"Sous le ciel de Paris
S'envole une chanson..."تعالى صوت الموسيقى في غرفتها محركا فيها مشاعر ثورية جامحة. مشهد برج إيفل مرتديا أضواءه الساحرة عبر النافذة ورائحة الكولونيا أججا في جوفها قصصا كابدت طويلا كي تدفنها وتحول دون ثباتها في صدرها، غير أن القلب إذا ما اتخذ قراره، لا شيء غير صوت الله قد يخرس همسه.
علبة من الأوراق الناصعة وقلم أسود وقارورة من العطر ثم صورة عفوية لهما معا، كل ما يشغل بالها طريقة مثلى قد تبدأ بها رسالة الاعتراف الأعظم. اعتقدت طوال السنوات أنها سيدة على الكلمات، تشكلها وتدس المكائد في جوفها وتمزج المعاني المعقدة لتبزغ منها أضداد المعاني، وتحرك الأفراد كالبيادق بسلاسل الكلمات، لكنها تكتشف الليلة كيف يجرد الحب الإنسان من السلطان ويعيده من بين قمصان الحرير وأكواب الذهب وخواتم الماس الثمين إلى الماء والطين، تكتب ثم تمزق الورقات ولا شيء يقنعها. غدا تعود إلى وطنها ويعود إلى وطنه، لا شيء من سماء باريس سيحتضن جنونهما، لا شيء من الأغاني الشهية سيطير بين الفراغات...
تقابلا عند المطار، رفع عنها حقيبتها بود وسألها عن كل ما اجتاح عقلها من أفكار، وحادثته عن كل التفاصيل الصغيرة التي لا تخصه، وتلعثمت كلما ارتطمت عيناها بنظرته وارتعشت يداه. جلسا لوقت طويل على إحدى المقاعد، وضع سماعة في أذنها وسمعا معا كل الأغاني المشتهاة، وحين غنت ماجدة الرومي طوق الياسمين ردد معها في ثبات:
و ظننت أنك تعرفين معنى سوار الياسمين"
يأتي به رجل إليك ظننت أنك تدركين
و جلست في ركن ركين
تتسرحين و تنقطين العطر من قارورة
و تدندنين
لحنا فرنسي الرنين."العطر واللحن الفرنسي، كل ما خطر لها تلك الرسالة القصيرة في جيبها، بين أصابعها...
نداء يذكر بمواعيد الرحلات يعلن نهاية ذاك اللقاء الأخير، يقفان في ذهول، تتخبط الأنفاس في صدريهما وترتبك النبضات، تنفتح الشفاه لتقول حرفا عالقا ثم تعود للانغلاق، ويزداد التوتر، تقبض على الورقة الصغيرة بقوة وتفكر في تردد إن كانت ستستطيع إعطاءها. يخرج من جيب معطفه طوقا جميلا من زهور الياسمين ويقول بارتجاف:
"ياسمين الشام أحلى، ولكني ظننت أنك رغم ذلك ستفرحين، أمضيت الليل كاملا أصنعه لك، فيرافقك شيء مني حتى موطنك."
يثبته بحذر فوق رأسها ثم يبتسم، تشكره في خجل وتنتظر أن يقول شيئا إضافيا، لكنه لا يقول. صمت رقيق يعمّ بينهما ونظرات هائمة، صمت حزين، بعدها تبتسم في خيبة شفافة وتقول وداعا، يرتبك فيقول وداعا ويمضيان.
يعتصرها ألم ثقيل، تقف وتلتفت، تنتظر أن يعود فيقول شيئا رقيقا وتعطيه الورقة الصغيرة. يقف ويلتفت أيضا كأنما ينتظر أن تعود فتقول شيئا رقيقا.
لا تعود ولا يعود، يبتسمان ويغادران.
تحلق الطائرة بعيدا نحو وطن لا يحتويه، ويفيض على وجنتيها دمع دافئ وثقيل، أما كان عليه أن يقول أحبكِ بعد كل ما خاضا في غماره؟ هل كان قلبه متحجرا أو لا يحس؟ تتذكر كل شيء ثم تردد البيت الوحيد الذي غناه قبل الرحيل:
و ظننت أنك تعرفين معنى سوار الياسمين"
يأتي به رجل إليك ظننت أنك تدركين.."تجعد جبينها، تتحسس طوق الياسمين على رأسها، تتذكر كلماته الأخيرة، ثم تشعر بالغباء والسذاجة والخذلان، تسترجع نظرته الأخيرة وتفهم ما في عينيه من انكسار، تخرج الورقة الصغيرة وتقرأها:
"وأنا أيضا، أحبكَ كثيراً..."
ثم تجهش في البكاء.
#رسائل_قصيرة_١
04/04/2019.
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.