كل الأصفر لا يشبهك

49 1 2
                                    

يوم أمس، وما إن وضعت ساقي خارج سيارة الأجرة الصفراء، تسرب إلى رئتي هواء المدينة التي نشأت وعشت فيها أكثر من ثلثي عمري. لأول مرة أشعر حين أستنشقه أن الهواء بلا لون أو رائحة أو طعم أو شكل محدد وأنه بارد أكثر مما يجب. تمشيت بين الطرقات أجر حقيبتي وأراقب تلك التفاصيل الدقيقة والمألوفة بنظرات فارغة كأنني لم أشتق لشيء ولم أحس بالوقت الطويل الذي مر منذ الزيارة الأخيرة. أخفضت عيني كي لا يلاحظني أي وجه من كل الوجوه التي أحفظها حتى بلغت عتبات البيت. لاحظت أن لون النبات قد مال إلى الاصفرار وأن شجرة التوت قد تفتحت وبرزت عند أطرافها ثمرات خضراء يابسة، لم أمد يدي كي ألامسها ولم أبحث عن القطط التي اعتدت أن تستقبلني عند المدخل.

صوت أمي بقي دافئا رغم كل شيء، تأملت شكلها  باهتمام مبالغ بحثا عن أي تدهور بينها وبين آخر صورة حفظتها لها في ذاكرتي قبل أن أعانقها. رائحة أمي مازالت تشبه الوطن رغم كل الغربة التي سكنت قلبي. بقيت تحوم كالفراشة الرشيقة داخل المطبخ، تضع أمامي وجبتي المفضلة، تغسل الفراولة التي تظن في داخلها أنني لم أذقها بعد، تحضر العصير الطازج، تخرج المرطبات التي أعدتها خصيصا لي من الفرن، تريني باهتمام شديد كل الأغراض التي جهزتها منذ أيام من أجلي  بما أنني سأقضي رمضان بعيدا عن البيت هذا العام. أخبرتني بفائض من الحزن أنهم سيحضرونني أياما كي أفطر معهم، في صوتها كثير من المواساة، وفي قلبي كثير من الغربة والغرابة وعدم الانتماء إلى كل شيء. 

مساء، عاد أبي إلى الدار من عمل النهار، هي ذي الجملة التي اعتدت أن أصرخ بها مغنية حين أسمع صوت سيارته، مازلت أميز حتى نغمة محركها المختلفة. كل التفاصيل التي تحيط بأبي مميزة وخاصة جدا، بداية من ظله وحتى حضوره. أحرص على فتح الباب والاختباء خلفه وحين يراني يعانقني ويهلل، يهلل بصوت عال ويضحك ويتحدث بحرارة وينسى حبه العميق للصمت، ثم يخرج مسرعا كي يقطف أولى الثمار التي نضجت من شجيراته اليانعات، يعود كي يضعها في يدي ويقول بشغف "هذه من أرضنا وحقلنا وأشجارنا!". أبتسم رغما عني، مازال قلب أبي أصيلا جدا، لكن قلبي غدا هجينا خاويا، لا ينتمي إلى شيء.

نجلس حول طاولة العشاء، نحافظ على الترتيب المعتاد ذاته على المقاعد، نحرص على عادة الأكل من صحن واحد، يظن أبي أن هذا سيبقينا رغم الخلافات والاختلافات عائلة إلى الأبد. ألاحظ أن أمي تأكل من صحن خاص طعاما أصفر  وتبقى تبتسم لكن في ابتسامتها شبحا حزينا، تحدثني عن الحمية وتستفهم مني إن كان وزنها قد نقص خلال الأيام الأخيرة. ينظر أبي إلى صحننا ثم صحنها دون أن يلاحظه أحد، تفر يده ليأكل معها أحيانا، بعض نظراته لها تخبئ خوفا وانكسارا وكثيرا من الحب، يتحدث كالطبيب من حين إلى حين، يسأل عن الأدوية ثم يشير إلى سلة الموز والباذنجان التي أحضرها خصيصا لأمي من السوق ويعود لفتح حوار حول مناعتها. يغمرني شعور دافئ جدا، أبي رجل صامت لا يفصح عن حبه إلا أحيانا قليلة ولكنه يتصرف بحب شديد وتفيض مشاعره الرقيقة بين أصابعه وحول عينيه ولا يطيق فكرة أن لا تمتد يداها البيضاء إلى صحننا، يجعله هذا ممزقا بين صحنين.

نطلق طرائف خرقاء حولهما أنا  وشقيقي، نحاول أن نجعل الاجتماع لطيفا مضحكا، نحول الأجواء العاطفية لأخرى كوميدية. أشعر بكثير من المحبة نحوهم جميعا ولكنني أشعر بالغرابة أيضا، أشتهي في داخلي لو يتوقف الزمن هنا، ولو أحتفظ بهذه الصورة السعيدة جدا في داخلي، ولربما لهذا تحديدا وجدتني أكتبها، ألا تخلّد الكتابة كل اللحظات إلى الأبد؟ أظنها تفعل.

أخرج من الحقيبة حبات الشوكولا التي خبأتها لهم منذ شهر مضى، أعانقهم وأستأذن كي أنام. أغلق باب غرفتي وأختبئ داخل الظلام والأغطية. شبح غريب وحزين بقي يطل بوجهه الرمادي داخلي، أحاول طرد الرمادي بعاصفة من اللون الأصفر، الأصفر كان حاضرا بقوة في كل شيء، حتى الثلاجة وعلى غير عادة كانت ممتلئة بالموز الذي أحضره أبي بإسراف من أجل أمي. لا علاقة للموز بك، ولا للأصفر، بحثت عن صوتك في كل التسجيلات وبقيت أسمعه بشكل متكرر كي أشعر بالدفئ ثم تدريجيا بدأت أنام وأستكين.

هواء هذه المدينة يخلو منك وكل الأصفر فيها لا يشبهك.

04/05/2019.

فوضى الأبعادحيث تعيش القصص. اكتشف الآن