مع ان الوقت كان لا زال مبكراً و لكن شمس الشتاء وجدت صعوبة في اختراق السد المنيع الذي حبست خلفه، كانت تشعر بالبرودة تخترق روحها و تعبث بعظامها،لا تزال تشعر ببقايا الاختناق، صرخت كثيراً، بكت و حتى لعنت و شتمت فرغت كل ذلك الغضب الذي بداخلها، و لكنهم لم يبالوا رموها كخرقة بالية عاملوها كقاتلة متوحشة. أعادت رأسها للخلف و أغلقت عينيها بتعب و سمحت لبقية دموعها بالهطول بصمت! كان الهدوء و السكينة وسط هذه الزوبعة لذيذة في تلك اللحظة، جعلت بداخلها شعور غريب، حزين و لكن لطيف، كان الأمر و كأنه طيف او شبح يزور روحها،
لقد كانت قد نسيت ذلك الأمر او ربما دفنته في قلبها بعنف لا تدري ما الذي جعلها تتذكر، كانت كالذكرى المركونة في أبعد دهليز من دهاليز ذكرياتها، فهي لا تتذكر من والدتها سوى ابتسامتها! و لكن اليوم جاءت هذه الذكرى لتزعزع كل شئ فيها، عادت لذلك الصيف الذي طرحت السؤال على والدتها عندما كانت مجرد طفلة في الخامسة، فهي لم تخلق ادراكاً وقتها عن الكثير من الامور و أحدها لماذا يرحل الأحباء؟ و يتركونا خلفهم؟
"أمي إلى أين ذهب البرت ؟"
تتذكر جيداً فم والدتها الذي التوى من إبتسامة واسعة متعبة و هي تمسك بيدها و هما تنظران لشاهد القبر، إلى تكشيرة حزينة و هي تمسح الدموع القديمة و الأخرى الجديدة من عينيها!
"لماذا يجب ان ارتدي الأسود يا أمي؟"
"أمي اجيبي"
"لماذا يجب ان نقف أمام هذه الصخرة كل يوم و نسقي الورد الذي حولها؟"
كان الصمت هو سيد الموقف، حتى زفرت الأم لتعطي نفسها القوة و نزلت تلك الأم المثكولة لطول ابنتها و هي تتكلم بلطف بالغ و قد عادت لوجهها ابتسامة مجهدة جاهدت ان تبقيها واسعة علقت في ذاكرة باندورا و بقيت أساس ذكرياتها عن والدتها
"لقد ذهب ألبرت يا عزيزتي إلى الرب" قالت الأم بهدوء و هي تمسح وجه إبنتها
" لماذا ذهب ؟ لقد وعدني انه سيلعب معي، كان يجب ان ينتظر باندورا" قالت الطفلة بدلال منزعج
"انه مجبر يا حلوتي لا تلومي أخيكِ" قالت والدتها و هي تقاوم دموعها، و نادت بهدوء:" كريستوفر بني تعال و خذ أختك اعتني بها "
جاء الطفل الذي لم يتعدى ال١٠ راكضاً ملبياً نداء والدته، امسك بالصغيرة بقلق و هي لا زالت تتسأل عن ما يجري!!أمسك بيد أخته الصغرى و أبعدها، اختار مكان بعيد،كان يريد ان تأخذ والدته راحتها و تختلي بنفسها و تعيش في حزنها لوحدها قليلاً، اختارا ان يجلسا على احدى مقاعد الحديقة الصخرية العتيقة، كانت الحديقة جميلة و لكن عيونه ابحرت بقلبه و ذهنه وقتها نحو أمور أخرى و أهمها كان المستقبل! كيف سيمضي في هذه الحياة من دون اخيه الأكبر الذي ترك بداخله كل شئ جميل، ساعده في تشكيل أحلامه!
"كريستوفر، أمي تقول أن ألبرت ذهب إلى الرب، لماذا ذهب لوحده، هل هو غاضب مني؟" قالت باندورا الصغيرة ذات الخمسة أعوام
"من قال ذلك؟" سأل كريستوفر بإستغراب
"لقد غضب مني لأنني لطخت قميصه بالحبر، قالت جودي انه سيكرهني لهذا الفعل، و اليوم تقولون ذهب إلى الرب و لم يأخذني معه" قالت و هي تشعر بتأنيب الضمير
"هذا مستحيل ان ألبرت أخينا الأكبر و هو طيب جداً" قال كريستوفر و قد تجهم وجهه
"و لكن لماذا ماما كانت تبكي؟ و لماذا الجميع يلبس الأسود؟، و بابا لا يخرج من مكتبه! و لا يسمح لنا بالدخول لنراه! هل سيرحل هو الآخر؟!" قالت و قد بدأت دموعها تنزل!
جلس يربت على شعرها بلطف و لم يعرف كيف يواسيها في ذلك الوقت فهو كان ما زال طفلاً و لكنه يومها أدرك أنه غدى رجلاً و عليه ان يحمل الراية من بعد اخيه الأكبر الذي راح ضحية عراك شبابي !!!
أنت تقرأ
باندورا في الريف
Historical Fictionباندورا ذات العينين الناعستين ذات الضفائر البنية الفاتحة، باندورا ذات الضحكة الرنانة والحديث الممتع، باندورا المدللة ،المغرورة، المتكبرة، المتعالية، الوقحة، اللامبالية، الآنانية و عديمة الرحمة....في يوم ما باندورا تخسر كل شئ ، تتعرض للخيانة من أقرب...