدها الإثنين تُحيط بطنها، قائلة بصدمة:
_احلف..!
ابتسم، مردفًا:
_اهه واللهِ....
وثبت اتجاه احضانهِ، تحضنهُ بسعادة وحب، وقد اغرورقت عينها من الدموع فرحًا لهذا الخبر.
احتضنها بحنان، مربتًا على ظهرها، ثم قبْل رأسها، ورفع يدهُ يمسح تلك الدمعة التي فرت من عيناهُ، ارتفع صوت نحيبها، فعقد حاجبيها مُستغربًا، ثم ابعدها متسألًا بقلق:
_سُمية..!!، بتعيطي ليه بس..!
رفعت عيناها لهُ وهي تمسح دموعها، قائلة بحب وغبطة:
_فرحانه يا سراج، فرحانه اووي....اتسعت ابتسامتهُ سعادة بفرحتها، واحتضنها ثانيةً، قائلًا بحنان:
_ربنا يديم فرحتنا دايمًا ويكمل حملك على خير يا حبيبتي...
"انتِ بطنك لسا مشلتش يا سُمية، بصِ يا حبيبتي، سراج ابني اول ابن ليا، يعني مجوزاه عشان اشوف عيالوا، فلو كدا تعالي نشوف دكتور ولا حاجه نعرف الحمل اتأخر ليه،.... اهه عشان لو عندك حاجه تمنع او عقم نقدر نلحقه من الاول يا حبيبتي..."، رنت تلك الكلمات في عقلها مُتذكرة هذه الزيارة التي أتت في حماتها، تجلدها بتلك الكلمات، التي لم ولن تنساها لها يومًا..!
ابتلعت ريقها بضيق، هاتفه:
_ رن على مامتك وقولها يا سراج.....
_ حاضر، انتِ اتغديتي الأول..!
ابتعدت عنهُ، ثم أومأت رافضة، فهي مُنذ الصباح، لك تأكل وتشعر بسدة نفس غير طبيعية، والآن علمت السبب، جذب قميصهُ من جوارها، هاتفًا:
_ هنزل اجيب غدا من برا، واجيب الدواء الـ الدكتور كتبه ليكي...
شدت القميص من يدهُ بحدة، فطالعها مدهوشًا، لتقول بتوتر:
_آآآآ..، آ سيب دا،... خد...اي قميص تاني...
استدار سريعًا، قبل أن ترى وجههُ وهو يكتم ضحكاتهِ بصعوبة كي لا تغضب، ثم اتجه نحو غرفة الثياب، يُقلب كفيهِ بيأس مردفًا:
_دا انتَ شكلك هتشوف ايام عنب يا ابن سلطانة...!!
*******************************
يجلس على مقعد مكتبهِ، يحمل بين يديهِ صورة لها وحدها يُطالعها بشرود وحزن، قلبهُ مُشتاق لها حد الموت، الحياة بدونها، كقاع الجحيم تمامًا، يلعن عقلهِ على تفكيرهُ في البعد كما أرادت، يوميًا يُصمم على الرحيل من هُنا والعودة لها، لكن عقلهُ اللعين يزجرهُ بغضب على أن يترك لها فرصة كي تُسامحهُ ولا يفرض نفسهُ عليها.
نمت خصلات شعرهِ أكثر، كما لحيتهُ المرتبة والتي لم يحلقها، مُتخذًا من هيئتهِ الجديدة، رجلًا أكثر عمقًا غموضًا ووسامة.
طُرق الباب عدة طرقاتٍ، أخرجتهُ من شرودهِ، فاعتدل واضعًا الصورة أمامهُ، أذنً لطارق بالدلوف.
دلفة أمرآة تبدو انها في أوائل العقد الثالث من عمرها، تسيؤ بخطواتٍ ثابتة، مُتهادية، كعب حذائها يصدر ضجيجًا مزعج في هذا السكون، وقفت بالقرب من المكتب قائلة بلكنة إيطالية مُتثاقلة في البداية:
_ ســامــي بــاشـا،... الأجتماع أصبح جاهزًا، والجميع في انتظارك...
وقف سامي جاذبًا معطفهِ من أعلى المشجب، ثم هتف قائلًا ببرود:
_حسنًا ليندا، يمكنك الذهاب وأخبارهم أنني قادم...
استدارت لترحل، وهي تتحرك بخطواتٍا بطيئة تُحرك جسدها بغنج، على أمل أن توقع رجلًا امتلئ قلبهُ بعشق حواءٍا واحدة...
********************************
وضعت صينية عليها كوبان من الشاي، أمام اختها وابنة اختها، طالعتها ابنة قائلة بشماتة:
_تسلم ايدك يا خالتي،... امال فين رحمة، عرفت انها قعدت من الشغل يعني، فقولت هاجي القيها في البيت...
وكزتها أمها بحدة في جانبها، فزجرتها ابنتها بضيق، رفعت والدة رحمة رأسها ونظرت لأبنة اختها قائلة بسخط:
_راحت تجيب حاجه وجايه يا رنا...
دقائق، وانفتح باب الشقة، ثم دلفت رحمة لداخل وهي تحمل بيدها حقيبتها، طالعت من بعيد خالتها وابنتها الشمطاء تلك، وسرعان ما انكمشت ملامحها بنفور هاتفه داخلها بضيق:
_يا نهار اسود على القرف الـ انا فيه دا، ايه الـ جاب الحربايتن دول هنا...!!!!
دلفت بتكاسل لداخل، تُسلم عليهم بأطراف يدها، سلمت على خالتها التي طالعتها بضيق، ثم مدت اصابعها بحنق تُسلم على رنا، قائلة بغرور:
_ هاي يا رنا...
جذبتها رنا لأحضانها، هاتفه بصوتٍا عالي، تلوح بهِ نبرة الشماتة:
_لاء هاي ايه بقى ي حبيبتييي،.. بالاحضان يا رحوم، شكلك هترجعي تاني الحتة المقطوعة والـ أهلها ولاد ستين في سبعين....
ابتعدت رحمة عنها بنفور، تُطالعها باحتقار، ثم ابتعدت قائلة بلهجة ساخطة:
_بعد ما تمشي خالتي وبنتها تعاليلي يا مامي عيزااكي...
اتسعت أعين الواقفين من وقاحتها، خصوصًا والدتها التي انكمشت على نفسها بحرج، بينما قالت رنا وهي تحمل حقيبتها وتدفع امها للخروج:
_لاء يا حبيبتي، انا ماشين خديها في ايدك،.. قولنا نعمل الواجب ونجبلكوا سكر وزيت معانا،... يلا يا اما....
ثم هتفت بصوتٍا خافت، وهي تقرب من الباب بصحبة والدتها:
_ال مامي ال.!!!
فتحت والدتها الباب، وخرجت، فخرجت وراءها رنا طالعتها والدتها بوجهٍا مُكفهر ثم قالت:
_كان لازمته ايه بس يا رنا الزيارة المهببة دي...!!!
حدجتها رنا بضيق وحدة وهي تردف بكره:
_كان لازم يا اما عشان اعرفها ان مهما راحت ولا جات مسيرها ترجع تاني المكان الـ قالت انها متتشرفش انها تقعد ولا تصاحب حد فيه، اهي اترفدت من الشغل الـ كانت فيه، ومش لاقيه تدفع اجار الشقة، عشان تبقى تبطل العنتظة الكدابة، وتبص لناس من فوق مناخيرها....
ابتلعت ريقها، مُكملة بقهر:
_فاكرة يا اما لما كانت تيجي ترميلي الهدوم الـ ضيقت عليها وتقولي البسيها يا رنا، عشان هدومك قدمت،... اديني عيناهملها عشان لما ترجع ومتلاقيش تلبس ابقى اروح ارمهملها زي ما عملت معايا..... اخرة الغرور على فطيس وحشة، اهي طلعت طلعت ونزلت نزلت على وشها...
أومأت والدتها بحسرة، فكم تلقت من تلك الفتاة كلام جارح عن حالهم وهيئتهم التي كانت تنتمي لها، قبل أن تعمل في أحد صالات الالعاب والرياضة ذو المركز العالي، ومن شهر فقط تم رفدها وقطع أي تعامل نهائي بينها وبين زبائنها، برسالة خاصة من وليد صفوان..
*****************************
انزوت على حالها في غرفة جانبية بجوار غرفتها هي وسامي قد نقلت فيها أغراضها التي تحتاجها وأغلقت الأخرى، حتى يعود ثانيةً.
استندت على الفراش تُمسد على بطنها بألم، وهي تتذكر بعض اللحظات بينها هي وسامي، كمّ ألمها وقهرها بُعدهُ، وهي للأسف لا تقوى على مُحادثتهُ، ليتها تمتلك تلك الشجاعة لفعلها.
استمعت لصوت هتاف عزالدين من الخارج، فقالت بصوتٍ عالي:
_تعال يا عز انا هنا يا حبيبي...
رأت ولدها يدخل من باب الغرفة سريعًا وتعلو ملامحهُ الفرحة الشديدة، ركض نحوها ثم صعد السرير جوارها، وألقى نفسهُ بين أحضانها قائلًا بنيرة طفولية سعيدة للغاية:
_مامي..، بابي.. كلمت بابي..
انتبهت لصغيرها وهو يتحدث هكذا بفرحة شديدة، وقالت:
_كلمت بابي يا عزوز..!!
أومأ موافق بسعادة، ثم وضع يدهُ على ذقنهِ هاتفًا:
_دا عندو ثعر هنا...!!، زي عمو وليد...
وجدت نفسها تبتسم تلقائيًا، وهي تتخيلهُ بلحية قصير، وكم بدى في مُخيلتها وسيم للغاية، نظرت لأبنها وقامت برفع شعرهُ وراء أذنهِ، مردفه:
_ كلمتوا مع عموا وليد..!
_آهه،... بابي قال،... أنا راجل، واكون معاكي،... عثان لو تعبتي..!
اتسعت ابتسامتها أكثر، على لهجة ابنها الطفولية، وهيئتهِ وهو ينفخ عضلات جسدهِ التي لم تكن سوى عظماتٍا صغيرة وهو يخبرها بنعت والدهِ لهُ بالرجل، مسدت على وجهِ بحنان، مردفه بحزن:
_هو قالك انك بقيت راجل، وتاخد بالك مني...!
أومأ موافقًا ببراءة، فتنهدت بخنقة، ثم قالت:
_تيجي تنام معايا..!
ابتعد عنها سريعًا وهو يقول :
_لاء،... هيوح لهااام...
ثم ركض خارج الغرفة، متوجهًا نحو غرفة جدتهُ، أرجعت مريم رأسها للوراء، شاردة فيهِ تُحاول تخيل هيئتهِ الجديدة، لطالما كره أن يكون لهُ لحية..!
غفت مكانها، كما أصبحت تلك عادتها في الآونة الأخيرة وبداية حملها..!
*********************************
تحرك بخفوت نحو السرير الذي تنام عليهِ بحرية، اشتاق حقًا لأن يدلف ويجدها هكذا، رغم انهُ بات مُستاءًا؛ لأنها عادت تنام كل اوقتها مجددًا.
جلس بجوارها، ثم رفع الغطاء ليغطيها جيدًا، ثم وضع يدهُ على يدها، يُداعب خصلات شعرها بخفوت، همهمت باسمهِ بصوتٍا هامس، فقال بصوتٍا منخفض:
_ نامي يا حبيبتي...
وكأنهُ يعطيها أشارة كي تذهب في نومٍا عميق، مُستغل دفء الفراش الذي اشتاقت اليهِ وانفاسهِ الثائر. التي تضرب وجنتها اليُسرى برفق.
اكتشف الآن انهُ حقًا يتأكل رغبة في النوم، ولأول مرة بحياتهِ يستمع لرغبتهِ ضاربًا ما قرر لفعلهِ عرض الحائط، فهو لن يفوت فرصة كهذه أبدًا، خصوصًا وأن جسدهُ يصرخ مناديًا الراحة.
نزع بعضًا من ثيابهِ، وألقاها على الأرض حتى انهُ لم يقوى على القيام لتغير ملابسهِ، ثم اندس خلفها يحتضنها دافنًا وجههُ بعنقها يحمدالله مئة مرة على نعمة وجودها بحياتهُ، لحظات فقط مروا وكان قد انسحب في دوامة النوم العميق متنهدًا بشيئٍا من الراحة..
*******************************
ليلًا، فُتحت الاصفاد الحديدة الخاصة بهِ، فزمجر بغضبٍا وقوة، وحاول أن يهرب من بين يد عادل، لكنهُ أمام قوتهِ ووحشيتهُ لم يقدر.
أجلسهُ رغمًا عنهُ على المقعد الحديدي، ثم عاد يربط الاصفاد مرة أخرى، بين يدهُ والمقعد.
كان سيد جالسًا موصد الأعين والأيدي والاقدام، ويُضع لاصق فوق فمهِ مانعًا لأي كلام يخرج منهُ.
في الخارج، وقفت سيارة وليد بجانب الطريق، وترجل منها متجهًا نحو هذا المبنى، وقف الحارس امامهُ يرحب بهِ ثم اتجه يفتح لهُ الباب، وتنحى جانبًا ليدلف، ثم أغلق وراءهُ.
تقدم وليد لداخل، وعيناهُ تدور في المكان بثبات، متفحصًا اياهُ، وجد أحد الأبوابِ مفتوحة غير الباب الخاص بغرفة المراقبة، فعلم لمن تكون، واتجه سيرًا نحوها.
وقف على أعتاب الغرفة، واستند على الباب، يُطالع سيد الذي انهمك من كثرة المقاومة، فسكن على المقعد، أشار وليد برأسهِ لعادل إشارة ذات مغزى، فأومأ عادل موافقًا واتجه واقفًا خلف سيد، ثم نزع الاصق من على فمهِ بقوة.
صرخ سيد بحدة متألمًا، من جذب الاصق بهذه الحدة، وظل يدور برأسهِ يسارًا ويمينًا، قائلًا بغضب وعنف، وهو يهز جسدهِ بالمقعد بقوة:
_ فكوووني يا ولاد الكلب،... انتوا متعرفوش انـا مــين..!!!، دا أنا هوديكوا في ستين دااهية يا ****، فكووونــــــــي....
اقترب وليد منهُ مبتسمًا، ثم هتف بهدوء ونبرة غير نبرتهِ، ليلعب على اعصاب سيد، قائلًا:
_ زميلتك في المهنة قالت كدا برضوا، بس اهي زيها زيك زي الكلاب، مرميه مكانها....
خبت حركتهُ وتوقف عن محاولتهِ في فك أصفاد يدهُ، وهو يستمع لتلك النبرة التي جعلت عقلهُ الباطن يعود عدة سنواتٍا للوراء، هل جنًا ويستمع لصوت الأموات..!
_سالم....!!!!!
اتسعت ابتسامتهُ وها هو قد حقق ما أراد، فصوتهُ وصوت والدهُ الى حدًا ما شبيهان، أومأ سيد رافضًا، وهو يقول باضطراب:
_لاء..، كدب .. سالم مات من زمااان،... كدب...، أنتَ مين...!!
وقف وليد خلفهُ، ثم مال مُقتربًا من اذنهِ، قائلًا بصوتٍا فحَّ، وهو لا يزال على نفس نبرتهِ:
_لا يا سيد، مش كدب، قدامك سالم صفوان، الـ موته ناقص عمر، وقهرته على أملاكه وعياله، وكل حاجه.....
ما زاد من اتقانهِ لنبرة هي نبرة القهر الذي تحدث بها، لو ترك غضبهُ على هذا الوغد لفصل رأسهُ عن عنقهِ، لكن للأسف مازال يحتاجهُ.
اعتقد سيد نفسه قد جنّ بسبب ما خسرهُ اليوم لكل شيء يمتلكهُ، والآن حقيقة واحدة تدور في عقلهِ، ان سالم عاد ليأخذ ما بيدهِ ويقتلهُ، صرخ بعنف وحدة رافضًا ما ترجمه عقلهِ:
_لاااااا،... مش هتااخد مني كل حاجه، ابنك بقى معانا خلااص، نيڤين الـ كنت بتثق فيها وقعته يا سالم،.... مش هتلحق تعمل حاجه، الأعظم ما سافة ما يعرف انك عايش هيخلص عليك، هيقتلك يا سالم من غير ما يرمش....
وها قد حصل على مرادهِ، فك رباط عينيهِ، ثم وقف أمامهُ قائلًا بخبث:
_براڤوا عليك يا سيد،.. وقعت ولا حد سمى عليك...
جحظت عيناهُ بصدمة ورعب، ثم دار برأسهِ في انحاء الغرفة بأكملها، فلم سوى وليد ورجلًا لا يعلمهُ.
_ هو ميت فعلًا مدورش كتير، بس ساب نسخه مشابه ليهِ،... تقدر تقول عليها برضوا سالم صفوان...
طالعهُ سيد بأعين محتقنة بالشر، هاتفًا باستحقار:
_انــتَ...!!!، ومالوا برضوا حماس الشباب بقى..، فكني وسيبني امشي مقابل اني مش هتكلم عن الـ حصل، ولا هبلغ عنك...
_ تبلغ عن مين يا عمنا، دا الحكومة في جيبي الـ ورا،..
رفع سيد رأسهُ بغرور مردفًا بتكبر:
_اجري يا شاطر العب بعيد، وسيب الساحة للكبار لحد ما تتعلم الصنعة...
أمال وليد نحوهُ مربتًا على خد سيد بحدة قائلًا بسخرية:
_الا أنا مقولتلكش ان معتش في حد في الساحة غير وليد صفوان،....
ثم رفع جسدهُ ووقف منتصبًا وهو يقول بفخر:
_بعد ما الورق الـ بيهدد حياتكوت كلوا، بقى معايا،... في جيبي التاني..!!
جحظت عيناهُ بصدمة، مردفًا بقوة:
_كدب، الورق دا محدش يعرف مكانوا غير سالم صفوان....
رفع حاحبهُ بتسلية، قائلًا بمكر:
_ الله..!!، مش قولتلك اعتبر الـ قدامك دا، سالم صفوان بس على صغير،... هتقعد بقى تقولي كل الـ عايزه من طأطأ لسلامو عليكوا من غير ما تنسى هفوة كدا ولا كدا عشان مزعلش، والا زعلي وحش فمتشترهوش...، وعلى الله حكايتك...
تنفس سيد بحدة وقوة، سيد مُختار قد وقع فريسة بين انياب الشبل الصغير، مدّ عادل بكرسي لوليد فمسكهُ، ثم وضعهُ أمام سيد بالمقلوب وفتح ساقين جالسًا عليهِ مستندًا بذراعيهِ على ظهرهِ، طالعهُ مردفًا بخبث:
_عرفت كدا بيني وبينك ان كل أملاكك حطتها في مناقصة انهارده، والمناقصة مريسيتش عليك، وضعت...
حدجهُ سيد بقوة، قائلًا بدهشة وكره:
_انتَ الـ ورا خسارتي دي...!!!
_عيب عليك يا سيد، المفترض تكون متأكد يا اخي..!!
جذ على أسنانهِ بغضب، وهم لسبّهِ فقام وليد بلطم فخذهِ بقوة ثم هزها بحدة مردفًا بتحذير:
_منور يا بوسييد...، لسانك ينطّور كدا ولا كدا بكلمة ما حبهاش هتزعل اوي... وأنا قولتلك خاف من زعلي عشان وحش...
هتف بها بشر، جعل سيد يُطالعهُ بقلق وخوف حاول أن يخبئهم، ابتعد وليد قليلًا بجسدهِ للوراء، ثم مدّ يدهُ داخل معطفهِ، وأخرج عدة ورقات منهُ، رفع الأوراق امام اعين سيد، ثم هتف متسألًا:
_دي أوراق نقل ملكية مصنع ست اكتوبر الـ نصبته على ابويا زمان، هتمضي عليه بالذوق وإلا...!!
هز رأسهُ رافضًا بعنف، وهو يقول:
_لااء، لاء يا وليد، مش هديلك المصنع الـ شقيت وتعـ آآآآ
وقف وليد وباغتهُ بتطويق قبضة يدهُ حول رقبتهِ بشدة، زاد وليد من ضغط يدهِ، مردفًا بشر، وغضب:
_شقى وتعب ايه يا حرامي، قصدك على العشرين الف الـ حطتهم، هتاخدهم على الجزمة، هتمضي يا سيد ولا اتصرف بقلة اصل زي ما عملت انتَ زمان، انا لحد اخر فرصة بحاول اكون كويس معاك....
ابعد يدهُ عن عنقهِ، ثم هتف مُحذرًا وهو يحدجهُ بشراسة:
_هتمضي...
أومأ رافضًا، فهز وليد رأسهُ موافقًا، ثم تحرك واقفًا خلفهُ، مدّ يدهُ في جيب بنطالهِ وأخرج علبة مستطيلة صغيرة، وهتف بخفوت ومكر:
_كنت متوقع انك تقول كدا..
فتح الغطاء ليظهر حبرًا أزرق، قام بإمساك كف سيد الموصدة، وارغم يدهُ على فتحها، ثم امسك اصبعهُ الإبهام، ثم غرسهُ في الحبر، وقام بالتوقيع على جميع الأوراق، تحت صراخ سيد من ألم يدهِ المعوجة بطريقة خاطئة.
ابتعد وليد عنهُ ناظرًا للأوراق برضى، ثم اعطاها لعادل، فأخذها منهُ محتفظًا بها حتى يطلبها، عاد وليد يجلس مكانهٍ مرة أخرى، فطالعهُ سيد بغضب شديد، مردفًا بوعيد:
_هتندم...، هتندم يا وليد على عملته دا..
نظر لهُ مبتسمٍا بلامبالة، ثم قال:
_دا لما تخرج من هنا بسلامة.....
انكمشت ملامحهُ بجدية قائلًا:
_أوصل للأعظم دا اذاي..!
طالعهُ بترقب، منتظرًا أجابتهُ، طال الإنتظار، فوقف وليد دافعًا كرسيهِ بحدة، قائلًا ببرود وجدية:
_معرفتي اذاي اوصل لراجل دا، قصاد حمايتك منوا، انتَ عارف كويس ان حاجه زي دي لو عرفتها يبقى انتَ في عداد الموت، وبرضوا عارف كويس اني اقدر احميك منهم....
تحرك وليد مغادرًا، وخلفهُ عادل أيضًا، لم يُفكر كثيرًا، فحياتهِ أولى من اي شيء، هتف بصوتٍا مضطرب، ليمنع وليد من الخروج:
_استنى...
توقف وليد بالفعل، ولم يستدر، فتابع سيد بتوتر:
_هـ... هـ آآ هقولك،... بس.. تضمنلي حمايتي فعلًا،.... وترجعلي أملاكي...
_نصها..!، وسواء موافق ولا لاء، هعرف برضوا...
ابتلع ريقهُ بقهر، على شقى عمرهُ الذي أتى بـ طفل ولد البارحة، وسواهُ بالأرض، ليكون رمادًا قد طار مع مهب الرياح، استدار وليد وتابعهُ مترقبًا، فأومأ بخنوع قائلًا:
_موافق....
**************************
_لاء يا نورين شايف ان تأخرك انهارده من غير داعي، وانتِ مصممة تقولي أعذار، مش منطقية....
هتف بها نبيل وهو يُحادث نورين، في شرفة بيتهِ، وعلامات الضيق والحنق تعلو محياه، صدح صوتها الأسف عما فعلت، وأقرت الحقيقة، بأنها تأخرت لتلكّعها في المشي مع أصدقائها.
تنهد بخفوت، ثم قال بتحذير:
_هسامحك المره دي، عشان خالتي مخرجتكيش فعلًا من يوم كتب كتاب أحمد..
_.........
ابتسم مُتمتمًا بحب:
_هسيبك تكملي مذكرتك عشان معطلكيش، مع السلامة....
أغلق معها بعد أن ودعتهُ بنبرة عشقٍا وولهة، زفر بضيق على ما يفعلهُ، فهو منذ شهر تقريبًا يتحدث معها يوميًا حتى بات يومهُ لا يمر بخير سوى، ان يستمع لصوتها، لونت حياتهُ ببراءتها ومشاكستها لهُ يوميًا.
تذكر أمر هذا الطفل الذي ظنّ انهُ من بعض شُعيراتٍا نمت في شاربهِ قد أصبح كبيرًا وله الحق في فعل ما يريد، لولا قدمهِ المصابة لتولى مهمة ضربهُ بنفسهِ، لكنهُ كلف أحد أصدقائهِ بها، ووقف هو يتابعهُ حتى أقسم على انهُ لن يفعل هذا مجددًا، وسينسى انهُ علم فتاةً تُسمى نورين من الأصل.
عاد من شرودهِ، وطالع الهاتف مجددًا، يقتلهُ شعور عدم الرضى على ما يفعلهُ، يعلم حقيقة مشاعرهُ اتجاهها، لكن..!!
تقدم يستند على عصاهُ لداخل، وهتف مناديًا:
_ماما....
أتاهُ صوت والدتهُ من الداخل تقول بصوتٍا متعجل:
_أنا هنا نبيل، عايز ايه....
تحرك نحو غرفة والدتهُ فوجدها تمسك الهاتف باضطراب، فاقترب منها قائلًا بتسأل:
_ايه يا ماما، في ايه مالك..؟!
زفرت زينب بخنقة، ثم قالت بضيق:
_اخوك مكلمنيش انهارده خالص، قلقانه عليه اوي...
جلس على السرير قبالتها، ثم قال مطمئنًا ايها:
_ما تخفيش يا ست الكل، هتلاقيه كان سهران ولا صاحي من بدري ونام....
_مش عارفه،..... بس لاء كان رن عليا من بدري لو هينام...
_خير يا ماما ان شاء الله، متوتريش نفسك بس، هتلاقيه شويه وهيكلمك....
وضعت الهاتف بجوارها، ثم رفعت بصرها لأعلى قائلة بتوتر:
_يا رب....
نظر نبيل لوالدتهُ بشيئٍا من التردد، ايتحدث فيما يريد الآن ام لا..؟!، نظرت زينب لإبنها، ثم قالت:
_ ايه يا نبيل عايز تقول حاجه يا حبيبي...
_عايز اخطب نورين يا ماما...
قالها هكذا فجأة وبدون مقدمات، حتى انهُ ظن انهُ يقولها في عقلهِ، لكن ملامح والدته التي اتسعت عينها زهولًا، ثم انتظرت لحظات، تستوعب الصدمة، حتى قالت بدهشة:
_نبيل..!، ايه الـ خلاك تفكر كدا يا حبيبي..!
تعجب من سؤال والدتهُ، فقال موضحه:
_اقصد نورين لسا صغيرة اوي يا نبيل، مش عادتنا دي يا بني....
أومأ رافضًا، ثم قال بجدية:
_لاء يا ام نبيل، انا هخطبها دلوقتي لحد ما تبقى في سنة أولى كلية، لكن مش دلوقتي أكيد، وحتى مش عايزها تعرف اني هطلبها غير بعد ما السنة تخلص، عشان ماشتتهاش، أنا الحمدلله منا وانا في كلية عملت مشروع المطعم دا، هو كان بمساعدة أحمد، بس رجعتله فلوسوا تاني، وحاليًا الحمدلله المطعم كويس وليه فرعين وبيدخلي دخل حلو وأنا قاعد مستريح، كلمي خالتي وقوليلها،.. مش عايز ابدا انا عشان ما تتحرجش....
تنهدت زينب، مُطالعة والدها الصغير الذي لم يعد صغير البته..!، فبالفعل قد أسس مطعمهُ في مكانٍا ما أمام النيل وفرهُ لهُ اخوهُ، وساعدهُ في شراءهِ، لكن أيضًا متخذًا عهد عليه الا يُضاف جنيهًا واحدًا من مكسبهِ في البيت، وهو الملزوم من كل شيء، مما أتاح لهُ فرصة ادخار الأموال الرابحة، وفتح فرعًا أخر.
_ها يا ماما قولتي ايه..! هتكلميها....
طالعتهُ زينب مبتسمة من جديتهِ واصرارهِ على ما يقول، وأردقت بمكر:
_على كدا بتحبها اوي..؟!
مسد بيدهِ على وجههُ خجلًا، ولأول مرة يعرف الخجل طريق نبيل الجبالي، فقد عهدناهُ وقحًا..!
قهقهت زينب بصوتٍا مرتفع، حتى أدمعت عيناها، ثم فتحت ذراعيها لهُ، فاتجه نحوها يحتضنها بحب، ربتت زينب على ظهرهِ بحنان، ثم قالت:
_ ربنا يكرمك وتخف على خير، وتروح تكمل جيشك، وبعدين نتتقدملها، بس أنا هجس نبض خالتك برضوا، عقبال ما تخلص....
لم تسعهُ الفرحة، فاحتضن والدتهُ بشدة، ثم ابتعد وأمسك كفها، وانحنى يُقبلهُ بحب.
*********************************
تعالا رنين هاتفها، فتأهب الجميع للرنين، طالعت ماتيلدا سحر التي فتحت الاتصال بلهفة، ثم تحدثت بسرعةٍ قائلة:
_ها يا فؤاد طمني، احمد بخير..!
وضعت يدها على قلبها، مردفه بامتنان:
_الف حمد وشكر ليك يا رب..
جذبت ماتيلدا الهاتف من يد سحر سريعًا، ثم وضعتهُ على اذنها، قائلة بخوف وقلق ودموعها لم تجف فأثرت على صوتها:
_أهـ..مد بهير يا انكل..؟!
_بخير يا بنتي والله، انا لسا فاصل معاه، بس هيطمن اموا وبعدين يكلمك...
كانت تجلس على ركبتيها على السرير، وعندما استمعت لكلماتهِ أغمضت عينها وجلست متنهدة براحة، وأفلتت الهاتف من يدها.
تركتهُ فأخذتهُ سحر وخرجت لتحادثهُ.
بحثت عن هاتفها على السرير بسرعة، لكنها لم تجدهُ، فقالت ثريا وهي تشحذ عجلاتها للخارج:
_هتلاقي في درج الكميدينو، اهو الحمدلله اطمنى عليه، هروح انام بقى....
أومأت موافقة، وفتحت درج الكومود الأول، لتجد هاتفها بهِ، ابتسمت وهي تأخذهُ، ثم اتجهت نحو الشرفة تقف بها تنتظر مُكالمتهُ.
دقائق قليلة وأنار الهاتف باسمهِ فعلت دقات قلبها مع الرنين الذي انقطع سريعًا بعد أن فتحتهُ، ووضعتهُ على أذنهُ قائلة بصوتٍا باكي:
_أحمد..
_أنا في مكان في شبكة كويسة، هقفل وافتح انستا اكلمك، اوك..!
أومأت سريعًا موافقة وكأنهُ يراها، ثم أغلقت الاتصال، وقامت بفتح شبكة الواي فاي، لحظات واتاها اتصالًا يُطالبها بفتح الكاميرا، ففتحت الأتصال لترها جالسًا في مكانٍا ما على سريرٍا ويعود بظهرهِ للوراء.
طالعها متأملًا وجهها المنتفخ من كثرة البكاء، ثم قال مشاكسًا:
_انتِ حطى فلتر ولا ايه..؟!
ابتسمت على حديثهِ، ثم أومأت قائلة:
_لاء...
_الصلاة على النبي، انتِ كل ما اكلمك تعيطلي عشان اشوف الوش الحلو دا...
أحمرت وجنتها خجلًا من غزلهِ العفيف، ثم طالعتهُ هاتفه بخوف:
_انتَ كويس أحمد..!، ايه الـ حصل، أنا سمـءـت صوت رصاص....
اعتدل قليلًا، ولم ينتبهِ لذراعهِ المجبر الذي كان يُخفيه، قائلًا بهدوء:
_اهدي براحه،.. انا كويس والله..، مالك يابنتي..!
قالها عندما لاحظ تعابير وجهها المصدومة، وضعت يدها على فمها تكتم شهقاتها، قائلة بفزع:
_أحمد... دراعك،... انتَ...ٱٱٱ...
وجهه كاميرا الهاتف نحو ذراعهِ المصاب، مردفًا باستخفاف:
_دا..!، دي طلقة خدشت كتفي بس.....
انكمشت ملامحها سخطًا من استخفافهِ وسخريتهُ، وهتفت:
_بس..!!، انتَ اتـءـورت وتقول طلقة كدا، زي ما يكون خربوش..!
ارتفعت صوت ضحكتهُ عاليًا، فطالعتهُ حانقة، حتى صمت مردفًا:
_خربوش..!، انا كدا اطمنت عليكي في اللغة من قعدتك مع سحر، انتِ بقيتي فُلة يا روحي....
زغرتهُ بنصف عينًا، هاتفه بحنق:
_بتهزر أحمد..!
ابتسم على قلقها الذي يظهر في عينها ونبرتها بوضوح، ثم قال مطمئنن ايها:
_والله يا روحي انا بخير..
ثم غمز مردفًا بمزاح:
_وبعدين جوزك أسد يا بنتي في ايه..!
**************************************
توالت الأيام عليهم، بين شد وجذب، تماثلت زهرة الشفاء تمامًا، وأصبحت تعتني بنفسها جيدًا وبجنينها، تحت إمرة وليد.
بينما مريم فحالها لم يتغير أطلاقًا، تعيش على أمل عودتهِ، تستمد قوتها من محادثاتهِ مع عز الدين، الذي يصعد يخبرها عما حادثهُ والدهُ الذي يُشدد كل مرة عليهِ أن يعتني بها جيدًا حتى يعود.
عاد إبراهيم وقمر الى قصر الساعي، بعد ألحاح شديد من آمنة أن يعودوا حتى يعود حسّ القصر من جديد الذي اختفى بعد أن ذهب إبراهيم وريم.
أما سُمية وسراج، فقد أصبح سراج شديد العصبية والغضب عندما يجدها تفعل أي شيء من وجهة نظرهُ ستضرها هي والجنين، كما بات يمكث في البيت كثيرًا يتابع أشغالهُ عبر الأنترنت كي يكون بجوارها بعد أن رفضت الذهاب لفيلا العائلة، مُعللة أن هذه الشقة تشعر فيها براحة نفسية تُساعدها على الهدوء والراحة ونمو جنينهم بخير، وللحق لم يعد يرفض لها طلبًا اطلاقًا فقد علمت أخيرًا نقاط ضعفهُ.
وعن فتحي وريم فهذا أكثر ثُنائي هادئ مُحب للغاية، تعيش بدون اي توتر او اضطراب، وعندما يُسافر ويبيت في الخارج اكثر من ليلة، تذهب لقصر الساعي كي يكون مطمئنًا عليها.
*********************************
في يومًا ما، دلف وليد غرفة نومهم، فوجدها تجلس على السرير تضع أغراضهُ في حقيبة سفر صغيرة، بوجهٍا مكفهر.
طالعها متفحصًا وهو ينزع سترتهُ، ثم أردف متجاهلًا ضيقها الذي يعلم سببهُ:
_ جهزتي الشنطة يا زهرة..!
أومأت بنعم دون الحديث، فتنهد زافرًا هواء رئتيهِ من أنفهِ بحدة، ثم اتجه نحوها وجلس أمامها، بعد أن أبعد الحقيبة قليلًا، تأملها مردفًا بحنان:
_يا زهرة أنا خايف عليكي تتعبي مني في الطريق ولا يجرى حاجه..!
طالعتهُ مردفه بسخط:
_منا بقيت كويسة يا وليد، خدني معاك بالله عليك، انتَ رايح الغردقة يعني مش القطب الشمالي..!
وقفت مستنده على ركبتيها على السرير فظهرت بطنها _والتي برزت بشدة_ بالقرب منهُ، استندت بكفيها على كتفهِ وهتفت برجاء:
_ بالله عليك، بالله عليك وافق.... يا وليد، انتَ سافرت من اسبوع برضوا ولوحدك، هروح معاك المره دي.....
مال مُقبلًا بطنها بحنان، مُتجاهلًا حديثها للمرة التي لا يذكر عددها، حتى لا ينفعل عليها، وأردف:
_حبيب بابا عامل ايه..!
_كويس، ... ها موافق بقى..
ابعد يديها عنهُ برفق، ثم وقف مُتجهًا نحو غرفة الثياب، وهو يقول برفضً قاطع:
_ لاء يا زهرة...
اختفى داخل غرفة الثياب، فجلست متنهدة بضيق وسخط، ودونًا عن أرتها بدأت في البكاء، أصبحت رهيفة المشاعر جدًا، وتشعر بشيئٍا سيء على وشك الحدوث، يبدو انها بالفعل ستضع يدها على قلبها حين يخرج حتى يعود سالمًا وبخير، كما أخبرتهُ ذات مرة.
دقائق خرج وقد بدل ثيابهُ كليًا، رمقها من مكانهٍ فوجدها تجلس ضامة ساقيها دافنة وجهها بين ذراعيها.
تنهد بإرهاق، فاليوم تحديدًا لا يستطيع أخذها معهُ والا يُغرض حياتها للخطر، فقد قارب الموضوع على الإنتهاء، وأعادة كل شيء الى نُصبهِ الصحيح.
اقترب منهًا، وأرغم وجهها على أن ينظر لهُ، جلس عكسها لكن جوارها، وهتف بحنان وحب:
_ والله ما هينفع يا عيوني، انا رايح عشان اجتماع مهم ومش هكون موجود في الفندق غير وقت النوم بس، اوعدك بعد ما ارجع والدنيا تكون كويسة معايا، هاخدك ونختفى أسبوع، ومحدش يعرف عننا حاجه خالص... ها موافقة..!
رمقتهُ في شكًا، فطالعها مُستاءًا وهو يقول:
_انا عمري كدبت عليكي، او وعدتك بحاجه وموفتش بيها..!
أومأت نافية،.وهي تقول بخفوت، عما تشعر بهِ ويخنق صدرها:
_بس...، مش عارفه حسى اني خايفه، او حاجه وحشه هتحصل،...
طالعتهُ، مردفه بشك وقلق:
_انتَ عندك اجتماع بجد، ولا رايح تعمل حاجه تانيه...
أغمض عينيهِ، مردفًا باستسلام ومسكنة ذائفة:
_كدا انا مضطر اقولك الحقيقة، انا عندي شحنة سلاح لازم اروح اطلعها بنفسي..
حدجتهُ بقوة لترى ملامحهُ الذي ستنفجر من الضحك، فوكزتهُ في كتفه بضيق، قائلة بغضب:
_بطل رزالة بقى..
ابتعد عن يدها ضاحكًا بصوتٍا عالي عليها، ثم مسك كفيها، ومال مقبلًا اياهم مصدرًا صوت بقبلتهِ، ثم رفع رأسهُ مردفًا بحنان وهو يبعد خصلة شعرها التي هبطت على وجهها، قائلًا بحنان وجدية:
_متقلقيش عليا يا زهرة، أنا هكون بخير طول ما انتِ بتدعيلي يا روحي
تنهدت مطالعة اياهُ بقلق لم يزول من قلبها، تفهم نظراتها فقبْل أحدى وجنتها قاصدًا تشتيتها عما تفكر، ثم أردف:
_شكلك لسا زعلانه، وانا كدا مش هعرف اسافر وانتِ زعلانه مني على فكرا....
!
طالعتهُ بحنق سخرية، فقال ببراءة:
_اهه واللهِ...
تنهدت، وهمت بالرد لكنها تذكرت شيئًا، فهتفت وهي تطالع بذلتهُ:
_وليد، أنا حطتلك بدلة نفس اللون دا، لبستهُ تاني ليه...!
********************************
خرج من أبواب القصر، وقبل أن يُكمل طريقهُ، وقف قبالة عادل، وأردف مؤكدًا عليهِ:
_ عادل، أهلي في أمانتك،... اوعى تسمح لحد يهوب يمتهم،..
ثم احتدت نبرتهُ، مردفًا بحزم:
_لو حصل اي حاجه لمراتي وأهل بيتي، مش هيكفيني عمرك وعمر الـ معاك ابدًا يا عادل....
أومأ عادل قائلًا:
-تحت أمرك يا وليد باشا،..... بس..، بس أنا خايف الصراحة من ياسر...
_لاء ما تخفش، دا تحت عيني...
انتهى من حديثهِ معهُ ثم قاد سيارتهِ، متوجهًا نحو الشارع الرئيسي، ومنهُ الى الطريق الصحراوي ذاهبًا لمدينة الغردقة.
كانت هُناك سيارة تتبعهُ مُنذ أن خرج من محيط القصر، في سيارة وليد، استند بجزعهِ على نافذة الباب، وبسطّ كفهِ ثم اسند رأسهُ عليهِ، وباليد الأخرى يحرك عجلة القيادة بسرعة نسبية.
مر ببالهِ هذا اليوم الذي أوقع سيد مُختار بهِ، أول سلمة لمحاربة من ظلموا والدهُ، فبعد وقوعهِ أوقع الجميع من بعدهِ.
"عودة بالوقت للوراء"
_ الأعظم محدش بيجيبوا، هو الـ لما يعوز يوصلك رسالة بيبعتهالك على ميل سري، يا أما جواب مشفر....
حدجهُ وليد بقوة مردفًا:
_عايز تعرفني ان مفيش اي حاجه توصلني بيه نهائي..
تنهد سيد بإرهاق، ثم قال بوهن:
_لاء فيه...،في مشتل ورود قصاد مطعم الخان في الغردقة شارع 23 بتاع واحد اسمه بنيامينـ..آآ
قاطعهُ وليد مردفًا بتسأل:
_يهودي..!
_ متهيألي اهه، الراجل دا عجوز، معرفش اي علاقته بيه، بس دا لو عايز توصله، بتبعتله رسالة عن طريقوا....
توقف عن الحديث فجأة، ثم همس بصوتٍا ضعيف:
_عايز أشرب، عطشان....
أشار وليد لعادل أن يُنفذ طلبهُ ويأتي لهُ بالماء، خلال لحظات تجرع نصف لتر من الماء، لكثرة عطشهِ، ابعد وجههُ عن الزجاجة عندما ارتوى، فأنزل عادل الزجاجة، وابتعد عنهُ.
رمقهُ وليد بحدة، مردفًا:
_كمل،... أوصّل لراجل دا رسالة اذاي عن طريقةالـ اسموا بنيامين دا..
تنهد سيد، مردفًا بتعب:
_قولوا، الوردة السودا في عنتاب دبلت..، وهو هيعرف، ووصله الرسالة،...... انا معتش قادر اتكلم....
وقف وليد دافعًا الكرسي بعيدًا بلامبالة، ثم قال:
_دا الـ كنت عايزه منك، فكه يا عادل واقفل عليه....
خرج وليد من الغرفة، ففك عادل أصفاد سيد، ثم تركهُ واتجه للخارج، يوصد الباب عليهِ جيدًا.
"عودة للوقت الحالي"
أنزل وليد يدهُ من على النافذة وثبتها يديهِ الإثنين على عجلة القيادة بحدة، وعينها تلمع بالشر، مر ببالهِ شريط هذا اليوم سريعًا، الذي ذهب بهِ للغردقة بعد أن تأكد من وجود هذا الرجل بالفعل..
"عودة بالوقت للوراء"
دلف مشتل الورود، بظهرًا منتصب وجسدًا متأهب، يضع نظارتهُ السوداء، فوق عينيهِ، تقدم من الرجل بنيامين، والذي كان يُعطي فتاة ما الورد، قائلًا بلهجة عربية، صحيحة الا حدًا ما:
_ ابقي زورينا تاني ورداية....
ابتسمت لهُ الفتاة _والتي تبدو أجنبية_ بلطافة، ثم رحلت، اتجه الرجل واقفًا أمام وليد مردفًا بابتسامةٍ روتينة:
_هالوا سينيور، تحب تاخد ورد لونوا ايه..!
ازداد قتامة عينيهِ وهو يتابعهُ من خلف النظارة، ثم قال باشمئزاز:
-أسود....
تجهمت ملامح الرجل، من طريقة حديث وليد، وقبل أن يتحدث، ضرب وليد الطاولة الزجاجية بحدة، فأصدرت صوت اصطدام عالي، فصرخ الرجل بحدة:
_سينيور..!!!!
_اسمع يا راجل انتَ،... كلمة السر بتاعت الراجل الـ مشغلك، الوردة السودا في عنتاب دبلت، قولوا الورق الـ بيهدد امبراطوريتك العظيمة والـ كنت هتقتل سالم صفوان عشانه، بقى في أيد وليد صفوان، ومش هيطلعه، غير لما يقف قصادي وجهًا لوجه...، غير كدا أكيد هو عارف هيعمل ايه، عشان يعرف وليد صفوان كويس، طلما كان عايز يجنده لحسابه.....
"عودة للوقت الحالي"
زفر وليد هواء رئتيهِ بحدة، وأصرار على معرفة هذا الرجل، سيجعلهُ يندم لأنهُ وقف يومًا ما بطريقهِ، هو ووالدهُ.
لاحظ وليد تلك السيارة التي تتبعهُ في الخفاء، وكأنهُ لن يراهَ، لكنهُ كان متوقع هذا الفعل.
********************************
بمدينة الغردقة زينة البحر الأحمر، سُبحان من أبدع تصويرها، تلاطمت الامواج بقوة على الشاطئ، في هذهِ الساعة المتأخرة ليلًا.
وقف في شرفة أحد غرف الفُندق الواسع هذا.
كانت الشرفة مظلمة فلم يظهر وجههُ، فقط جسدهُ من كان ظاهر قليلًا، اهتز الهاتف في جيبهِ فرفعهُ بثبات واضعًا اياهُ على أذنهِ، قائلًا بنبرة عربية ركيكة:
_موشع،.. ايه الأخبار..!
_قام بالتحرك بمفردهِ مُنذ نصف ساعة سيدي....
_اوك موشع، بلغني لما يوصل...
أغلق معهُ، ثم أنزل هاتفهِ ووضعهُ بجيبهِ، تنهد ساحبًا كمّ كبير من هواء البحر، ثم سلط بصرهِ على القمر الذي يبدو هلالًا، شرد قليلًا في ما مضى، وما دعاهُ لنزول مِصر..
"عودة بالوقت للوراء"
كان يمكث على مقعدهِ النفيس، يمسك بيدهُ كوب نبيذ يحتسيهِ بهدوء واستمتاع وظهر المقعد للأمام، دق الباب فضغط على أحد أزرلر جهاز التحكم الذي يمسكهُ بيدهِ، فانطفئ الضوء، يليهِ صوتهُ يقول بالعبرية:
_ادخل...
انفتح الباب، ودخل رجلًا ما مطأطأ الرأس في خنوع قائلًا:
_سيدي الأعظم، هُناك رسالة هامة من مصر من السيد بنيامين، عاجلة....
_اترك الرسالة وأخرج....
تقدم الرجل ورأسهُ في الأرض لم يرفعها أبدًا واتجه نحو المكتب، يضع الجهاز اللوحي عليهِ، ثم عاد بجسدهِ للوراء، وهو على نفس الحالة، حتى وصل للباب، فأمسك المقبض وخرج مغلقًا الباب خلفهُ.
استدار بالكرسي، ووضع كأس النبيذ على المكتب، ثم مدّ يدهُ للجهاز يمكسهُ، وكان مضأ على الرسالة، فمر بعينيهِ على الكلام.
اتسعت عيناهُ زهولًا ثم ألقى الجهاز على المكتب بحدة، وقبض على يدهُ بغضب، زفر بحدة، يُفكر فيما عليهِ فعلهُ، حتى التمعت عيناهُ بالشر عندما علم ما سيفعل.
مدّ يدهُ يفتح درج كبير بالكومود، لتظهر خزنة حديدية صغيرة الى حدًا ما، يسهل التنقل بها، مصنوعة من مادة يصعب بل يستحيل كسرها واختراقها.
حملها ووضعها على ظهر المكتب، ثم بدأ بفتحها، والذي وحده يتطلب مجهدًا شاق.
خمسة دقائق، وانفتحت الخزنة، لتظهر عدة أوراق مهمة يجمع بها حياة أُناسٍا سلكوا هذا الطريق دون إرادتهم، ظل يبحث عن شيئٍا ما، حتى وجد ضالتهِ.
سحب صورة فوتوغرافية قديمة الصنع، قد خطى عليها الزمن وعفى، أربعة شباب بها مجتمعون، يساندون بعضهم البعض، ضغط بأطراف أصابعهِ الممسكة بالورقة بحدة، هامسًا:
_متزعلش مني يا صاحبي، زمان قولت هقتلك عشان الورق دا، بس عزيز عملها قبلي، دلوقتي هعوضعها في ابنك.....
"عودة للوقت الحالي"
مرت ساعتين، كان ما زال بين جلوس وقيام في الشرفة، حتى تعالا رنين هاتفهِ.
فتح الإتصال سريعًا، ووضعهُ على أذنهِ، قائلًا:
_وصل...
_أجل سيدي، لتوهِ قد ترجل من سيارتهِ يحمل حقيبة، وهو الآن في طريقهُ لجناحهُ....
_تمام،.. خليك وراه....
***************************
وقف وليد داخل المصعد، يحمل بين قبضتيه حقيبة من مادة صلبة، صعد نحو الدور المنشود، ثم اتاهُ اتصال فجأة، فأخرج الهاتف، وهو يشير للعامل أن يترك الحقيبة الخاصة بثيابهِ جانبًا، ففعل كما اراد.
فتح وليد الأتصال ثم استمع لما يُقال على الجهة الأخرى فتجهمت ملامحهُ، ثم رد قائلًا بضيق:
_تمام، نص ساعة وهنزل اقابلك، سلام...
أعطى العامل بعض الأموار، فشكرهُ ورحل، دلف وليد لداخل بعد أن أغلق خلف الرجل.
**************************
في قصر الساعي، كانت قمر تجلس على سفرة العشاء مع علّي وممدوح وآمنة، تأكل الطعام بدون شهية تُقلب بهِ، وعينها من حين لأخر على شاشة هاتفها، لاحظها الجد فقال متسألًا:
_ايه يا قمر يا بنتي، مش بتاكلي ليه..!، الأكل مش عاجبك ولا ايه..!، ما تشوفي مرات ابنك يا آمنة...
هتف موجهًا كلماتهُ الأخيرة لآمنة، التي طالعت قمر بمكر مردفه:
_معلش يا بابا، هتلاقيها زعلانه عشان هيما مش معانا انهارده...
وبالفعل صدقت فيما قالت، فهو لأول مرة يبتعد عنها، ويبيت خارج البيت.
صدح رنين هاتفها فامسكتهُ ووقفت سريعًا مردفه بعجالة:
_عنئذنكوا ثواني...
ثم سارت مبتعده عنهم بسرعة، وهي تُجيب على اتصالهِ بلهفة قائلة:
_هيما،.. وصلت يا حبيبي
استمعت لردهِ فتنهدت براحة، تحمد ربها، ثم هتفت:
_طيب ، هتغيب كتير...!
انكمشت ملامحها حزن عندما اتاها ردهُ، فهتفت بضيق ترفض تلك المدة :
_تلاته او اربعة ايه يا هيما..!
زمت شفتاه بارتباك، عندما اخبرها مازحًا ان تقول بصراحة، انها لن تستطيع النوم بدونهِ، حمحمت مردفه بخفوت:
_طيب، هتيجي امتى بقى..!!
نفس الإجابة، هزت قدمها بتوتر وهي واقفة، ثم قالت بغضب وهي تهم بغلق المكالمة:
_ماشي يا هيما، خليك عندك ومتجيش انتَ حر، بس أنا قلبي شال خلاص، سلام....
ثم أغلقت المكالمة، وهي تتنفس بصوتٍا عالي غاضبة، دبدبت بقدمها انفعال شديد، هاتفه بحنق :
_ماشي، والله لانيمك في اوضة الاطفال لما ترجع ..
زفرت بخنقة، ثم اتجهت نحو الداخل، حيثُ باقي الأسرة، فوجدتهم على حالهم، هتفت آمنة متسألة بقلق:
_ها يا بنتي، هيما بخير...
أومأت كاتمة ضيقها، وهي تقول:
_اهه يا ماما آمنة كويس الحمدلله...
ضربت آمنة الطاولة بيدها برفق، لتجذب انتباها، ثم قالت بمرح:
_طب ايه رأيك عشان ماما آمنة الحلوة دي، نجهز سهرة محترمة بنت ناس، ونقعد نتفرج على فيلم كوميدي كدا...
وها قد أتت على نقطة ضعفها، او الجرح كما يقولون، التمعت عينها بسعادة وهي توميأ موافقة مردفه:
_اهه بجد يا ريت....
هتف علّى مازحًا:
_خلاص بقى اعملوا حسابي معاكوا...
_لا يا باشا دي جلسة نسائية..
طالع علّي والدهُ قائلًا:
_يرضيك كدا يا حج..!
طالعهُ الجد مردفًا بمزاح:
_دا يرضيني ويرضيني كمان، بس عشان خاطري يا آمنة، داخلينا المره دي، وهنعمل نفسنا مش سامعين...
ضحكوا جميعًا على مزاحهُ، فأكمل الجد موجهًا حديثهُ لعلّي، ضاحكًا:
_انتَ مع مراتك، وانا مع قمر العسل دي...
رد عليه علّي بجدية مازحًا:
_مسمعكش هيما يا ابوا علّي...
حدجه الجد بقوة زائفة، ثم هتف:
_ولا يسمع، هو يقدر يقول حاجه...
رفع علّي يدهُ مستسلًا وهو يقول:
_لاء طبعًا،.. ولا يفتح بوقه...
ابتسمت قمر على حديثهم المرح، ولوهلة شعرت بجو الأسرة التي افتقدتهُ، والذي تحسد إبراهيم عليه، ليت لها أمًا تقلق عليها كما تقلق آمنة على إبراهيم، وأبًا كـ علّي، مهما حاول إبراهيم والذي يسعى كي يجعلها لا تتمنى أن تشعر بشعور أن يكون لها أبًا، الا انها دائمًا ما تشعر بأنها فعلًا تريدهُ، تريد والدها هي، الذي للأسف باعها وكان على استعداد تام لبيع شرفها وعرضهِ، بدون ذرة ندم.
*************************************
نصف ساعة، وانفتح باب جناح وليد، خرج منهُ متجهُا نحو المصعد مُستقليًا اياهُ للأسفل.
كان يتبعهُ رجلًا بزي أحد العاملين، رفع الرجل هاتفهُ بعد أن دق على السيد الأعظم، ثم هتف:
_سيدي، هبط الآن ويداهُ فارغتان، الحقيبة بالداخل...
قابله الصمت قليلًا، ثم اتاهُ صوت سيدهُ مضخم بأحد البرامج، يقول:
_أأمر ديڤيد بقتله لما ينزل، وابعت نوعام يجبلي الشنطة من جناحه....
_أمرك سيدي...
أغلق معهُ، ثم دفع العربة التي تحتوي على منظفات، وقام بنزع المريول الذي على خصرهُ وألقاهُ على العربة، ثم اندفع ركضًا نحو المصعد وهو يُهاتف ديڤيد يخبرهُ بأمر الأعظم، ثم هاتف نوعام، كي يصعد ويسرق الحقيبة، قبل أحداث جلبة القتل.
في الأسفل خرج وليد يضع قبعة ذات حواف اسطوانية الشكل، متوجهُا نحو المرأب.
كان الفندق عبارة عن ثلاث مبانى يشكلون دائرة مفتوحة والشرفات على جانبين، جانب يطل على البحر مباشرة، والجانب الأخر تطل الشرف والنوافذ على الحدائق الفسيحة بهِ، يقف في شرفة أحد المباني هذه من الجانب الأخير، رجلًا يدقق النظر في بندقيتهِ، يُحركها بدقة يمينًا ويسارًا كي يصيب الهدف.
أمام جناح وليد، وقف نوعام أمام الباب وبدأ يفتحهُ، وعيناهُ تجول على المكان يسارًا ويمينًا، انفتح الباب ثم دلف لداخل بحذر.
وقف يدور في المكان بعينيهِ، حتى وقعت عيناهُ على السُلم، فسار نحوهُ صاعدًا للأعلى.
دلف غرفة النوم الرئيسية، وجال بعينيهِ في الأرجاء، حتى وقعت على الحقيبة، ابتسم بخبث وغرور، ثم رفع هاتفهُ يبعث رسالة صوتية لهاتف سيدهُ، مردفًا:
_ وجدتهُ سيدي، الحقيبة بين يدي.....
في نفس الوقت، في الشرفة التي يقف بها القناص، ظهر صدر وليد بوضوح في العدسة أمام أعين الرجل المنصبة في البؤرة، فحرك يدهُ على الزناد ضاغطًا اياه عندما ثبّت الهدف لحظات، لتنتقل رصاصتهُ بسرعة البرق مخترقة جسدهُ، ثم يليها رصاصة ثانية بنفس المكان تمامًا، فخر واقعًا أرضًا تدفق الدماء بكثرة من صدرهِ.
...........................................
.............................
....................
..........
....
..
.
ممكن الـ بيعزني، يدعيلي الفترة دي..

تائهة فِي سَرَايَا صَفْوَان  © -مُكتملة- حيث تعيش القصص. اكتشف الآن