في وداع رجل أحببته...

95 7 9
                                    

أينا قد انتصر في النهاية؟ وأينا قد قطع رأس الآخر فعاد به مسرورا غانما؟ وأينا الذي لم يخسر أبدا؟ وما الفرق بين ما ضاع مني وما ضاع منك أيها السيد الوسيم؟

طفلين التقينا، وطفلين انسجمنا، وطفلين تعاهدنا، وطفلين تحاببنا، ونمت جدائلي على فخذك وامتد طولك وأنت تتوسد صدري، وملكنا معا كل مدائن البحر المتوسط، وأحيينا في عناق واحد  كل حكايات الحب التي أتلفها التاريخ القديم وفتحنا سويا مدنا كادت الأرض تنساها ومزجنا هذا الزمن العصري بكل ما امتد إلينا من آدم الأول من حضارات، وأسسنا أنا وأنت، كل العوالم التي تسكن في فضاءات ما فوق السحب، فأخبرني، أينا يا سيدي حين ضرب خناجره في صدر صاحبه عاد منتصرا؟ وهل كان قتل النبض في قلبي يستحق كل ما كان من تعب؟ وهل كان موتك بين يدي هو كل الظفر الذي قاتلت من أجله؟

وفية كنت طوال سنين الهجر، أنتظر بزوغك كخيط الفجر عند الباب، أسقي الزهور كي يستقبل عطرها حضورك الشحيح.  شجاعة كنت،  أنتظر منك شرارة الحرب كي أنقض معك على كل جيوش الأرض نطحنها وتطحننا، نمزق الخرائط ونعيد تشكيل الحدود ونحرف الشرائع والقواعد وندفن كل القوانين. صامدة كنت، أجلس حذوك  في غرفة من فولاذ في قاع الجحيم وأنشغل بجمع لحمك الذائب وإنقاذ عظامك. فما كنت أنت في كل هذا؟  رجل جبان يلتصق بروحي كالعلقة ويهاب كل القوانين التي يتبجح بكسرها، تخمده صرخة امرأة ويعيقه جواز السفر عن مواصلة الرحلة. شتان بيني وبينك، أغوص في الوحل كي أبلغك وتخاف أنت على ردائك الأبيض الحريري وعقدك الفضي وتسريحة شعرك.

مازلت حتى الآن لا أنسى آخر لقاء جمعني بك، مهووسة بجعل المشاهد التقليدية تبدو ميتافيزيقية جدا، تعرفني، أحب رسم المشاعر، وفي مشهدنا الأخير وقفنا وبيننا تيار نهر جارف وجسر وحيد منكسر، ولقد عريت ساعدي كي أقفز داخل النهر ولكي تهشم عظامي الصخور وأصارع الماء كي أبلغك قبل الهاوية، وبقيت أنت حيث أنت، خائفا مرتبكا تحادثني عن إمكانية العثور عن جسر آخر صالح للعبور. 

إن كنت غبيا جدا فلماذا تسابق امرأة مثلي؟ إنه سؤال محير حقا، أضحك ملء الروح كلما أطرحه، إنك متبجح جدا وشبيه بممثل كوميدي يحاول تجسيد مشهد يقاتل أثناءه تنينا ناريا ويخال أنه بطل فعلا، حتى التنين من شدة سخفك بات ينفث ناره بعيدا كي يراك تصرخ في هلع فيزيده هذا غرورا بنفسه ويزيدك استعلاء، فأنت تصدق دوما أنك تخوض حربا ضروسا. مالذي خطر لك حقا كي تخترق طريقي هكذا؟ أعترف أن  في قلبي شيء من الغباء، شيء شبيه بذاك  العطف الذي تخزنه الأم في روحها لأولادها، وكنت طوال السنوات أفكر فيك من هذا المنطلق، لكنني أبقى امرأة ويليق بي الغباء أحيانا، أما أنت فرجل، لم يمتلك من رجولته إلا شواربه على ما يبدو.

لقد جلست عند النهر حولا كاملا بعدك، ولا تعتقد أني انتظرتك بعد أن صرخت بوجهك ارحل فرحلت، لقد أدركت قبلها أنك مخلوق كالضباع يأكل من البقايا المتاحة ويخاف الصيد والمواجهة والقتال، إنما جلست آكل من تفاح الجنة الذي أحضرته لكلينا، وأحمد الله أنك لم تبق ولم نتقاسمه. ولقد فكرت في القصة كاملة، يوما إثر يوم، تذكرت البدايات والنهايات والدموع والرسائل والليالي الثقيلة والأتعاب واعتقدت أني أسقط باكية وأتعذب من الذكرى ويحرقني الحنين إليك، لكنني أدركت  أنك لم تكن شيئا، لقد دخلت من الفجوة المؤدية لمجازي وكنت أول من قابل الكاتبة في قلبي، وكل ما في الأمر أني كتبتك فهولتك فتأثرت بصورتك المضخمة وساعدك الغياب كي يصير ظلك أكبر منك، أضف إلى الخلطة أني كنت مراهقة حينها وأنك أول مغامرة في الحب أخوضها وأنك شخص بارع في فن الخطابة وممثل لابأس به وزير نساء

منذ أشهر طويلة وأنا مريضة جدا، ينتفض قلبي كالبركان، وأبكي في صمت وأتحمل بمشقة تمزق أحشائي، ومنذ يومين فقط قررت أن أدعو نفسي لنشرب الشاي في حديقة بيتنا الخلفية  وأن نتحدث بشفافية عن الموضوع لكي نجد حلا منصفا،  أخرجت الرسائل القديمة والهدايا من نهاية الخزانة، قرأت النصوص كلها واسترجعت الذكريات ذاكرة ذاكرة، ثم قررت أن أتلف كل هذا وأن أقطع الرباط الأحمر المقدس بين بنصرينا وأن أعلن نهاية هذا الحب إلى الأبد وأغلق جميع البوابات كي أضمن أنك لن تعود. قالت لي نفسي أني لم أكتب حتى الآن نصا أقتلك فيه، إنك تعرف حتما كل الجثث التي دفنتها في نصوص أخيرة وكيف انتهوا بعدها حتى الأبد. 

بدأت أكتب هذا النص مرثية لك، واعتقدته يكون تراجيديا حجم الألم وهيأت نفسي للبكاء الشديد والانتفاض والاهتزاز ولليلة قاسية جدا يهجرني أثناءها النوم، لكنني أضحك منذ بدأت أتذكرك بوضوح، لم أجد الخيط الأحمر الذي ربطناه في بنصرينا، أعتقد أننا كتبنا هذا في مكان ما، ثم اختلطت المفاهيم فظننت أنه قد حدث. حتى المرض الشديد الذي أصابني لم يكن  شوقا إليك، لكنني نسيت أن أتقيأك فتعفنت داخلي والتهب شيء من الروح، ضرر صغير سوف يزول سريعا.

لم أقصد أبدا حين بدأت الكتابة أن أحتقرك في نص موتك وقد قدستك سنوات، لقد ارتديت فستانا أسود حقا، وأحضرت باقة من الورد، ولم أضع الكحل كي لا يسيل مع المدامع، وحفرت لك قبرا أنيقا يليق بعهدك العظيم في عمري، وأحضرت صديقا جميلا أعانقه لحظة الدفن وأبكي، وأحضرت معي ماء نقيا طاهرا امسح به جبينك قبل أن أمضي وفكرت في عناقك عناقا طويلا وفي إلقاء قصيدة عميقة على روحك وكتابة بيت جميل على ضريحك... ثم حدث كل هذا، أنت حتى غير موجود في داخلي كي أقتلك والأثر الذي خلفته في نفسي كان مزيفا مثلك، ولا شيء مما عشناه حقيقي إلا حبي الشديد لكل تفاصيلك، وفائي لك وهوسي بك وصبري عليك ودقات قلبي التي حدثتك عنها، لا شيء حقيقي في الحكاية غيري أيها الغريب. ولا تخل ما حدث هنا سعيد أو بسيط أو أني أشعر بالانتشاء الآن، ما الأكثر وجعا من أن أكون أحببت لسبع عجاف قردا، ومزقت لحمي على قارتين من أجلك، وقاتلت سبعين عاما على جبهتين من أجلك ، وأحببتك في كل حب وحب وفي ما بينهما لتكون في آخر المطاف هذا الشيء اللزج في هذا النص.

أخبرني الآن أيها الغريب، أينا انتصر في النهاية؟ وهل كانت حربا حتى نخسرها ونربحها؟ هل يستوي الصدق والكذب على الميزان كي تتساوى بيننا الخسارات؟ حلال عليك يا سيدي كل ما ضاع مني في سبيلك، حزني وفرحي ومحبتي وانتظاري وأمي وأبي ودفئ بيتي وذكرياتي ونصوصي الحزينة. لقد سامحتك ونسيتك ونسيت ما كان منك، فلا تعد أبدا إلى دياري، وإياك ثم إياك يوم أموت أن تصدق وعدك فتدنس جسدي بماءك أو أن تسير في الجنازة أو أن يأخذك حماسك يوما فتقول لعابر سبيل أنك أحببتني ساعة أو نصف ساعة أو أقل.

18/03/2019

فوضى الأبعادحيث تعيش القصص. اكتشف الآن