كنت أحدق عبر النافذة بأعين شاردة إلى المارين على الطريق المقابلة حين جلست على المقعد الملاصق امرأة أربعينية مبشرة الملامح، ألقت تحية الصباح بصوت تغلبه بحة رقيقة ثم استقرت. حملت بين يديها كوبا من القهوة السوداء أخالها مرة. ذكرتني تلك الرائحة بالليلة الطويلة التي لم أنمها، كنت أغرق داخل دوامة من التفاصيل الدقيقة جدا. تآكلني الأرق ورغما عني حادثتك بصوت منخفض، شعرت أنك تجلس قرب جبيني، تتأمل وجهي بعينين ودودتين، تغني بدفئ عبر سماعاتي. صوتك بدا متعبا جدا، استطعت أن أحس بالخمول يطغى على نوتاته، لقد كان مريحا، ذاك الانطباع بالارتخاء والاستسلام الجسدي الذي خلفه داخلي جعلني أستكين رويدا.
الآن أنتظر أن تمتلئ الحافلة كي تسير بي نحو العاصمة، أخالك تعلم الملل الذي يخلفه الانتظار وتعلم أنني حيث أجلس أنهمك بعد العلب والفضلات التي تقع من عربة عامل النظافة في كل مرة وهو ينظف الطريق. أعتقد أنه رجل خمسيني، قصير القامة يرتدي قميصا مخططا أزرق وقبعة حمراء، يبدو طيب القلب. أحب كل العمال البسطاء، يمنحونني إحساسا رقيقا لا أستطيع ترجمته. لا أستطيع ترجمة هذا الشعور الجميل الذي ينتابني ما إن أكتب لك ثم أتخيلك وأنت تقرأ هذه الكلمات بنظراتك، غارقا في زاوية خاصة من زوايا روحك، تبتسم عند بعض المقاطع وتشعر بأنك إنسان محبوب جدا. أحدهم يتذكرك عند السادسة فجرا ويشعر بالسعادة غير المبررة. ألا يبدو هذا غريبا ولطيفا وبريئا جدا؟
تنطلق الحافلة أخيرا، يتسلل نسيم بارد إلينا، المرأة مازالت تشرب قهوتها في هدوء، تضع نظارة سوداء وتتأمل التدرج الرهيب لذوبان العمارة وغزو الطبيعة، أراقبها من حين إلى آخر. أحببتها بلا سبب وجيه، حضورها جعل صباحي مبهجا جدا.ليست فائقة الجمال أو بارزة الحضور، إنها عادية فقط، لكنني أعتقد أن زوجها رجل محظوظ جدا.
على يميني أرى جبلا شاهقا بديعا وعلى يساري بحر هادئ تشتت صمته رفرفة النوارس، إنني ممتنة الآن للحياة التي جعلتني أسكن على هذه الأرض تحديدا أين تبدو الجزئيات مسروقة من مشهد روائي تعبت كثيرا كي أختلقه. كل ما يسعك قوله أمام هذه اللوحة أن خيال الرب بديع جدا. تأخذني الحافلة إلى مدينة جمعتنا في زمن بات يبتعد رويدا، ومع أنني أتوقع أن يكون اليوم مرهقا جدا، تراجيدي ربما، مكتض بوخزات القلب المباغتة والقلق والخوف والأحداث الجديدة من نوعها، لكنني سعيدة جدا. أعلم أني في أريانة الصغرى أقاوم كل أصناف الألم، هناك دواء ينتشر في الهواء، رائحة مميزة تقول بأنك قد مررت من هناك.
تخيل، سوف أمشي على الطريق بهدوء مطلق، أتعمد المرور من أمام بيتك، أرفع رأسي نحو النوافذ وأتخيل أنك تقف عند إحداها، أخفض عيني سريعا وأخجل من الفكرة، ينفجر داخلي شعور حار وأضحك. ثم سوف أراك على الطرقات، في زي رمادي أولا، تلتهم شطيرة تمسكها بيد واحدة وتعبث باليد الأخرى بشاشة الهاتف، تتصل بصديق ينتظرك بمقهاك المعتاد. تتفجر الصور لاحقا، تنساب على ذات الطريق من بيتك حتى المقهى مرتديا كل الألوان الممكنة، تتدفق كقطرات المطر التي تجمعت لتصنع واديا عذبا تزهر على ضفتيه زهور الثيفيتيا.
تخيل، بعد أن أقضي عشرين عاما في بيت البحيرة الذي حدثتك عنه، أعود خلسة إلى تونس وإلى أريانة الصغرى، قد أكون أربعينية أو خمسينية يومها، وقد أشبه في ملامحي الوديعة المرأة الجالسة بالقرب مني، وحين أمر من الشارع الرئيسي أرى كل المشاهد صفراء بعيدة وأرى وجهك بكل تقلباته الممتعة كأن آخر عهد لي به قريب جدا، أشاهد طيفك بكثير من الحنين وألوح له، فيبتسم، يبتسم كما ستبتسم الآن. تغمرني سعادة طاغية كالتي تهتز بين جنباتي حاليا وسوف أقول لنفسي عنك أن خيال الرب عظيم جدا.
أنتبه الآن لكم الذكريات التي أحملها داخلي منك وحدك، كلها بلا استثناء جميلة فقط، تشبه عهدا بعيدا لن يحين وقته أبدا لكنني أحيا بإيمان أنه ثابت محقق في موعده الذي لن أبلغه. إنها فكرة سعيدة يملأها الأمل قدر ما يملأني الشغف في هذه اللحظة التي تذكرتك فيها.
مازلت أحدق عبر النافذة بأعين شاردة، لكنني بت أرى كل هذا لا غير وأبتسم للمارين على الطريق المقابلة.
30/07/2019.
06:32 am.
#thank_you 💛
أنت تقرأ
فوضى الأبعاد
Randomحين يرتبط الحاضر بالماضي عبر جسور من كلمات... وحين نسير نحو الشمس بلا خوف... الغلاف من تصميم: جنود التصميم.