كان يوما غائما يصفّر وجعا ما بين نفخة ريح و لحظة صامتة. هكذا خطر لها أن تدسّ ذاكرتها الحمراء في صندوق صغير سعيد, و تمضي بها إلى حيث قد تشتّتها العاصفة. لم يسألها أحد المضيّ من السبيل أين غزلت تفاصيل تلك الذّاكرة, و لم تكن أيضا الطريق الوحيدة, و لكنّها اختارتها بكل ما في إرادتها من القدرة. تظنّ أنّ استئصال الجراح لا يتحقّق إلاّ من مأتاها, و لا تقدّر الفرق بين ظلمة الرّحم قبل الولادة و ظلمة القبر إثر الوفاة فهي تؤمن أنّ الظلام واحد. أظنّها ربطت شعرها و وضعت على رأسها قبّعة, لأنّي رأيت القبّعة تحلّق بعيدا ثوان بعد خروجها. أظنّ النور كان خافتا و الضباب منتشرا, لأنّها لم تر الواقف على الطريق إلاّ لحظات قبل الإصطدام و تراجعت بهلع, أجل, تراجعت بهلع لأنّ لا أحد قد يطمئنّ لملامح وجه لن يراها و قامة واضحة. و أظنّ أيضا أن المطر كان منهمرا لأنّ سترته كانت مبتلّة و لم يكن وحده وجهها, إذا فلم تكن تبكي, السماء هي التي كانت تبكي. توقّفت و تشبّثت بصندوقها السّعيد. من صوت زفيره انتبهت إلى أنّه كان قد ابتسم ثمّ تمتم : " أرقصت قبل اليوم على موسيقى المطر؟" و مدّ لها يدا من خلف الظّلال. كان ذكاءها كافيا لتدرك أن ليس لها الخيار, ألقت بصندوقها وراءها و فكّت رباط شعرها و مدّت له يدا. من الشّريط الأحمر الملقى وسط الطريق علمت أنّ شعرها حين خرجت كان مربوطا, لم يكن تخمينا. لمحتهما يرقصان طويلا و بشغف عار, و كانت الخطوات تبعدهما قليلا قليلا, كان يتمايل كثيرا كأنّما قد أمضى عمره يعلّم جسده الرّقص و تدريجيا تعلّمت أن تلمّ بكلّ زواياه, أن تتقدّم كلّما تراجع و تدور على محور من أصابعه إذا اقترب, أن ترتعش كلّما صفّق و تتراخى كلّما صفّر, و أن تجعل من امتداد يديه مركز الجاذبية تحتها, هو الذي أخبرها أن تعاند قوانين الأرض كلّها و تجعل من قوّة تشبّثه بها بديلا لا يندثر... من عاداتها العجيبة أنها تصدّق كثيرا و لهذا وحده كانت تتعثّر كثيرا حين تمشي في الضباب, كانت تصدّق أن الأرض مسطّحة بمثاليّة. و بالمنوال نفسه وثقت بصلابة ذراعه ... حتى سقطت, و تأوّهت بنفس مكتوم, أرادت أن تتأفّف من قلّة مسؤوليّته و لكن الضباب عادة لا يحفظ آثار الرّاحلين. لست من اللّذين يحبون وصف الأوجاع و الوقوف عندها طويلا, هي أيضا لم تبق على جلوسها طويلا, ابتسمت فقط لأنّها نست أين تركت صندوقها السعيد و لابدّ أنه ضاع و شتّتت الرّياح ذكرياتها الأليمة, حتى رأته فجأة مغلقا و أنيقا قربها, الحقّ أنّني حين تبعتها أحضرته لها, علمت أنّها ستحتاجه كثيرا. فتحته فوجدته مملوء بذاكرة راقصة. و لأنّها أعلم النّاس بأنّ الرّياح أعجز من بعثرة جرح حديث الإنفتاح, وضعته على صدرها و غادرت بعيدا. لا أحسب أن السماء كانت تمطر عندها ... لكنّ وجهها بدا مبلّلا.
_______________________
بقلمي صبرين المالكي
الإهداء: إلى الذي علّمني الرّقص بين قمم الفرح الشاهقة و أعماق الوجع .. إلى كلّي .. من أجلك وحدك سأكتب مجدّدا#تخربيشة
26/02/2015
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.