رحلة في عمق مختلف من أعماق التاريخ البشري الدموي والقذر :')
كولونيا ديجنيداد مستعمرة الكرامة التي تنطلق ظاهريا كمؤسسة خيرية حامية للإنسان ناطقة باسم الرب وبين أسوارها تُنتهك الكرامة ويرقص الشيطان حرا عاريا... هذه المؤسسات التي مازلنا نرى تفاقمها حتى الساعة، مثيلاتها تتنفس حتى اليوم في كل وطن وتصفق لها شعوب الأرض بحرارة وحماسة.
تأسست كولونيا ديجنيداد سنة 1961 جنوب تشيلي على يد الممرض النازي بول شيفر، المتحرش الجنسي بالأطفال ومدعي الألوهية. إثر الانقلاب العسكري في تشيلي تمتع شيفر بحماية الحاكم أوغوستو بينوشيه آنذاك لكي يمارس طقوسه الشاذة على البشر ويستمر في أعماله غير المشروعة وجرائمه الشتى في مقابل توفير المكان المناسب للحاكم لإبادة سجناء الرأي والمعارضين، العصابة المألوفة ذاتها التي نعرفها جميعا والممارسات المرة نفسها، أعتقد أن لا أحد يحتاج هنا أن يسمع عن الصعقات الكهربائية وتقطيع الأجساد والاغتصاب لأننا نعلم ما حدث وما يحدث وما سيحدث حقا، حاضر بيننا وفينا بشكل مستمر، ومن المفارقات الجميلة أن قارئ كلماتي مهما كان موطنه يحمل وجوها خاصة جدا لهذه الخيالات. طوبى لنا هذه الذكريات الجماعية القذرة طالما مازلنا نسمح لها بالتنفس ومنذ بدايات المنشأ.
طبعا الفيلم يصور لنا الأحداث من عدسة درامية جميلة وفي إطار حكاية رومانسية رقيقة دافئة، يرينا الكثير من الحب في نظرات إيما واتسون لكي تستطيع قلوبنا الهشة تجرع تلك الأقراص المخففة للمعاناة، كلنا نعلم أن الأوضاع كانت أسوأ آلاف المرات وأن الصراخ في الأنفاق كان أعلى وأن الدم كان أشد تدفقا وأن كثيرا من الجثث التي لم يتم تصويرها رقدت بسلام محتضنة أسرارها، وأن الأوضاع كانت معقدة لدرجة أن سيناريو دانييل ولينا كان مستحيل الوقوع، هل كان خفيا في داخلي فقط؟ لأنني كنت أرى فقط المشاهد التي لم تُصور، تكملة مشهد الأطفال في قاعة الاستحمام وهم يُغتصبون والسبب الذي جعل طفلا يخرج من غرفة المدير يبكي، كلنا ندرك أن شيئا سيئا قد وقع هناك ولكنه ليس بأهمية دخول لينا لمقابلة الوحش. ثم يأتي ما حدث للفتاة التي توقف التصوير وهي تُضرب لأنها فكرت في الزواج، بعدها لم تعد إلى الفيلم أبدا، كيف ماتت تحديدا؟ لا يهم، المهم أن لينا نجت. مالذي كان يحدث في الأنفاق؟ أعتقد أن سلسلة كاملة من الأفلام لا تكفي كل التفاصيل التي تكتمت عليها تلك الأنفاق. وماذا عن المختلين عقليا الذين جربوا على أجسادهم تجاربهم العلمية القاتلة؟ وكيف استطاع شيفر إقناع الناس بأن ما يفعله بهم مبارك من الرب؟ بأن ذاك البؤس المطلق الذي يعيشونه طريق الله الطاهر؟ كيف مازال الإنسان إلى اليوم يقتنع بأن نشر الدمار والعذاب والموت باسم الدين يمكن أن يكون مباركا؟ حتى هذه التفاصيل نعرفها جيدا، هناك أسماء مألوفة تقفز إلى أذهانكم وأنا أسمعها.
كانوا يعاقبون الناس لأنهم يفكرون، ولأنهم جعلوهم يهابون التفكير جدا استطاعت الأقلية أن تضطهد الأغلبية كالعادة، هذا يحدث دائما، حفنة من المرضى النفسيين ذوي الصدور المنتفخة والأصوات الجهورية تحرك شعوبا بأكملها كالبيادق الجامدة، أعتقد أنه المشهد البدائي الذي سيتكرر إلى الأبد.
تأتي نهاية الفيلم التقليدية لاحقا، البطلان المحبوبان اللذان ينجوان دون خدوش ولا قروح وبأقل قدر ممكن من الألم، نضحي بإحدى الشخصيات الثانوية الطيبة من أجل واقعية المشهد لإعطاء الوجع نصيبه في الظهور، وتبارك أيادي الكاتب الرقيقة البطلين. النهاية لم تكن سعيدة إطلاقا لأن خلف لينا ودانييل كانت كولونيا ديجنيداد ما تزال قائمة بكامل شعائرها وأسرارها وضحاياها وآلامها، مع هذا المشاهد يبتسم ويصفق.
كان على الكاتب أن يكتب نهاية أشد واقعية يقتلهما خلالها ليصيب عقل المشاهد بخبطة على رأسه تجعله ينسى لبعض الوقت عبق الغراميات ويستيقظ فيرى بشاعة المشهد الذي يختبئ خلف ركضهما المجنون ذاك، المشهد الذي لم ينتهي يوما. يرينا تجربة علمية حية تطبق على دانييل أمام أعيننا ويكمل مشهد موت الفتاة القذر في منتصف الفيلم من خلال لينا. لا يستحق الإنسان كل هذه المواساة في عمل درامي اختار كاتبه أن يكون إطاره مأساويا وواقعيا إلى هذا الحد. لا يمكن أن تكون الأعمال ذات خاتمات سعيدة حين نأخذها من وجهة نظر الضحايا، لأن الضحايا لم يكونوا سعداء يوما وفي هذا هضم كبير لحقهم الأزلي في الألم وفي إبراز ذاك الألم كما تجلى، أو أبشع مما تجلى إن كنا نريد حقا مواساة المشاهد، لنقول له في النهاية أن ما حدث كان أهون مما رآه، لكنه لم يكن أهون يوما.
أما إن أردنا أن نرسم صورا سعيدة، علينا وقتها أن نكتب السيناريوهات من وجهة نظر المستبدين كشيفر وبينوشيه وكل المتواطئين في بناء وحماية مؤسسات انتهاك الكرامة الإنسانية، تصوير مدى اللذة التي يشعرون بها وهم يمارسون قمعهم بمنتهى الأريحية، يقودون القطيع الشاسع بلا تعب، ينجون في كل مرة من كل مأزق وتتم تبرئتهم ببساطة شديدة وينتهون دون عقاب وإذا ما تم عقابهم فجأة من أجل تمثيل مسرحية مقنعة يصدق خلالها القطيع أن هناك شيئا من العدالة يسكن الأرض، تحكم محاكم العالم الجميل على المذنب الذي اقترف وخلال أكثر من أربعين سنة من الاضطهاد عددا لا يمكن تقديره أبدا من الجرائم المنوعة زهقت معها مئات وآلاف الأرواح التي لا ذنب لها، بثلاثة وثلاثين سنة من السجن. ثلاث وثلاثون سنة رقم كبير أصلا سوف تحبه الشعوب وسيرضيها ولا أحد سيعترض.
يا إلهي، إني لا أعثر داخل عقلي على الفيلم الذي شاهدته منذ حين وأجد مكانه في داخلي فيلما مختلفا، أعتقد أنها بوادر الجنون، الجنون لا غير.
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Sonstigesحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.