الفصل التاسع والخمسون " الجُزء الثاني"

3.8K 183 11
                                    

تائهة في سرايا صفوان
الفصل التاسع والخمسون
"الجُزء الثاني"

꧁꧁꧁꧁꧂꧂꧂꧂

لا يعلم كيف استقل الرياح وصعد بها نحو جناحهِ، فقد كان في أقل من ثانية يركض من باب الجناح لداخل، مهرولًا الى غرفتهِ. ركض نحو السرير الذي تتوسطهُ زهرة، هاتفًا بلهفةٍ وأمل:
- زهرة!!، حبيبتي سمعاني، زهرة!
فتحت عيناها، وهي تتنفس في قناع الاكسجين وابتسمت بفتور، وحركت أصابع يدها اليُسرى، فالتقط كفها يُقبلهُ بعمق، عدة مرات.
اعتدل جالسًا جوارها، يمسد على وجهها بحنان، مردفًا اسمها بخفوت:
- زهرة!
مدّت يداها تُزيح قناع الأكسجين، وقد انكمشت تعابيرها بألم، الا انها واصلت حتى ابعدتهُ عن وجهها وقد ساعدها هو، لتطالعهُ مردفه، بابتسامة مشتاقة:
- وحشتني!
انحنى برأسهِ، يُقبّل وجهها، فمدّت ذراعها نحو بطنها تُمسد عليهِ برفق، لتتفاجأ بهبوطها الشديد، وعدم امتلئها كما كانت، فتوقعت ما حدث، لتهمس بألم:
- مات!!
احتضن كفها الموضوع أعلى بطنها، واستند برأسهِ على رأسها مردفًا بهمس:
- شششش، هنجيب غيروا ان شاء الله، انسيه يا حبيبتي خلاص
ابتلعت تلك الغصة بحلقها، وطالع وليد الممرضة، وأخبرها أن تُهاتف يحيى ليأتي بالأطباء، فقالت انها فعلت هذا بالفعل.
أربع ساعات مروا، كان قد وضعها برفق أعلى الفراش، بعد ان حممها برفق، وألبسها ثيابها، جلس جوارها، وبدأ بتمشيط شعرها بهدوء، بعد أن فلقهُ نصفين، وهي تستند على صدرهِ، لحظات حتى هتفت بصوتٍ منخفض:
- و وليد..
سارع بالرد، ونبرتهِ مليئة بلهفة:
- نعم يا حبيبتي، عايز حاجه اجبهالك!
حركت رأسها بالرفض، ثم قالت بهمس:
- ايه الـ حصل الـ فترة الـ أنا غبت فيها....
أكمل تمشيط شعرها، وهتف مازحًا:
- الصراحه معرفش!، أنا مقومتش من جمبك اصلًا، بس سحر وفؤاد اتجوزوا الحمدلله، وأحمد وماتيلدا هيتجوزوا في أخر الشهر دا، وسامي ومريم بقوا كويسين زي ما شوفتي، وسُمية بقت زي الكرومباية...
ضحكت بخفوت، وما زالت حركاتها وهمساتها قليلة، فقد ظلت شهرًا كامل غائبة عن الوعي، والآن الجسم يبدأ في التعود على الحركة، والكلام، والتفكير ايضًا.
- وليد..
هتفت اسمهُ بصوتٍ منخفض كما هو الحال، فقال بحب:
- نعم يا حبيبتي..
صمتت لحظاتٍ، تبتلع بها ريقها، قبل أن تقول بهمسٍ حذر:
- عـ..عمـ..عملت ايه في ياسر يا وليد!
شعرت بأنفاسهِ الساخنة والقوية تلفح عنقها، فأقشعر بدنها، وخشت أجابتهُ، كان قد بدأ بتجديل شعرها اثنين، وهو يقول بجدية:
- خدتلك حققك من كل واحد فكر يأذيك تالت ومتلت..
ثم أكمل بحزم، ونبرةٍ غير قابلة للنقاش:
- انسي الـ حصل يا زهرة، وركزي في الـ جاي، ثقي اني خدتلك حققك منهم، وانسيهم نهائيًا...
ارتابت من حديثهُ، وقد دب الرعب قلبها، حركت كفها لأعلى ببطء، تضعهُ على فمهِ تكتم شهقاتها، وقد أندلع البكاء في عينيها، خشية ما إن فعل بهم شيئًا يؤذيه.
شعر باهتزاز كتفيها، ورغمًا عنها صعدت من شفتاها شهقة، سرعان ما كتمتها، فوقف سريعًا، واتجه يجلس أمامها، ممسكًا بجسدها كي لا تقع، وهي غير قادة على التحكم بهِ كُليًا، ثم هتف بقلق:
- مالك يا زهرة!، بتبكي ليه!، في حاجه وجعاكي،.. زهرة،.. ردي عليا طيب!!، مالك يا حبيبتي..
شعرت برأسها يدور، فألقتهُ على صدرهِ، ليحتضنها ممسدًا على ظهرها بحنان، واستمع لهمسها الخائف:
- اآآآ أوعى،.. أوعى تـ..تكون.. تكون عملت حاآآآجه،.. تـ..تأذيك يا وليد...
تنهد، قائلًا بحنان:
- ما تخافيش يا زهرة،.. مش عايزك تفكري في الموضوع دا تاني، ولا توجعي دماغك الحلوة دي بيه، مش عايز أشوف دموع حبيبتي الجميلة أبدًا..
وبرفق أزال دموعها بأطراف أصابعهِ، والتي كانت لها ولكلاماتهِ أثرًا فارق في روحها المعنوية، التي جعلها بهمساتهِ ولمساتهِ تُعانق السماء، ساعدها لترقد جوارهُ محتضن اياها برفق وحنان، وهو يمسد على شعرها ويربّت على ظهرها كي تنام قليلًا، قائلًا:
- الساعة خمسة الصبح، ناميلك شويا يلا..
أومأت بصمت، حتى هتفت بعد دقائق بخفوت، وتوجس:
- آآ الدكتور..، قـ..قال ينفع أخلف امتى!
استمعت من الطبيب يحيى من قليل بعضًا من ما يخص صحتها النسائية، والحمل وتلك العلاقات، وما حدث لرحمها وقت اعتداء ياسر عليها بالضرب، وما انتجهُ موت الجنين في تلك المرحلة من مراحل نموه، انتظرت أجابة وليد والذي صمت قليلًا حتى قال، بنبرةٍ رزينة:
- قال مش أقل من سنة يا زهرة، الحمدلله ما حصلش ضرر كبير لرحم، ومع الأدوية هتكوني بخير، بس أنا كلفتهُ يركب لك شريط منع حمل عشان نكون في أمان أكتر، وانا عارف انك ممكن متلتزميش بالدواء، أنا مش مستعجل على الخلفة خالص، يعني مش أقل من سنتين عقبال ما أبدأ أفكر في الموضوع دا..
شهقت بخفوت وضيق جلي، مردده:
- سنتين!!
أومأ، قائلًا:
- سنتين يا زهرة!
ثم شدد من احتضانها، وتابع:
- معنديش استعداد أفرط فيكي، ولا بأي شكل حتى!
احنى راسهُ نحو رأسها قليلًا، لينظر الى وجهها، مردفًا بحنان:
- ممكن تنامي شويا بقى، عشان دماغك ما تصدعش يا روحي..
وكأن بكلماتهِ تلك، يُعطي الأذن لسلطان نومها أن يحل عليها، فأغمضت عيناها، وراحت في ثباتٍ عميق. انتظر حتى استمع لصوت تنفسها المنتظم، فابتعد عنها بهدوء، دون إحداث صوت، ثم ذهب نحو المرحاض. اختفى بهِ دقائق، وخرج ذراعيهِ مبتلين، وقدمهِ ورأسهُ ووجههُ دليلًا على وضوءهِ، ثم راح يأخذ سجادة الصلاة، وقام بوضعها على الأرض اتجاه القبلة، ليقف عليهِ، رافعًا يدهُ مكبرًا بصوتٍ خافت:
- الله أكبر..
انتهى من صلاة الصبح، وجلس يدعو الله، ويشكرهُ على عودة زهرتهُ كما كانت، يرجو من الله أن تكون المواجهة بينهم لينة، ويستطيع السيطرة على الوضع، لانهُ لا يتحمل حقًا بعدها، كفاهُ لهذا الحد!
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
توالت الأيام عليهم، حتى مرّ أسبوعين، والى الآن لم تتحدث زهرة معهُ في هذا الأمر، حتى كلامها.. فهو كما اعتاد منها دومًا، حقًا وكأنهُ لا يوجد شيء!
أمسك ذراعها فجأة، وهو يراها تخطو من غرفة الثياب للخارج، فتوقفت وانتبهت لهُ قائلة بنبرةٍ ااى حدًا ما طبيعية:
- وليد!، عازز حاجه يا حبيبي!
تنهد وأخذها، نحو الشرفة ملتقطًا طرحتها من أعلى الأريكة، قائلًا بغموض:
- تعالي عايز اتكلم معاكِ شويا..
قرعت دقات قلبها كالطبول، وهي تنساق وراءهُ ويجذبها نحو الشرفة الواسعة، تمسكت بحجابها الذي بدأ يتطاير، وطالعت يدها التي بين كفهِ الكبير، ثم نظرت لهُ حالما توقف، وأرغمها على الوقوف، ثم هتف وكأنهُ على وشك الإنفجار:
- ليه بتتعاملي كدا!، أنا مش بعرف انام!، كل يوم وكل دقيقة بفكر امتى هتفتحي معايا موضوع الرسالة، اتكلمي وارحميني من التفكير دا يا زهىة!، أنا حاسس اني همـ..
اقتربت سريعًا، تكتم فاهُ بباطن يداها تمنعهُ من مواصلة الحديث، ثم أومأت رافضة ببطء، قائلة بلهفة:
- شششش، ما تكملش أرجوك!، آآ أنا.. وليد لو مكنتش اتخطفت كنت هندم بجد، وكنت هعمل مصيبة افضل ابكي عليها عمري كلوا بدل الدموع دم...
- كنتِ قررتي تسبيني وتمشي يا زهرة!
أخفضت بصرها خجلة، ولم تتحدث، فتابع :
- كنت هجيبك من نحت طئطيأ الأرض يا زهرة
تنهدت، وهي تسير خطوة واحدة، وتستند على السور، تستنشق رائحة الزهور التي تبعث من الحديقة في الأسفل، وهتفت بتعقل:
- أول ما شوفت الرسالة،.. الدنيا أسودت قدام وشي يا وليد، حسيت.. حسبت ان عالمي كلوا بينهار،.. وانك.. يعني!
ابتلعت ريقها، مُكملة بخفوت:
- وإنك كداب، وشخصية مخادعة،... كل الـ فكرت فيه انك قتلت ابويا،... وحرقت قلبي!، كنت عايزه أردهالك بأي طريقة، عايزه أعمل فيك اي حاجه توجعك،... بس..
تنهدت باستسلام، وهي تستدير لهُ، وأكملت بخفوت:
- مقدرتش اعمل حاجه، مقدتش أأذيك، أو أعيش معاك.. و..و وأنا،.. وأنا بخطط اني انتقم منك في الـ حصل لأبويا
تنهدت ثانيةً، وهي تقول بحزن:
- لقيت قلبي بيصرخ وبيقولي أنك متستاهلش مني كدا، مقدرتش أعمل اي حاجه خالص، غير اني لقيت نفسي باخد طرحتي والعباية وبمشي، ما فكرتش بعمل ايه!، ولا حتى هعمل ايه!، بس مقدرتش أذيك يا وليد أو أعملك حاجه...
رفعت وجهها لهُ، تُطالع وجههُ الصلد، وعيناهُ المبهمة، وتابعت مبتسمة:
- ياسر لما خطفني، كان عايز يكرهني فيك بأي طريقة، وأم قايلي على كل الـ حصل، بس بطريقة خلتني أفكر في الموضوع من النحية تانيه خالص...
استدارت تُطالع السماء الصافية، ولكن لم تكن الشمس أمامها، فقد حان وقت الغسق أن يدلف، وتابعت بإشراقة:
- رديت عليه وقولتله ان ابويا مات شريف، ما ماتش خاين، ودا لوحده يخليني أفخر بيه،..
دارت، واقتربت منهُ وأمسكت ذراعيهِ، قائلة:
- اي نعم وجودك في حياتنا كان سبب في الـ حصله دا  يا وليد، ولحد الآن... زعلانه عشانوا!، بس أنت ملكش ذنب برضوا، وأنا لا يمكن أظلمك...
أطرقت رأسها أرضًا، وتابعت:
- عشان كدا عمري ما هظلمك، ولا أخدك بذنب مش ذنبك، ولا أفتح في الماضي تاني أبدًا
استندت برأسها على صدرهِ، وهتفت متوسلة:
- ممكن توعدني اننا نسى الفترة دي من حياتنا خالص، ونعيش عشان الـ جاي وبس، ومنخبيش على بعض حاجه تاني ابدًا..
كان ما زال يقف جامدًا، حتى انهُ لم يرفع يديهِ يحتضنها، كلماتها ترن بعقلهِ لا يصدق انها بكمّ النقاء هذا وتلك البراءة، بسهولةٍ هكذا انتهى الأمر.
رفع يديهِ محيطًا خصرها وظهرها بشدةٍ، ودفن وجههُ في ثنايا عنقها متنهدًا براحة شديدة للغاية، دقائق مرّة لم يعرف كم عددها وهم على نفس الوضعية، وكأنهم يأخذون عهدًا عليهم بعدم أخفاء شيءٍ عن الأخر، ابعد وجههُ فقط إنشات بسيطة، فرفعت بصرها لهُ، ليقول:
- عايزه أقولك على حاجه بقى، بما إننا مش هنخبي عن بعض حاجه تاني أبدًا..
أومأت قائلة، بابتسامةٍ يعشقها:
- قول، سمعاك؟!
- امي لسا عايشة ما ماتتش!
جحظت عيناها بصدمةٍ، واندفع جسدها للوراء، كرد فعل على صدمتها، ولولا تقيدهِ لها جيدًا لكانت قد ابتعدت عنهُ، لم تهمس سوى بـ:
- وليد!!
همست بها بصدمةٍ، وعدم تصديق، فأمسك يدها، يحثها على الجلوس على الكرسي، وهو يقول بحنان:
- تعالي، هحكيلك كل حاجه..
●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●○●
ي

تائهة فِي سَرَايَا صَفْوَان  © -مُكتملة- حيث تعيش القصص. اكتشف الآن