43 2 2
                                    

لو كان المشهد روائيا بحتا الليلة كنت لأرتدي فستانا أسود وأضع أحمر شفاه قان، أعد كأسا من النبيذ الأحمر الفاخر ثم أسير بأرجلي الحافية على الرخام المنقوش البارد. أمرر ذراعي البيضاوتين على غطاء البيانو العتيق بعدها أعري مفاتيحه بأصابع لينة ثم أجلس على كرسي مبطن بالجلد الرفيع وأحرك أناملي  بشاعرية ليصدر عنها نغم كلاسيكي ساحر لمورزارت أو بيتهوفن وأبقى على هذه الحال حتى تطل أولى خيوط الفجر. أكون عندها قد انتهيت من التعب وفتتني الحزن حتى صارت روحي رمادا أبيض، وقتها سأشرب كأس النبيذ المعتق دفعة واحدة، أبتلعه كما يُبتلع السم الزعاف وأئن أنينا موجعا وفي النهاية أسقط فوق الكرسي وأبكي فيسيل الكحل على وجنتي ولا ينقذني من كل هذا إلا النوم.

لو كان المشهد روائيا، لكنه غير روائي أبدا، شعري أشعث الليلة كالغجر ولا أضع أي نوع ملهم من الزينة،  غسلت وجهي عدة مرات حتى كدت أمحو ملامحه. أرتدي  أحد قمصاني الملونة، أزرق سماوي تتخلله صور عشوائية لأحرف وأزهار زهرية وصفراء وخضراء، هناك أزرار طفولية مضحكة عند الرقبة. أضع موسيقى أجنبية فاجرة وأجلس بحديقة المنزل المنسية. أظنك تعرفني جيدا لتتكهن بأني أرقص بين الكراسي البيضاء وحول الأعمدة الحجرية وأحيانا على العشب. المكان فوضوي جدا والفوضى مبهجة أكثر من الأغنيات، تحمل كما عظيما من التفاصيل، وأنا كما تعلم لا أجيد كتابة نص يخلو من مفردة " تفاصيل". لا يوجد لدي أي نبيذ  لكن خزانة والدتي مليئة بالحلويات وأنا أسرق منها قطعة واحدة كل بضع دقائق وأشرب كأسا من عصير الليمون. أمتلك بيانو أزرق صغير بحجم علبة البيتزا عليه صورة لآلة الهارب ذهبية اللون تتخللها  أزهار مزركشة أيضا، وكل ما أستطيع عزفه موسيقى عيد الميلاد وبعض النوتات التي بالكاد أذكرها لأغنيات فرنسية موجهة للأطفال، ولا أجيد الغناء كما تعلم ولكنني أغني الآن، أغني بصوتي البشع وكل ما أبالي به شعور الاستمتاع الذي يراودني.

أمن أجل كل هذا افترقنا؟ لأنني أجيد كتابة المشاهد الباذخة كما يليق بأحلامك ولكنني أكره الخوض فيها؟ علمت أنك ستتزوج بعد أشهر قليلة جدا هذه الليلة، وأعلم أنك كنت ستفضل لو عايشتُ مع وقع هذا الخبر طقوسا باذخة التصوير، لو تمثلت في صورة المرأة الناضجة المشتهاة التي تتألق حتى في حزنها وظلامها. لن أكذب، لقد شعرت بأن  أطلنتس تغرق مجددا حين علمت أنك قررت موعد الزفاف، ولم أحزن لأني أفقدك إلى الأبد، فقدتك حتى بات الأمر اعتياديا عابرا ولكنني حزنت حين عبرني مشهد طفل السابعة عشر الذي أحبه،  كنا بريئين وكنت تحب أنني الشيء النقي الوحيد المتبقي على هذه الأرض، وكنت أفكر بجدية في احتمال أن يكون خلقك الله من أجلي. حزنت على طفل التاسعة عشر الذي ودعني باكيا عند الباب وحين حدقت مطولا في ربطة عنقه الغريبة همس لي بأني سوف أربطها له يوما، فكرت في احتمال أن أتعلم ربطها من أجلك، ولكنني للأمانة أكره الرجال الذين يلبسون ربطات العنق، أشعر أنهم مزيفون، يظهرون مجدا فارغا ويدعون وقارا ليس فيهم. حزنت من أجل صورة رجل العشرين الذي عاد إلي باكيا ورغم كل الآلام التي استشعرناها قبل وداعنا الأخير عانقته بقوة واختنقت في داخلي كل أحزان الكوكب ثم حزنت قليلا من أجل رجل الرابعة والعشرين الذي حادثني بلهفة  طفولية مباغتة ثم وهو يشكو لي وجع الحياة نام أمام الكاميرا وأيقظ في قلبي أشواقه. حزنت من أجل كل اللحظات الجميلة التي أبقيتها داخلي ولم أتلفها، ثم حدقت بعينين ملتهبتين نحو الأفق وابتسمت كما علمني صديق أحبه. 

فوضى الأبعادحيث تعيش القصص. اكتشف الآن