الفصل السادس والخمسون "الجُزء الأول"

3.4K 175 19
                                    

تائهة في سرايا صفوان
الفصل السادس والخمسون
"الجُزء الأول"
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
ماذا لو عاد مُعتذرًا؟!...
- لَـفُتٌحًتٌ لَهُّ بًآبًًآ أخِر مًنِ أبًوٌآبً قُلَبًيَ
فُيَـآ أهّلًَآ بًهِّ وٌيَآ سِهّلًَآ
لَحًضنِتٌهُّ حًضنِ آلَمًغُتٌربًِ لَلَوٌطِنِ
وٌبًآلَلَهِّ لَوٌ کْنِتٌ أعٌلَمً رحًيَلَهُّ عٌنِيَ ثًآنِيَةّ
لَأجّلَسِتٌهُّ فُيَ قُلَبًيَ..... فُـ عٌسِىٰ آلَمًقُآمً بًآلَمًُقُيَمً يَلَيَقُ
فُـمًرحًبًآ بًهِّ أوٌلًَآ وٌثًآنِيًَآ، وٌعٌمًرًآ وٌأخِيَرًآ
فُـلَآ آلَخِصّآمً طِبًعٌنِآ....
وٌلَآ آلَفُرآقُ طِريَقُنِآ...
꧁꧁꧁....꧂꧂꧂

الساعة السابعةِ ليلًا مساء اليوم التالي، أنزل سامي رأسهُ قليلًا ليعبر من بوابة الطائرة، وخلفهُ اخوهُ ثم إبراهيم وفتحي وسُليمان، كانت هناك سيارة إسعافات تنتظرهم في فناء المطار، على أتم استعداد لأخذ زهرة حيثُ المشفى الخاصة بآل صفوان والساعي.
هبط وليد وهو يضم المعطف لجسدهِ، بسبب برودة الجو الشديدة، ثم تقدم نحو السيارة التي تضم زهرة النائمةِ داخلها، استوقفهُ سامي قائلًا بهدوء:
- إبراهيم هيوصلك القصر يا وليد، وأنا تابعت مع الشركة الـ كلمتها، يومين بالكتير ونمضي العقد وهيبعته فريق حراسه مدرب على أعلى مستوى....
أخذ نفسً عميق، ثم هز رأسهُ مردفًا:
- تمام، عايزهم في أقرب وقت يا سامي، مش هبقى مطمن والقصر كدا..
- متقلقش يومين تلاته بالكتير ويكونوا هنا،.. المهم روح انتَ عشان متتعبش، وأنا هكمل مع زهرة....
طالعهُ بنصف عينِ، وهو يتقدم نحو سيارة الأسعاف، قائلًا:
- وانتَ متخيل إني هسبها لوحدها يعني!!...
قبض سامي على ذراع أخوهُ بحدة طفيفة، قبل أن يصعد للسيارة، هاتفًا:
- انتَ لازم تروّح يا وليد، على أقل ارتاح الليلة دي بس، وأنا هفضل معاها متقلقش،... بس لازم ارتاح.....
سحب يدهُ من يد أخوهُ، مردفًا برفض وهو يصعد لسيارة:
- قولت مش هاسبها يا سامي، روح خد ستك ومريم من عند سراج ووديهم القصر، وخليك هناك متتحركش غير لما اجي....
ثم طالعهُ بحدةِ، وهتف محذرًا:
- وملكش دعوة بمريم خالص،...
أغلق الباب، ثم أشار لسائق بالتحرك، فبدأ سائق السيارة بالقيادة بعد أن صدح صوت سرينة الأسعاف، زفر سامي بحدة وضيق، وهو يُطالع السيارة تبتعد عنهُ.
اقتربت سيارة إبراهيم، ووقف جوارهُ هاتفًا:
- اركب يلا، فتحي راح يوصل خالك...
أومأ موافقًا، فلا يوجد سيارة أخرى؛ لتوصلهُ، صعد لسيارةِ، جوار إبراهيم في المقعد الخلفي، ثم استكان للحظات قبل أن يردف:
- وديني عند بيت سراج....
أومأ السائق باحترام، وبدأ بقيادة السيارة خارجًا من ساحة المطار، متجهًا نحو بيت سراج بعد أن اعطاهُ سامي العنوان.
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
أرجع رأسهُ للوراء، وملامح التشتت ترتسم على وجههِ، تنهد مطالعًا وجهها المرهق، والشاحب أيضًا، ثم طالع بطنها المنتفخة، انحنى يمسك كفها، ثم رفعهٕ لفمهِ مقبلًا وهو يقول:
- عايزه تتعبي نفسك ليه بس يا زهرة!!..
"عودة بالوقت للوراء"
شعر وكأن أحدهم وضع جبلًا فوق صدرهِ، وقد اعتلى الهمّ قلبهُ، ما هذا البلاء العظيم!، تعالا صوت خفقاتها، وهذا ما آلم قلبهُ أكثر، همس بخفوت اسمها، وقبل أن يُكملهُ، ابتعدت وكأن عقربً لدغها، وهتفت بصوتٍ متقطع، باكي:
- اوعى!!، وليد اوعى تفكر اني،... اني هنزله!!،... مستحيل أعمل حاجه زي دي!!،... اوعى تطلب مني طلب زي دا!!....
وجدت الطبيبة أن وجودها لا داعي لهُ، فانسحبت بهدوء من المكان بعد أن أدت مهمتها، حاول وليد تهدئتها مربتًا على كتفيها بحنان، ثم أمسك كفيها بين يدهِ يضغط عليهم برفق، قائلًا بهدوء، وداخلهُ يكاد ينفجر:
- اسمعيني يا زهرة الأول...
أومأت رافضة وقاطعتهُ صائحة بحدة:
- قولت لاء،... لاء يا وليد....
سيتفاقم الأمر أكثر، ولابد الآن من حدتهِ، طالعها بوجهِ جامد، مردفًا بنبرةٍ صلدة حادة:
- ممكن تسمعيني للأخر وتهدي!!، البيبي دا لو جه هيبقى حرام علينا أحنا، هتقدري على رعايته لوحدك يا زهرة، أنا شخصيًا مش هيكون ليا دخل في تربية أولادنا، لأني مش ببقى فاضي وأديكي شايفه شغلي عامل اذاي،.... الحمل كلوا هيبقى عليكِ انتِ يا زهرة، حتى لو جبنا مربية واتنين وعشرة، دا بيبقى ليه معامله خاصة لوحده، هتقدري عليه هو وأخواته!!!
أخفضت بصرها وهي تبتلع ريقها بخفوت، مردفه بهمس:
- مش هخلف تاني!
اتسعت ملامحهُ زهولًا وصدمة، ماذا تقول!!، أجابها مبهوتًا:
- يعني ايه مش هتخلفي تاني!!!!....
سحبت يديها من بين يدهُ، ثم احتضنت بطنها بذراعيها، وهتفت بنبرة متألمة:
- هكتفي بيه هو وبس...
للأسف خصلات شعرهِ لم تعد طويلة كما كانت؛ ليجذبها حتى تكاد تُفصل عن رأسهِ، هتف بهدوء ظاهري، زائف:
- ودا قرار تخديه لوحدك يعني!، مش شايفه انك كدا بتحرميني من حاجه نفسي فيها!
لحظات حتى ردت قائلة، وحقًا ليتها ما تفوهت:
- ابقى اتجوز
ظهرت ملامح الصدمة جلية على وجههِ من حديثها، ماذا تقول!، تالله قد جُنت تلك الفتاة، لم يجد من الكلمات ما تُعبر عن صدمتهِ، فصمت لحظاتٍ يستوعب ما تقول، ببساطة هكذا!، الموضوع لديها بتلك البساطة واليسر!.
أما هي، فقد اعتصر قلبها لما تفوهت بهِ، لن ترضى بموت جنينها، الذي لم يعد عبارة عن نطفةً أو علقة، بل أصبح مضغةً، لن تقتلهُ وحتى إن كان على سبيل سعادتها.
اعتدلت قليلًا، ثم أمسكت بكفيهِ، تضغط عليهم برجاء ظهر واضحًا في صوتها، وقد غامت عينها بالدمع:
- اسمعني، مينفعش اموته، حرام عليا، ربنا بيقول لا يُكلف الله نفسًا الا وسعها، وطلما اداني الأبتلاء دا يبقى متأكد اني هقدر عليه، هربيه أحسن تربية وهعلمه، وهكون معاه خطوة بخطوة، هشوفوا بيكبر قدام عيني، وهفهمه اذاي يقبل عيوبه ويحبها عشان يحب نفسه، هربيه ان الـ فيه دا لا عيب ولا غلط، هعرفه اذاي يتقبل نفسه عشان لما يخرج للعالم الـ برا محدش يوجعه، هشجعه على اي حاجه يحبها،
صمتت لحظات، وهي ترى تعابير وجههُ التي لا تدل على شيء، لكن عيناهُ مظلمة تمامًا، تابعت بنبرة منكسرة وجسدها ينكمش على نفسهِ، وصوت شهقاتها بدأ يعلو ويهبط:
- هحبه أنا كمان
طالعتهُ طالبة الرد على ما قالت، فأشاح نظراتهُ بعيدًا عنها، ابتلعت تلك الغصة بحلقها، ثم اعتدلت ثانيةً، تجلس على ركبتيها فباتت بمستواه، ومسحت دموعها بحدة، وكأنها تخبرهُ بأنها قوية وستتحمل، ثم هتفت بنبرةٍ مشجعة، وقلبها ينكسر مع كل حرفٍ تتفوه بهِ:
- وليد!، اتجوز تاني لا هو عيب ولا حرام، اتجوز وخلف عادي، وربنا هيرزقك بأطفال سالمين،.... أقولك، هقولك همشي من القصر هعيش في بيت بابا، او... او هاتلي شقة انتَ هعيش فيها معاه، لو... لو مش عايز تشوفوا معنديش مشكلة، بس اديلوا اسمك ودا يكفيني، وأنا ملزومة بكل حاجه ليه يطلبها،.... وصدقني عمري ما هيجي يوم وأقولك خدوا ولا زهقت منوا، ولا اي حاجه، عمري ما هعمل كدا، مش.. مش هفهموا انك مستعر منوا،... ولا.. ولا هقوله كلام وحش عنك أبدًا،... مش عايزه منك حاجه غير انك تسيبوا عايش وبس.... وليد!
تركها تتحدث حتى انتهت، وحتى انتهى الكلام بينهم، اعتدل هابطًا من أعلى السرير ببطئ، ثم وقف مطالعًا اياها، مردفًا بجمود:
- الـ انتِ عيزاه هيحصل يا زهرة....
تهدلت أكتافها، وابتسمت بسعادة، وهي توميأ موافقة بفرحة جمّة، انسحب من الغرفة يحاول السير باعتدال، وقلبهُ يصرخ يكاد يخرج من مضجعهِ، من شدة الألم الذي انتابهُ من حديثها، فتح باب الغرفةِ وخرج مغلقًا الباب خلفهُ، فاتجه سامي نحوهُ سريعًا، يسندهُ، وهو يهتف باسمهِ بقلقٍ من ملامحهِ الشاحبة
- وليد اتجوز تاني، همشي من القصر، هعيش في بيت بابا، مش عايز تشوفوا معنديش مشكلة، اديلوا اسمك بس دا يكفيني، مش هفهموا انك مستعر منوا، مش هفهموا انك مستعر منوا، مش هفهـ...
انقطعت وصلة أحاديثها في عقلهِ -الذي ظل يذكرهُ بحديثها- فور أن تراخت قدماهُ، وكاد أن يقع فاقدًا للوعي، لولا يد أخوهُ التي تحاوطهُ.
في الداخل، وبعد أن أُغلق الباب مباشرةً، انمحت ابتسامتها الزائفة التي رسمتها ببراعة، ورفعت كفيها لفمها تكتم شهقاتها بهِ، وهي تضغك على شفتاها بحدةٍ كي لا يخرج صوتها أطلاقًا، بكت وكأنها لم تبكي من قبل، حتى أغدفت وجهها بالدموع، وابتل بأكملهِ، أطبقت على شفتاها بقوةٍ، وهي تُغمض عيناها بشدةٍ، ثم أنزلت يدها من على فمها، تقبض على الغطاء الرقيق بقوة.
تعلم أنها جلبت عزاء القلب ووجعهِ بنفسها، لكن لن تقدر حقًا على قتلهِ في سبيل راحتها مادام لم يأمر ربها بذلك، تخشى أن يُعاقبها الله على تلك الجريمةِ إن فعلتها، بحرمانها التام من الأطفال ونعمة الأمومة...
"عودة للوقت الحالي"
أخرجهُ من شرودهِ، هذا المطب الذي جعل السيارة ترتفع وتهبط مرتين بحدةٍ، مما جعلها تتململ بإنزعاج، فترك كفها سريعًا، حتى لا تستيقظ وتراهُ هكذا، وقف متجهًا نحو النافذة الصغيرة، التي تطل على غرفة القيادة، وقام بإنزالها مردفًا بحدة:
- هدي السرعة شويا، وخد بالك من المطبات
أومأ السائق موافقًا، ثم هتف معتذرًا:
- آسف يا فندم...
أغلق النافذةِ، ثم عاد مرة أخرى لمكانهِ، جلس على المقعد، وأعاد رأسهُ للوراء، متنهدًا بكبت، ثم طالع ساعتهُ فوجدها تُشير الى الثامنةِ والربع، طالعها متوقعًا استيقاظها في أي وقت منذ تلك اللحظةِ.
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
اطفئت هاتفها، ثم طالعت جدتها قائلة بضيق:
- لسا مدخلتش أصلًا، بتقول قدامها تلات حالات لسا!
زمت إلهام شفتاها بضيق، وهتفت:
- مكنش ينفع تروح لوحدها، الوقت اتأخر وعلى أساس انها هترجع على سبعة!
شعرت سُمية بالآسى، ثم أومأت قائلة:
- يا رتني كنت روحت معاها، بس انا خوفت اسيبك لوحدك!
حدجتها بنظراتٍ ساخطة، قبل أن تهتف:
- دماغك ناشفه زي ابوكي!
دق جرس الباب، فطالعوا بعضهم باستغراب، ثم هتفت إلهام بتعجب:
- معقوله سامي يكون وصل!
اتسعت عيناها صدمةً، فقد أخبرهم انهم سيصلوا في منتصف الليل، وقفت سُمية قائلة بلفة:
- لا لا، تلاقيه سراج رجع ياخد حاجه!
اتجهت مهرولًا نحو الباب، ثم نظرت من العدسة السحرية، شهقت بخضة وهي ترى وجهه أخوهَ سامي، يقف على بعدًا من الباب!، رن الجرس ثانيةً، فابتلعت ريقها، تأخذ شهيق وزفير ثم شهيق وزفير، ثم قامت بثني مقبض الباب ليُفتح.
طالعت سامي، فتقدم منعا لداخل، بوجهٍ ارتسمت عليه ملامح الضيق، أغلق الباب مردفًا بحدة:
- بتفتحي الباب وانتِ بشعرك، ومن غير ما تعرفي مين على الباب!، انتِ اتهبلتي!
حمحمت مُجيبة، بخفوت:
- شوفتك يا سامي،... حمدلله على سلامتك..
رغم ما بهِ، والحزن الذي يعتريهِ من كل جانب، ابتسم أخذًا اياها في أحضانهِ، يربت على ظهرها بحنان، مردفًا:
- الله يسلمك يا حبيبتي، وحشتيني يا سمسمة...
شعر ببطنها البارزة، فابتعد ضاحكًا، وهو يقول:
- والله ما كنت عارف اتخيلك ابدًا...
ابتعد خطواتٍ للوراء، ليطالعها بشمول، ثم اقترب قائلًا بغمزة مشاكسة:
- لاء وألوظنا وأحلونا كمان، ايه الحلاوة دي...
ابتسمت مردفه بمزاح:
- يا اخي الله يجبر خاطرك والله، وانتَ كمان عملت شغل جامد...
- قولت اما اعمل فورما، اهو نغير المود شويا،.... تيتا صاحيه!
أومأت موافقة، وسارت تُشيرهُ لمكان جدتهم، فتقدم معها وعيناهُ تُطالع المكان بحثًا عنها!.
دلفت سُمية حجرة إلهام، ثم دلف سامي وطالع جدتهُ التي نظرت لهُ بفرحةٍ جمّه، تفتح أحضانها لهُ بسعادة كبيرة، اتجه مسرعًا يحتضنها بقوةٍ، فربتت على ظهرهِ وهي تحتضنهُ بسعادة، قائلة:
- يا حبيبي يا ابني، الف حمدلله على سلامتك يا ضنايا،... وحشتني يا سامي، وحشتني اوي يا حبيبي...
ابتعد قليلًا مُقبلًا كفيها، ثم رأسها، وهتف:
- وانتِ كمان يا تيتا والله، وحشتوني كلكوا....
نكزتهُ برفق في كتفهِ، مردفه بمكر:
- يا ولا، أحنا برضوا، ولا حد اول حرف في اسموا ميم!!
نظر حولهُ، عيناهُ تبحثان عنها، طالع اختهُ قائلًا:
- هي نايمه يا سُمية...
اعتدلت سُمية، تحك أنفها بأطراف أصابعها، ثم طالعت جدتها مستنحدة، فهتفت إلهام بلهفة:
- وليد يا سامي!، فين، هو وزهرة في القصر!
طالع جدتهُ، وأومأ متحدثًا بـ:
- لاء يا تيتا، زهرة خدوها على المستشفى، عشان في شويه مشاكل للجنين...
شهقت بخضة، وامتلئ الفزع عيناها، وأردفت سًمية بخوف:
- ليه كدا!، انتَ مش قولت انها كويسة ومحتاجه راحة عشان الجنين يفضل ثابت!
تنهد مردفًا بحزن:
- دا موضوع كبير، وليد الدكتورة قالتلوا ان الجنين عندوا تشوهات، وهيكون من الأطفال المغولين...
اتسعت أعيناهم بذهول وصدمة، قلبت إلهام كفيها على بعضهم بحسرة، ثم قالت برضى:
- اللهم لك الف حمد والف شكر على الـ تجيبوا يا رب، أحنا راضين يا رب، والله راضين وبقليله كمان، استمرها معاك يا وليد يا ابن منال وابني، استرها معاه هو ومراته يا رب دي غلبانه وطيبه....
بينما سُمية، فأطرقت رأسها أرضًا، تحتضن بطنها مردفه بحزن، وداعية الا يُصيبها ما أصاب اخوها:
- لا حول ولاقوة الا بالله، اللهم عافنى مما ابتُلي به غيرنا...
ثم رفعت أنظارها نحو أخوها، وهتفت:
- طيب ايه الـ حصل، رد فعل وليد وزهرة ايه....
وقف سامي، مردفًا بجدية:
- هقولكوا كل الـ عايزينوا بعدين، بس أشوف مريم...
طالعتهُ سُمية بتوجس، ثم نظرت لجدتها تُنجدها ثانيةً، فهتفت إلهام:
- ليها معاد مع الدكتورة انهارده، المفترض كانت هتروح هي وزهرة عشان يطمنوا على الأجنه، وزهرة تعمل الأشعة دي، الـ بتبينهم أكتر...
عقد حاجبيهِ بضيق، ثم هتف متوجسًا:
- هي عارفه اني نزلت مصر!
هتفت إلهام بنبرةٍ هادئة:
- ايوا يا ابني قولتلها امبارح، وكانت فرحانه يا سامي، متفكرش انها مشت عشان مش عايزة تشوفك، هي راحت وقالت هتيجي بدري على أساس تيجي الساعة سبعة، بس اتأخرت، وسُمية كلمتها قالتلها قدامها تلات حالات لسا.....
ارتاح جدًا لما قالتهُ جدته، تعلم رجوعها وسعيدة أيضًا لهذا الخبر، طالع سُمية قائلًا بحزم:
- هاتيلي عنوان العيادة الـ راحتلها يا سُمية...
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
أربعة أشهر وقد ضاق بهِ ذرعًا، ولم يعد يتحمل أطلاقًا، ماذا عليهِ أن يفعل سيتظرها حتى يشيبا سويًا أم ماذا.!، اعتدل بجلستهِ عندما وجدها تدلف الصالون بعباءة بنفسيجية اللون قطيفة، تناسب هذا الجو البارد، وقف يُحيها متلقفًا كفها بين يديهِ، يسلم عليها بحرارة رغم ضيقهُ منها.
جسوا سويًا، وبعد وصلة الترحاب، حمحم فؤاد بشيءً من الجدية، ثم قال بصوتٍ جاد وحازم:
- سحر، أظن عدى أكتر من أربع شهور على خطوبتنا، مع اني عارف انك عارفه اني كنت ناوي اعمل الفرح في اخر الشهر، بس انتِ معرفش طلعتيلي بحوار جهازك امتى!
حدجتهُ بقوةٍ، مردفة بضيق:
- يعني ايه يا فؤاد، عايزني ادخل كدا من غير ما اجيب حاجه، ليه مش زي باقي العرايس، ولا انت مفكر اني عشان هكمل الـ خمسة وتلاتين خلاص اني بقيت كبيرة ولا حاجه ومش من حقي اجيب لنفسي واشتري، واعمل الـ كان نفسي اعملوا زمان....
ابتسم مشيرًا لها بالهدوء، ثم هتف مازحًا:
- ايه يا ستي دا، كل دا في قلبك وشايلاه!!
ثم أكمل بجديةٍ:
- مين قالك انك كبرتي ولا التخاريف الـ في دماغك دي يا سحر!، دا أنا على كدا جمبك عجوز وسناني واقعا وما يعلم بيا الا ربي!، انا يا بنت الناس قولتلك نعمل الفرح بعد العيد الكبير علطول، قولتيلي لاء وجهازي وحاجتي، ومش عارف ايه!، وانا قولتلك كل حاجه جاهزه والـ عيزاه هجبهولك انا، بس انتِ رفضتي، قولت ومالوا مش مهم، الـ انتِ عيزاه كلوا انا تحت أمرك فيه، بس كدا هندخل على سنة يا سحر، مش كدا يا حبيبتي في ايه!
تنهدت بضيق، وأشاحت وجهها عنهُ، ثم قالت:
- مش عايزه الفرح دلوقتي يا فؤاد، استنى شويا...
تهدلت أكتافهُ، وأرجع ظهرهِ للوراء، مردفًا بسخط:
- طيب قوليلي نستنى ليه!، انتِ ايه الـ عيزاه وهعملهولك، بس نتجوز
صمتت ولم تتحدث، فهي بالأول من وافقت على ما يُقلقها الآن، تفهم تخبطها، فإخفى ابتسامتهُ وهو يعتدل ليجذب هاتفهِ من أعلى الطاولةِ، فتبعتهُ بنظراتها، ثم وجدتهُ يضع الهاتف نصب عينها، مردفًا:
- طب بصي كدا،... يمكن توافقي!
أخذت الهاتف منهُ وهي ترى الصور، والتي كانت عبارة عن شقة جديدة معدّة بأحدث التصاميم، ولا ينقصها شيء، صورة وراء الأخرى تراها لشقة بأكملها، حتى انتهت فعادة تراهم مرة أخرى، بابتسامةٍ سعيدة، وفؤاد يراقبها وهو يشرب السحلب الذي صنتعتهُ لهُ كي يُدفء صدرهُ قليلًا.
نظرت لهُ مبتسمةً بسعادةٍ، ثم قالت:
- دي بتاعتنا!
طالع كوب السحلب، مردفًا بأعجاب يتجاهل حديثها:
- السحلب دا عمري ما شربت في حلاوته، ابقى فكريني ابوس ايدين الـ عملوا....
ثم غمز لها وهتف مغازلًا:
- لما يبقى حلالي...
هتفت اسمهُ باستحياء وحدة، فوضع الكوب على الطاولة، ثم وجهه أبصارهُ نحوها، وأردف:
- ايوا بتاعتنا يا سحر،... بعترف ان كان سؤال غبي مني لما سألتك عايزه تقعدي في الشقة الـ أنا اشترتها من زمان واتجوزت فيها، ولا لاء، وانتِ قولتيلي مش مهم عادي، ولو عايز حتى اسيب العفش زي ما هو،... مخدتش بالي اني وقتها احرجتك، واتكسفتي تقولي عايزه حاجه، عارف انك طول عمرك مش بتحبي تكلفي حد،... بس يعني ليه طلما وضع زي دا مش هيعجبك مقولتيش بعد كدا!، كنت اتفهمك، واعمل الـ انتِ عايزاه..
- زي ما قولت يا فؤاد محبتش أكلفك، وعلى فكرا،... يعني، كنتـ... كنت هحاول اتأقلم برضوا...
كان الكذب جليًا بعينها، هتف بنبرةٍ هادئة:
- كدابة يا سحر، مكنتش هتتعودي ابدًا، عارفه.. بحمد ربنا وبشكره اني قدرت افهم لوحدي واتأكدت كمان من جمال، لما سألته،.. لو كنا اتجوزنا فيها، وعلى نفس العفش، ودا مكنش هيحصل ابدًا لاني كنت هغير العفش كلوا، بس لو مكنتش غيرت حاجه، كانت هتبقى جحيم علينا احنا الاتنين، انتِ هتفضلي تتخيلي كنا عاملين اذاي، وهي بتعاملني اذاي، وأنا بعملها اذاي برضوا، عقلك كل ما هيبص لركن يتخيل اننا كنا مع بعض فيه، مع ان حياتنا كانت روتينيه ومملة اوي، بس برضوا مش هتقدري تستوعبي حاجه زي كدا، وهتكوني تايهة ومش قادرة تعيشي معايا خالص يا سحر،...فهمتي كنتي هتعملي ايه فينا لو فضلنا زي ما احنا كدا!
حقًا قد صدق فيما قال، وحتى انها لم تبقى على ذمتهِ بعد، تتخيل بعض المواقف بينهم، وتشعر بنيران الغيرة وهي بهذه الحال، ما بال ان تزوجت،.. لا وحتى أصبحت في بيتهِ، التي كانت تُشاركهُ فيهِ أخرى من قبل!
أعاد سؤالهِ بنبرة حانيه، مردفًا:
- فهمتي يا سحر ايه الـ كان هيحصل لو فضلتي على تفكيرك!
طالعتهُ بنظراتٍ نادمة، وهي توميأ موافقًا عدة مرات ببطئ وخفوت، فصلب ظهرهُ بسعادةٍ، وهتف بنبرة تظهر في عنوانها انهت طلب، لكن مضمونها أمر وأرغام وترهيب ايضًا:
- الفرح يكون بعد أسبوعين، مناسب صح!
وهنا تكون حياة أحدهم قد أُغلقت بنهايةٍ سعيدة، وأخيرًا أستيطع القول قد عقد قلبانِ لنهاية الدهر، قلبان حقًا ذاق المرة بطريقة ما، فهو ورغم انهُ اختار طريق والدتهُ على حساب قلبهِ وحياتهُ، وجميع أمالهُ، لكن قد حفظها الله لهُ ليأتي في يومًا ما، ويراها بهيئةٍ أجمل ما كان يتوقع، تؤثر القلب والروح قبل النظر.
أما هي، ويا ويلي من صبرها، الذي جعلها تنتظر أكثر من اثنى عشر عامًا، ترفض جميع الخُطاب على أمل أن يدق بابها هذا الخاطب الذي خطف قلبها ورحل.
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
توقف سيارة الأجرة بشارع عمر افندي، خاصة أسفل العيادة الخاصة بالطبيبةِ الاء، تقدم داخل البنايةِ، ثم اتجه نحو المصعد يدلف داخلهُ، وقام بالضغط على الزر السابع، ثم وقف بثبات يرى الباب يُغلق، ثم بدأ المصعد بالأرتفاع والصعود لأعلى.
في الدور السابع، وخاصة تلك العيادة، داخلها جلسن النساء وبعضهم يجاورهن أزواجهن، والبعض الأخر امها او اختها، او صديقتها.
كانت تمكث بمفردها بركنً هادئ، تتوقع بأي لحظةٍ أن يُنادي على اسمها، فقد حان دورها، كانت جوارها نافذةً مفتوحةٍ، تُطالع منها السماء الملبدةِ بالغيوم بعد أن توقف المطر، تتخيل وترسم مشاهد عدة لهُ، وكيف سيكون لقاءهم!.
- مدام مريم الشناوي!
استمعت لإسمها من الممرضةِ بكنيتها التي عاهدتها في السنوات الأخيرة، ورغم طلاقها وأنها بشهور العدةِ -كما تعتقد- لم تستطيع أن تنزعها من اسمها.
وقفت تجذب حقيبتها، ثم اتجهت ببطنها المنتفخةِ، تتقدم من الرواق الذي يقبع بأخرهُ غرفة الكشف، وحالما اختبئت داخل الرواق، دلف هو من باب العيادةِ، يُطالع المتواجدين بلهفة، باحثًا عنها في وجوه الجميع.
تقدم من الممرضةِ، واقفًا أمامها، وقبل أن يهتف، قالت الممرضة بأسف:
- للأسف يا فندم كشف انهارده خالص، مفيش حجزات انهارده خلاص، بس لو عايز ممكن تحجز لبكرا...
أومأ مردفًا بلهفةٍ:
- لاء مش جاي عشان حجز، مدام مريم، دخلت ولا لسا!، ولا خلصت ومشت!!
- لاء يا فندم، مدام مريم الشناوي!
- ايوا هي
- دي لسا داخله حضرتك،..
- ممكن تقوليلي أوضة الكشف فين،... أنا جوزها
اتجهت الممرضة نحو الرواق مردفه:
- اهه طبعًا اتفضل
أشارت لأخر الطرقة، وأكملت:
- الأوضة الأخيرة الـ هناك دي..
شكرها ثم سار مهرولًا نحو الغرفةِ، وبسبب لهفتهُ كان سيدلف دون أن يطرق الباب، اعتدل طارقًا الباب بهدوء، فاستمع لصوت إحداهم تأذن بالدخول، فثنى مقبض الباب للأسفل ثم فتح الباب، وتقدم لداخل.
تعلقت أعينهم بالطارق، ومن دلف، وفور أن وقعت عيناها عليهِ، رفعت يداها تكتم صرختها المصدومةِ بيدها سريعًا، وقد جحظت عيناها بزهول ودهشة جمّة.
سكنْ العالم من حولهِ عندنا طالعها، وخبت أنفاسهُ، شق ثغرهُ ابتسامةِ الحبيب وهو يطالع تفاصيلها، أصبحت ممتلئة أكثر، وبطنها بارزة خلف هذا الـ -كارديچان- الذي ترتديه، ووجهها أيضًا أصبح ممتلأً، كاد أن يُملي عيناهُ منها وهو يقف هكذا، غير شاعر بأي شيء أخر جوارهُ، لكن صوت الاء هي من أخرجتهُ من شرودهِ، وهي تهتف مستغربة:
- خير حضرتك في حاجه!
لم تشئ أن يقول كنيتهُ، ماذا سيقول في الواقع!، طليقها!، زوجها حتى تنتهى من وضع حملها!، طالعت الاء وهتفت سريعًا:
- لاء،... هـ.. هو جاي معايا!،... قـ.. قريبي يعني
رفع حاجبهُ الأيسر باندهاش مما فعلتهُ، بينما أومأت الاء موافقة دون اقتناع تام، لكن أشارت لسامي بالمكوث، فتقدم بخطواتٍ بطيئة، يجلس قبالة مريم التي ضمت قدميها لبعض، وأصبح تنفسها يضيق ويعلو.
دققت الاء للحظات بملامح سامي، الذي يشبه الى حدًا ما وليد، وجهت أبصارها نحو مريم وهتفت:
- مدام زهرة ماجتش معاكي ليه كالعادة، المفترض انها عارفه اننا هنعمل اشعة الـ 4D انهارده!!...
أومأت مريم مردفه بخفوت:
- آآ ايوا،.. بس.. حصلها ظروف،... و..و.. هتبقى تيجي لما تكون كويسة
- اوك تمام،.. بصِ فاكره اسم الدواء دا!
دونت في ورقة امامها شيء ما، ثم رفعت الورقة أمام أنظار مريم فقط، لتجد فيها' جوزك دا'، طالعتها مريم باستغراب، فأومأت الاء مطمئنة، فقالت:
-آ آ ايوا..، فكراه...
وضعت الاء الورقة على وجهها، وهي تبتسم بخبث، ثم طالعت سامي الذي لا يفعل شيء سوى النظر لوجهها، علامات حُبهِ تظهر على محياهُ بوضوح،... كما كانت تظهر على جسدها ايضًا!.
سألتها الاء عن صحتها في تلك الفترة الأخيرة، فأجابتها عن ما حدث لها بتفصيل، وهو يستمع لها يستحقر نفسهُ وبقوةٍ وهي تخبرها عن كم المرات التي تقيأت بها ليلًا، أو فقدت الوعي بمفردها، وعن ما حدث لها ببيت اختهُ.
زفرت الاء بحدةٍ، تنم على ضيقها الجم، ثم قالت:
- مدام مريم، انتِ مش بتهتمي بصحتك كدا خالص، لازم يكون معاكِ مرافق يهتم بأدويتك كلها، دا غير ان شكل نفسيتك زي الزفت،... أنا اتفقت معاكِ المرة الـ فاتت لما قولتيلي انك مطلقة...
ثم طالعت سامي، الذي انتبهت مسامعهُ لما قيل، وأكملت:
- وقولتلك تنسي الحيوااان الـ كنتِ متجوزه، عشان دا مش راجل اصلًا،..
ثم نظرت لمريم سريعًا عندما وجدت ملامح سامي تكاد تنفجر غيظًا، وتابعت بتوتر:
- صح ولا مش صح!
اتسعت عيني مريم زهولًا مما قالتهُ الاء، خصوصًا عندما وجدت سامي يرفع يدهُ ويضعها على المكتب، يُمسد على خصلات لحيتهُ بثبات، يتابع رد مريم.
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ، وقبل أن تتحدث، نظرت الاء لسامي تُشاركهُ الحديث قائلة:
- طيب احضرنا يا أستاذ، في راجل محترم يطلق مراتوا وهي حامل كدا، المفترض حاجه زي كدا، يبقى بعد ما تولد، لاء وكمان لما سألتها عليه عشان محتاج أعرف منه حاجات عن صحتها في ولادة ابنها الصغير، قالتلي دا سافر اصلًا!، تخيل حضرتك في حقــــــارة وقلة اصل زي كدا!
الى الآن لم يفتح فمهُ بأي كلمةٍ، وهذا ما جعله تنظر لـ الاء تُنهيها عما تفعل، هتفت مريم برجاء:
- كُنتي متفقه معايا هتعرفيني نوع الجنين انهارده، عشان كدا أصريت ان اجي،... ممكن نبدأ عشان مستعجلة، ولا لسا في حاجه تانيه!!
وقفت الاء، مقررة انهاء حديثها عنهُ، فهي قد اعربت ولو بجزء صغير عن كمّ الضيق والغضب الذي تشعر بهِ اتجاه سامي، لكن أمامها نقطة واحدة لتشعر بأنها انتهت من أفراغ غضبها منهُ، بحرمانيه رؤية الجنين ومعرفة نوعهُ.
طالعت مريم ثم سامي وأشارت لهُ مردفه:
- ممكن حضرتك تستناه برا، عشان هتعري بطنها وكدا،.. وهي ملتزمة يعني مش هتحب حاجه زي كدا..
نظر لمريم محذرًا بنفي، أن توافق على حديثها، وهتف بنبرةٍ مازحةٍ زائفة:
- لا ماتقلقيش، شفتها كتير، انتِ متعرفيش العلاقة بنا عامله اذاي..
وأخيرًا استمعت لصوتهُ الذي لم تسمعهُ منذ زمن بعيد، جذت على أسنانها بقوةٍ بعد أن تجمع الدمع بعينها، لا تُصدق أنها هانت عليه لتلك الدرجة.
طالعت الاء مردفه بهدوء:
- عادي مش مهم..
زفرت بضيق لما قالتهُ، ثم أومأت بيأس، وهي تشير لها نحو السرير الذي يقبع بأخر الغرفة الكبيرة، تحركت مريم وهو خلفها وكأنهُ حارسها الشخصي.
تعلقت عيناهُ على الشاشة الذي يظهر بها رحم مريم، ولأنهُ يعرف ولديه خبرة من حمل عزالدين، لكن وقف كالأبله لا يعلم ماذا يحدث.
تابعت مريم الشاشة بقلبٍ يخفق، وهي ترى جنينها بوضوح، لكن لا ترى وجههُ، فقالت بلهفةٍ:
- هو وشوا فين!
ابتسمت الاء بخفوت مردفه بنبرةٍ ذات مغزى:
- مدينا ضهروا يا ستي، شكلوا زعلان من حد
انطفئ الحماس بعينهِ، وحزنت ملامحهُ، وهو يقول:
- يعني مفيش أمل اشوفوا...
- والله هو ممكن يتقلب عادي، بس دا هيتعب مدام مريم، لو كدا نخليها المرة الجايه...
أومأ موافقًا، فهو لن يؤلمها على سبيل فرحتهُ برؤية الجنين وتحديد الجنس، أردف بهدوء، وهو يطالع مريم:
- خلاص مش مهم نخلينا المرة الجايه، أنا هبقى اجي معاها..
طالعت مريم ألاء قائلة بخفوت:
- قوليلي اعمل ايه، نفسي اعرف نوعه اوي...
- هتكُحي جامد عشان يتقلب وضعه في بطنك ونقدر نشوفه، انا شايفه انك مش هتقدري دلوقتي على دا...
تحرك سامي نحوها، كي يساعدها على القيام، مردفًا:
- خلاص مش مهم المره دي..
رفضت محاولاتهم في اقناعها عن التخلي لمعرفة جنينها تلك المرة، فهي تطوق شوقًا لمعرفة جنسهِ، ضمت قبضة يدها لفمها وبدأت تسعل بحدةٍ، فزجرها سامي بعينيهِ مردفًا:
- مريم!!!
ودون إدراكٍ منها مدت يدها نحو كفهِ فسارع بإمساك كفها برفق، فبدأ تضغط على يدهُ تستمد القوة من الضغط وهي تسعل.
حركت الاء الماسح على بطنها، ثم طالعت الشاشة وقالت مبتسمة:
- بيتحرك اهو، وهيقلب وضعوا...
رغم إرهاقها، ابتسمت ملئ شدقيها وبدأت تسعل بحدةٍ وقوةٍ أكثر، حتى شعر هو بأن روحها ستخرج، فهم بوضع يدهُ على فمها كي تتوقف، الا أن الاء هتفت بلهفةٍ سعيدة:
- خلاص اتقلب اهو....
تنفست الصعداء، وما لبث أن انحبست انفاسها عندما وجدتهُ يميل مقبلًا جبهتها بحنان، ابتلعت ريقها باضطراب، والآن فقط شعرت بيدهِ تُحيط كفها، فسحبت يدها بهدوء.
تنهد بضيق اعتلى صدرهُ، ورغم قربهم جسميًا الا أنهُ يبدو أن روحهما بينهما ألف ميل وميل، سلطوا أبصارهم على الشاشة، يتابعون تحرك الجنين ببطنها، والاء تُحرك الماسح على بطنها.
طالعتهم الاء قائلة بابتسامةٍ:
- بنت ان شاء الله...
اتسعت ابتسامتهُ حتى كادت تُلامس أذنيهِ، وهو يقول بسعادةٍ:
- بجد، متأكده!
أومأت بنعم، ثم أشارت نحو جزءًا ما في الصورة، وهتفت:
- آه، مفيش عضو تناسيلي باين اهو، مبروك يا مدام مريم، ولا انتِ كنتِ عيزاه ولد!!
طالعتها مريم، مردفه بنبرة مختنقة بالدموع، وتعلو شفتاها الإبتسامة، ثم أومأت قائلة٠:
- لاء عادي، الـ يجيبه ربنا كلوا كويس...
أومأت موافقة، ثم التفتت للجهاز، وقامت برفع صوت النبض، وقالت:
- طيب اسمعوا نبضوا كمان...
امتلئت مسامعهم بصوت نبضهِ، فلم يكن كالنبض الإنسان الطبيعي، انما مختلف جدًا عنهُ.
أغلقت الاء الصوت، ثم أخرجت اسطوانة DVD وقامت بوضعها في الغلاف الخاص بها، ثم مسحت السائل اللزج من على بطن مريم، وقامت متجه نحو مكتبها.
اعتدلت مريم، فساعدها سامي، ورغم ردعها لهُ الا انهُ لم يعبئ بها، وساعدها في تعديل ثيابها.
كانت تتابعهم الاء -من بعيد- خلسة وهي تدون بعض الملحظات في الورقة، هزت رأسها بيأس، وهي ترى حب سامي الجلي لها، والظاهر بوضوح للعيان.
اقترب الإثنين منها، ثم جلسا أمامها، فبدأت بإلقاء ملاحظتها على مريم، وكيف ستتصرف في تلك الفترة، وأدويتها وطعامها ايضًا،... وقفت تجذب حقيبتها، وتأخذ الروجته من الاء، فهتفت الاء مؤكدة:
- مدام مريم الراحة مهمة اووي الفترة دي، جسدية ونفسية كمان...
أومأت مريم موافقة، ثم تحركت نحو الخارج، وهو خلفها، خرجوا سويًا من العيادة، فتوجهت مريم نحو المصعد وهي تسحب هاتفها من الحقيبة، ثم وقفت مُعطيه ظهرها لسامي، منتظرين المصعد حتى يخلو، ويصعد لهم.
فتحت هاتفها، ثم وقفت تُجري اتصالًا ما، واطرق السمع لأذنهِ ليجدها تقول:
- انا خلصت خلاص، معلش يا سراج ابعت اي حد ياخدني، عشان الدنيا بتشتي، وصعب اوقف تاكسي..
جذّ على أسنانهِ بغضب، وعلى حين غفلة التقط الهاتف منها فصرخت فزعة مما فعلهُ، ثم استدارت لهُ لتجدهُ يضع الهاتف على أذنهِ ويهتف بحدةٍ:
- متبعتش حد يا سراج أنا معاها...
ثم أغلق الأتصال، ووضع الهاتف في جيبهِ، طالعتهُ بغضب وسخط، ثم تركتهُ وتحركت نحو السُلم تنوي استغلالهُ بدلًا عن المصعد، فهي لن تقف تنتظرهُ معهُ، تحرك خلفها سريعًا قائلًا بلهفةٍ:
- مريم!!، مريم استني... بقولك استني
قبض على ذراعها برفق فثبط حركتها، مما جعلها تقف تدفع يدهُ عنها بحدةٍ، مردفه:
- ابعد ايدك دي عنــــي، وملكش دعوة بيا، انتَ فاهم ولا اعيد!
ابتسم مشاكسًا، ثم غمز لها مردفًا:
- لاء عيدي!
دفعتهُ بقوةٍ مستاءً من مزاحها، قائلة:
- ابعد كدا!
حاولت تفاديهِ، لكنهُ كان مطبقًا على ذراعها بقوةٍ ليّنه، ثم هتف بهدوء، يحاول ان يتحمل نوبة غضبها منهُ وسيتحمل، فهو الظالم لا المظلوم وإن كانوا سويًا الضحية، اوقفها مردفًا بحنان:
- اهدي يا مريم واقفي، الدكتورة لسا قايلا ترتاحي نفسيًا وجسديًا...
عادت خطوتين للخلف ووقفت أمامهُ مقتربة منهُ، ثم طالعت وجههُ، مردفه بغضب وحدةٍ:
- هرتااح، أكيد هرتاح لما تسافر تاني ومترجعش ابدًا، هرتاح لما تختفي من حياتي يا سامي، واعيش انا وعيالي بعيد عنك، متتصورش انا مستنيه اليوم الـ هولد فيها آد ايه عشان هتكون كل حاجه بنا انتهت، ولأخر العمر،... سافر ومترجعش تاني
سأجلس أرضًا تلك الحظةِ وأخبر الذي يأتي ويذهب بأنها كاذبة، كاذبة في كل كلمة قالتها، مشاعرها الآن كاذبة وزائفة،... كل ما أرادتهُ فقط، أن تُعاتبهُ وبقوةٍ.
أما هو فحقًا انصدم من طريقتها التي تلح عليهِ بالبعد، لتلك الدرجة لا تُريدهُ، تريد بعدهُ حقًا، ابتلع غصةً بحلقهِ، كالعلقم في جوفهُ ثم أردف بنبرةٍ متألمة:
- بجد عيزاني أسافر!، عيزاني أسيبك وامشي!!
رفعت كتفيها، وهي تزم شفتاها بلامبالةٍ، مردفه بنبرةٍ عادية بينما داخلها يحترق:
- أنتَ اصلًا سبتني ومشيت،... وطلقتني!، فخلاص مش فارقة
أوغل داخل عينها يتفحصهما، مهما مرّ عليهم من العمر، فستظل عينها كالكتاب المفتوح بنسبة لهُ، وقرأ بهما كذبها.
تهانفت، ولم تعد قادرة على كبح دموعها، فأطرقت رأسها أرضًا، تُخفي عيناها عنهُ، أرادت أن تُحزنهُ فحزنت وتألمت هي!
وصل لها صوت بكاؤها المكتوم، فهز رأسهُ بيأس، ثم احتضنها بقوة، حاولت التملص الا انهُ تشبث بها، فسكنت حركاتها وكتمت وجهها بصدرهِ تبكي بحدة وتصرخ ايضًا.
ضمّ وجهها لهُ أكثر يكتم أنينها داخلهُ، وأخفض رأسهُ قليلًا، مردفًا جوار أذنها بحزن وضراعة:
- أنا آسف، حقك عليا، سامحيني بالله عليكِ...
أمسك كف يدها اليُمنى، ورفعهُ لفمهِ يقبْل باطنهُ، قائلًا:
- أبوس ايدك سامحيني يا مريم، أنا آسف، قوليلي أعمل ايه وتسامحيني....
ببطئ رفعت وجهها لهُ، ولمعة عيناها تُفطر القلوب، هتفت بحزنً وألم:
- صدقت اني اعمل حاجه حقيرة زي كدا!
- ابوس ايدك سامحيني، الشيطان غلبني وقتها،... غضبي كان أقوى مني، أنا اتحطيت في موقف مفيش حد يستحمله!
- مشيت وانتَ شايفني في الحالة دي!، سبتني وأنا بموت ومهنتش عليك!
أومأ رافضًا، مردفًا بدفاع:
- لاء والله، كنت طالعلك، بس وليد منعني وأجبرني أنزل
تهكمت ملامحها، مردفة بسخرية:
- وكنت هتسيب اخوك الـ يغطيني!، لدرجة دي لحمـي رخيـ..آآ
قاطعها مطبقًا بكف يدهُ فمها، مانعًا ايها من استرسال حديثها، أومأ رافضًا، ثم قال بحدةٍ:
- متكمليش!، متقوليش كلام أنا مش هقبله عليكِ، أنا لو كنت طلعتلك وأنا لسا بغضبي،..... كنت هأذيكي، أنا مكنتش شايف قدامي يا مريم، أنا موعتش لنفسي غير لما كلمت حد من صحابي اعرف الملعون دا سافر امتى، ولما قال غير كلام ابوا، كنت تايه مش عارف ايه الـ بيحصل فيا او حوليا، لحد ما اتعتتلي رسالة عن الـ حصل كلوا، وقتها طلعت جري على البيت دا،..... نسيت كل حاجه والدنيا الـ انا فيها لما سمعت انك مش فوق ومختفيه، لما عرفت انك نزلتي وأنا سايبك اذاي!، ووليد مكلف الحرص، يدوروا عليكِ،.... يوميها معرفتش أنام، وفضلت ادور عليكِ، وأنا في بالي صورتك وبتخيلك نزلتي اذاي!، وحالك ايه دلوقتي، وليد رجعني القصر بالغصب، واتعاركنا وقتهت، وبعدين زهرة خدتها فطلع معاها، وأنا رجعت تاني أدور عليكِ،..... خرجت من القصر مش عارف هعمل ايه ولا أدور فين، او حتى ابدأ اذاي!، من نحيه بدور عليكِ عشانك، ومن  نحيه بحاول أوصل لأبن الـكلب دا....
طالعتهُ مردفه، بنبرةٍ موحيه:
- عشان تقتلوا صح!، فعلًا.. صدقت لما قولت عليك أناني...
.............................................................................................................

تائهة فِي سَرَايَا صَفْوَان  © -مُكتملة- حيث تعيش القصص. اكتشف الآن